
ما جرُؤنا – سعدٌ أنا ولا سعيدٌ أخي – على إثناء جدي دفع الله حين خطا وتقدَّمنا خارجاً وهو يقول : (هيا ..توكَّلنا على الله ) كان بنظراته من التصميم ما لا يقدر أحدٌ ، معه ، على إثناءه فالمسافة حتى مكتب القسم صعبٌ قطعها بالأرجل على فتىً في ريعان الشباب دعك على من يحملُ فوق أكتافه ما يقارب قرناً من الزمان . ثمَّ إنَّ الشمسَ قد رمحت ، الآن ، في صدر السماء فصارت ضُحىً أعلىَ ينقطعُ عنده مرور السيَّارات إلا من عربات الطوب والتراب التى لا تأتي إلا لِمَاماً . ولمَّا كانت حمارة جدي دفع الله في كرب المخاض فلا مناص من أن يمشي أحدُنا – سعدٌ أنا أو سعيدٌ أخي – راجلاً فيركب جدي دفع الله حماره غير أنَّه رفض رفضاً باتاً إلا أن يكون الركوب تناوباً بيننا وكان علينا أن نرضخ فكان حين يترجَّل؛يمشي أمامنا بخطوات فتىً في العشرين.
مشينا صامتين إلا من خواطرنا المشتتة التي ظلَّت تتلاقى وتفترقُ كطيورٍ مذعورة . فكرنا ? ثلاثتنا – كثيراً بالرسالة المفلوجة ؛ بالرِّيلة ومصير الرِّايقة وهل ستتنجب جحشاً أم جحشة .فكِّرنا بالشركة وبعقود البيع والإيجار . فكَّر سعيدٌ أخي بأعضاء الوفد وما جرَّه علينا وجودهم بيننا . فكِّرتُ أنا في جدي دفع الله وفي صمته الذي طال .فكَّر جدي دفع الله في كل تفاتيش القسم ؛ تفتيش تفتيش .ثمُّ فكّر ، بلا حسرةٍ ، بأولاده: عبد الرحمن وعثمان وعبد الله والطيّب.
فكِّر بالرِّيلة وخطيبها حسن ، إبن أخيه ، الذي لا يُدرىَ أين هو . فكِّرنا وفكِّر ثمَّ حين وصلنا مكاتب القسم كانت الشمسُ تزحفُ نحو منتصف السماء ؛ بكاسي ولواري وحمرٌ بلا عددٍ تتكدَّسُ حول المكان.
الكثير من الناس من كل قرى التفاتيش يجلسون تحت ضحضاح أشجار النيم والتمر هندي المنتشرة في الساحة ؛ تطلَّعوا ناحيتنا بدهشةٍ فتجاوزناهم ، دخلنا إلى حيث ينعقد المجلس.
إنتبهنا- سعدٌ أنا وسعيدٌ أخي – إلى الدهشة والإثارة التي أحدثها وجود جدي دفع الله غير المتوقَّع فكان الجميع يتطلَّعون ناحيتنا . سكت المتحدثَّ الذي يعتلي المنصَّة وجدي دفع الله يشقُّ طريقه نحوه والجميع قد سكت ، تذكّرتُ جدي سعد الله وأيضاً ترحّمتُ عليه ؛
قلتُ في سرَّي : (الله يوسِّدك الباردة يا جدي سعد الله ،ما يعرف أقدار الرِّجال إلا الرجال ) أخذ جدي دفع الله عقد مبايعته من يد سعيدٍ أخي وواصل سيره نحو المنصَّة حيث ممثلي الشركة يجلسون . أنتبهنا إلى أنَّ الجالسين على المنصة هم أنفسهم أعضاء الوفد : الضخمُ ذو الأوداج النافرة ، القصيرُ الأجردُ ذو السمت الأنثوي والأبيضُ النحيف ذو اللكنة الغريبة .
أثار ذلك دهشتي التي ما وجدتُ لها صدىً في وجوه الآخرين . الأبيضُ ذو اللكنة الغريبة رحّب بجدي دفع الله قائلاً : (هلا بشيخ دفع الله ! ليش تتعب نفسك يا رجل ؟ بعثنالك بالعقد في بيتك. ليش تتعب نفسك يا رجل ؛ الواجب إحِنَّا نجيلك ) لم ينثني جدي دفع الله ولم يكترث.
واصل سيره حتى وقف أمامهم وفي يده عقد المبايعة . حدَّجهم واحداً واحداً واحد ؛ بذات النظرة القاسية التي حكىَ لي عنها سعيدٌ أخي يوم فراش مأتم جدي سعد الله . حدَّجهم ثمَّ إلتفت لجموع الجالسين وتفرَّسهم دون أن يقول شيئاً.
كانت لحظةً استثنائية وخارج التأريخ عمَّ فيها صمتٌ كأنَّ الأرض تهوي في قرارٍ سحيق . فجأةً ، ووسط دهشة وترقُّب الجميع ، رفع جدي دفع الله عقد المبايعة وقطَّعه مِزقاً ثمَّ إلتفت ناحية المنصَّة وألقىَ به عليهم ثمِّ نزل يمشي بثبات ، كان كأنّ عمره ينقص بكل خطوةٍ ، يخطوها ،عاماً كاملاً. شقَّ الجمع المبهور وكلما خطا خطوةً سرت همهمةٌ من حوله وتصاعدتْ . في الخارج لحق بنا بعضُ الناس يسلِّمون على جدي دفع الله بإمتنان وعرفان . ميِّزتُ من بينهم عمر اللخيدر وعبد الوهاب ود سالم ، وكلاهما كانا عضوين سابقين بالإتحاد.
شققنا طريقنا بصعوبةٍ كي نصل للبوكس الهايلكوس الذي أصرَّ صاحبه أن يُركِب جدي دفع الله معه فيوصله لبيته عرفاناً فكان علىَّ انْ أرافقه وكان على سعيدٍ أخي أن يتدبِّر أمر حماري ، خرج الناسُ في هرجٍ ومرجٍ وضجيج وتشتتوا، عبر اللواري والبكاسي والحمير، في كل الأتجاهات، قرِّر ود اللخيدر أن يطوَّف بجدي دفع الله على قُرى تفاتيش القسم كلها عرفاناً واحتفاءاً بعودته للناسِ يخالطهم. ذُبحت الذبائح ومُدَّت الموائد في كل قريةٍ نزورها . حين عدنا كان الليل قد أنتصفَ وزاد؛ فأصرَّ جدي دفع الله أن أنام بديوانه فلا أزعج ناس بيتنا.
استيقظتْ الرِّيلة وجاءتني بماءٍ في إناءٍ للشرب ثمَّ ماءٍ في إبريق وبالغطاء وانصرفتْ . إنتبهتُ ، فجأةً ، إلى أننا ، من فرط احتشاد اليوم ، لم نتذكَّر الرَّايقة التي تركناها في كرب المخاض . قلتُ لنفسي: في الصبح سنعرف أجحشاً أنجبت أم جحشة. حين كنتُ أتقلِّبُ في الفراش كنتُ أفكِّرُ، سعيداً، في حال جدي دفع الله التي رأيته عليها اليوم ، قلتُ في نفسي : هذا يومٌ طويلُ التِّيلة ، وطربتُ للخاطرة أردِّدها : يومٌ طويلة التِّيلة ؛ مثل هذا اليوم ما أحدٌ رأهُ قريباً ،ثمَّ أيضاً ترحمتُ على جدي سعد الله فقد كان بودي أن أسرَّ له بأنّ قد صدقتْ فالذي رايناهُ اليوم يجوب قرى التفاتيش يحدَّث الناس هو نفسه الذي كان ( يخلف كراعاً بكراع في حضرة مستر جيتسكل ومكي عباس) تقلِّبتُ مع تلك المسرِّات والخواطر النادرات وما لبثتُ إلا قليلاً فدخلتُ ، من الإرهاق ،في نومٍ عميق صحوتُ منه مفزوعاً على أصواتٍ حولي .
قدَّرتُ ،حين استيقظتُ تماماً ، أنَّ الوقتَ هزيعٌ أخيرٌ وأنَّ الفجرَ وشيك .كان من حولي عددٌ كبيرٌ من الناس يفوق العشرة أشخاص ما عرفتُ منهم أحد . في الداخل سمعتُ صوت الرِّيلة ( .. يابا.يابا. في ضيوف في الديوان ) سمعتُ أيضاً جدي دفع الله يقول بحماس : (ضيوف ! هلَّا هلَّا ..حباب الضيوف. هلَّا هلَّا حباب الضيوف) فتذكرتُ أوانَ كانت ناره لا تنطفى وزريبته تنقص كلما جاءهُ ضيوف الهجعة؛ يدخلها هائجاً؛يفقدُ صوابه إذا ما حاول أحدٌ إثنائه؛ فيذبح ما يصادفه: كبشاً ، نعجةً عبور ، شايل ، مرضع ، المهم أن يكرم ضيوفه. جاء جدي في ظلمة الغلس وقد دبَّت فيه حيويةً فارقها زماناً . قلتُ في نفسي: يا لهذا اليوم العجيب يعود بجدي لأيام مجده . يا لهذا اليوم العجيب . هذا حقاً يومٌ طويلُ التِّيلة !! هشَّ جدي وبشَّ وهو يردد كدرويشٍ مجذوب : حباب الضيوف . هلَّا هلَّا . حباب الضيوف .جيئَ بماء الشرب .ثمُّ هشَّ ، ثانيةً ، وبشَّ ؛ لكأنَّ مذراةً بيده تنفضُ ، عنه ، سنوات العمر نفضَها البُتَّاب ؛ نفض عن كاهله غبار السنوات وعاد : دفع الله الفنجري ؛ أخو الأخوان ،غوث اللهفان وملاذ الضيفان ،كما كان يقول جدي سعد الله .تذكِّر ألا شئ في البيت يؤكل . ثمَّ ، بلا مشقة ، تذكِّرالمعزة . سلَّ ، فجأةً ، سكَّينه البالدُقل ثمَّ مشىَ،فتياً مستقيماً ،نحو الزريبة . حاول أحد الضيوف أن يمسكه فزاد ذلك في أوار إندفاعه ، نفض يد الضيفِ كأنَّ مارداً تلبَّسه ثمَّ دخل الزريبة هائجاً . إثنان حاولا أن يمسكا به فزاد ذلك في هياجه؛ كأنه فتىً في العشرين . كانت الرِّيلة تقف وسط الحوش . الرِّسالة كانت تغمغم وتدفع بجسدها خارج الفراش . هياجٌ بالزريبة وعثارٌ وغبارٌ بائنٌ يخالط خيوط الليل المتشابكة.
بعض الضيوف بالزريبة يمسكون بجدي دفع الله . الرِّيلة لا تستطيع أن تتقدَّم إلى أمامٍ نحو أبيها أو تتقهرُ إلى وراءٍ نحو أمها . كنتُ أنا أجري هاهنا وها هناك أُردِّد : يا لطيف .اللهُمَّ أجعله خير… سمعتُ الرِّسالة تغمغم بصريرٍ كصوت الغوغاية : غوغ غوغ غوغ ؛ جريتُ نحوها : على فمها زبدٌ فوَّار وفوق وجهها طيوفٌ وأضواءٌ تشيل وتحط كما البروق. كأنَّ أصواتاً تطرقُ مسامعها من أزمنةٍ أخرى فيهتزُّ لها نصف الجسد غير المشلول:
يُمَّة كيف حالك ؟ يرتجف باقي القلب .هذا صوت عبد الرحمن.
يُمّة البرد .يُمَّة أنا جوعان . يُمَّة العفو . تتداخل أصواتُ عبد الرحمن وعبد الله وعثمان والطيِّب فيرتفعُ الحجاب الحاجزُ يضغطُ على القلب ، وشديداً جداً يضغط ؛ يضغط ثمَّ يهوي سريعاً تاركاً فراغاً حاداً دون الرئتين فيسقطُ الجسدُ صريعاً وسريعاً سريعاً يسكنُ ما تبقَّىَ فيه من حراك . تشهق الريلة حين ترى. تشهق ثمَّ تصرخ : يابا ألحقني . تحاول أن تجري نحو أمها فلا تقدر . ثمَّ ترى الضيوف يضعون قيوداً في يدي أبيها ويأخذونه خارجاً . تحاول أن تلحق به فلا تقدر ؛ كأنها في كابوسٍ يأخذ بأنفاسها . تصرخ : يُمَّة لااا. حُشِرَ، جدي دفع الله ، حشراً في سيِّارةٍ تقف ،تماماً ،أمام الباب ، بداخلها رايتُ ، أيضاً، عمر اللخيدر وعبد الوهاب ود سالم مخفورين . حين استدارت السيَّارة راجعة كشف ضوءها سيارةً ثانيةً تقف غير بعيدٍ ترقب : ميِّزتُ ، بدهشةٍ ، فيها ثلاثة أشخاص أعرفهم : الضخم ذي الأوداج النافرة ، والأجرد ذي السمت الأنثوي والأبيض ذي اللكنة الغريبة . هرولتُ داخل البيت . جسد الرِّسالة على الأرض مُلقىً ، بين الغوغاية والسَّحارة ، وعيناها مستقرِّتان تنظران إلى السقف . أسبلتُهما ومسحتُ عن فمها الزَّبد. وضعتها على السرير وغطِّيتها . في المنتصف كانت الرِّيلة واقفةً كبانةٍ تعصفُ بها الريحُ ونحلها يُدوِّيِّ : دووو دووو . لم يكن في عينيها دمعٌ ولا حزن ، بل بريقُ غُبنٍ مبينٍ ميزِّته والصبحُ يتنفَّس . قلتُ أردُ إليها صوابها من هول ما حدث فهززتها ،هززتها ،هززتها وهي شامخةً ونحلها يدوِّي: دووو . عيناها مثبتتان ، أيضاً ، تنظرُان إلى خيوط الليل والفجر المتشابكة واصواتٌ تتداخل على حواف دويُّ النحل وعزيف الرِّيح :(ريلة يا ريلة .. الله لي من ديل سكنوا الجزيرة ) أهذا صوتُ حسن الغائب زماناً أم صوت سليمان سيِّد الدكان ! وذا؛ أصوتُ جدي دفع الله أم صوتُ الثاكلات يأتي من بعيد : (قطن الرِّيلة تيلة طويلة . حلاة الرِّيلة مافي مثيلا . تلبس بُكرة الشَّف والتيلة )!
كان بيت جدي دفع الله ، حين أصبح الصبحُ ، ممتلئاً بالناس ؛بعضهم يبكون ، بعضهم يجهِّزون الجثمان وبعضهم مذهولون، بعضهم يتساءلون عما حدث . كنتُ وحدي من يجيب ويشرح. إمتلأ حوش البيت بالثاكلات الرادحات : (حي الليلة حي . ووب الليلة ووب) حاولت الرِّيلة أن تدخل حيث ترقد أمها فهجمت عليها النسوة يباكينها فابتعدتْ عنهن ولم تستطع أية إمرأةٍ إليها عناقاً . إبتعدت ودخلتْ الزريبة ووقفت حيث أقتيد أبوها :السخلة ترضعُ المعزةَ-أمها- بنهمٍ وذيلُها لأعلى مرفوع . الحمارة – الرَّايقة – تقف كليمةً ، أيضاً ، وعليها حُزنُ وحُرقةُ حشىَ أم ٍ فقدتْ وليدها، وقفت الرِّيلة بينها وبين جحشها المُلقىَ على الأرض، نظرتْ إلي الجحش ثمَّ إليها؛ كانت أُذناها الطويلتان مسبلتان، كانت تفتحُ فمها وتغلقه كأنها تحاول أن تنهق فلا تقدر ،أخذتْ- الرِّيلة – رأسها ووضعته في حضنها ثمَّ ضغطتْه شديداً على صدرها كأنَّها تعانق عزيزاً في فقدٍ عزيز. كان للريح ، من حولهما ،عزيفٌ عنيف وكان دوِّيُّ النَّحل مُخيفٌ مخيفْ.
محمد عبد الملك
[email protected]