القاهرة، ذهاب فقط

القاهرة، ذهاب فقط
نهى محمد الأمين أحمد
هذه هي المرة الأولى التي أحضر فيها إلى القاهرة بتذكرة ذهاب فقط، فكثيرا ما زرت العاصمة المصرية، في إجازة، أو مهمة عمل، وقد أحببت القاهرة كمدينة تقضي فيها إجازتك، مغرمة أنا بصخبها وضجيجها وازدحامها، أحب ميدان العتبة، الموسكي وباب الشعرية، السيدة زينب والحسين، ووكالة البلح، ودائما ما تحدثت عن أن (الميترو)، هو إنجاز كبير ورائع لمصر، أحب التسوق في القاهرة، وتكونت لدي خبرة تراكمية عن الأسواق التي تبيع سلع ذات جودة عالية بأسعار مناسبة، هذه المرة حضرت بلا تذكرة إياب، بلا موعد للرجوع، حضرت لأمكث إلى أجل غير مسمى، حضرت كفارة بوالدتي وإبني من الحرب، حضرت مرغمة لضيق الخيارات أمامي، بعد أن عانينا ما عانينا من النزوح الداخلي وتجار الأزمات، وتذكرت أول شهر قضيناه في شندي ودفعنا ما يربو على الألفين دولار إيجارا لمنزل بغرفتين، فقد أخرجت الحرب أسوأ ما فينا وظهرنا على حقيقتنا كشعب انتفاعي وطماع، شعاره (جلدا ما جلدك، جر فيهو الشوك)، استهلكنا رقما كبيرا من النقود نظير السكن، وكنا كمن استجار من الرمضاء بالنار، فهربنا من ظلم الجنجويد الذين سرقوا احتلوا، نهبوا وسرقوا منازلنا، لنقع في حبائل نوع آخر من الإنتفاعيين، صراحة لم أستطع بتاتا أن أتصالح من هذا السلوك الشائن من تجار الأزمات، ولم يستوعب عقلي المحدود كيف يمكن لشخص عاقل وسوي ومسلم، أن يستغل ظرف الحرب ليثرى ويكنز الأموال، ولا يرحم إبن جلدته الذي لجأ إليه هاربا من أتونها ينشد المأوى والأمان، وكيف له أن يضمن أن الدائرة لن تدور عليه؟! المؤسف والمبكي في الأمر أن هذا النهج السيء كان عاما، في كل مدن السودان التي لجأ إليها سكان الخرطوم، فشندي، عطبرة، مدني، الدامر وبورتسودان وقفت على حد سواء، نرجع للموضوع الأساسي، بعد ما يربو على السبعة أشهر، رفع الله سبحانه وتعالى القدم وحضرنا إلى القاهرة، وشتان بين البلدين، فالتطور والتقدم في العاصمة المصرية يشرئب جليا للعيان، البنية التحتية، الخدمات، الحياة في منتهى السهولة، يمكنك أن تحصل على كل ما تحتاجه وأنت في مكانك، فخدمة التوصيل متوفرة في كل زمان ومكان، وإذا أحسست بالجوع في الثانية صباحا، عليك فقط أن تطلب ما تشاء بالتلفون ليصلك ساخنا في أقل وقت، المقارنة بالوضع في السودان محبطة للغاية، الكبد والمعاناة الذي نعانيه قي الحصول على أقل متطلبات الحياة، شح الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه، الغلاء الفاحش والارتفاع الجنوني للأسعار، التردي العام الذي طال كل شئ، وللأسف لم يستثنِ أخلاق وسلوك الإنسان السوداني، المصريون يعتقدون أن الدولة طورت البنية التحتية على حساب معايشهم، وأرهقت كاهلهم بهذه المديونيات من البنك الدولي، وأنهم يعانون الأمرين في سبيل الحصول على احتياجاتهم الضرورية، حيث أن تدهور عملتهم الوطنية أدى بالضرورة إلى ارتفاع الأسعار، وهذا صحيح بالتأكيد، من أكثر الأشياء التي ضايقتني أن الحياة في القاهرة تبدأ بعد منتصف النهار، فلا يستيقظ باكرا إلا الطلاب والموظفين، وأنا كائن نهاري، طيلة حياتي اتخذت الليل لباسا والنهار معاشا، وفي القاهرة اليوم مقلوب، ومن الصعب أن تجد سباكا او نجارا في الثامنة صباحا مهما حاولت، ويواصلون نشاطهم حتى ساعات الصباح الأولى، ما لاحظته أنك يجب أن تدفع قصاد أي خدمة مهما كانت بسيطة، حتى إن كانت الخدمة من صميم عمل مقدمها، فهو يتوقع منك أن (تكرمه أو تراضيه)، كما يسمونها، فجميع عمال المطار ينتظرون منك الهبات، صراحة افتقدت الشهامة والمروءة التي تميزنا نحن السودانيين، إكرام الضيف ومساعدة الغريب لوجه الله، الوقوف مع الآخرين وخدمتهم بدون أي مقابل، وقد تناقشت مع أحد المصريين الأسوانيين، وأخبرني أن هذا السلوك بسبب الغلاء وصعوبة مجابهة أعباء الحياة، فالكثيرون يعملون في ثلاث وظائف، ومع ذلك لا يستطيعون توفير متطلبات المعيشة الأساسية لأسرهم، وبالطبع هو مبرر ولكنه غير مقنع لهذا السلوك،، قد يخال القارئ أن هناك تناقضا في استهجاني لسلوك تجار الحرب في بداية المقال وافتقادي لشهامة السودانيين في نهاية المقال، ولكني انتهجت الشفافية في سرد تجربتي الشخصية بكل صدق،، بالرغم من سهولة الحياة في مصر، إلا إنني أريد العودة إلى وطني، إلى الخرطوم، إلى بحري، إلى بيتي، إلى سريري، إلى مرتبتي ومخدتي، أريد استعادة حياتي التي ضاعت بسبب الحرب،،،
Message Body:
القاهرة، ذهاب فقط
نهى محمد الأمين أحمد
هذه هي المرة الأولى التي أحضر فيها إلى القاهرة بتذكرة ذهاب فقط، فكثيرا ما زرت العاصمة المصرية، في إجازة، أو مهمة عمل، وقد أحببت القاهرة كمدينة تقضي فيها إجازتك، مغرمة أنا بصخبها وضجيجها وازدحامها، أحب ميدان العتبة، الموسكي وباب الشعرية، السيدة زينب والحسين، ووكالة البلح، ودائما ما تحدثت عن أن (الميترو)، هو إنجاز كبير ورائع لمصر، أحب التسوق في القاهرة، وتكونت لدي خبرة تراكمية عن الأسواق التي تبيع سلع ذات جودة عالية بأسعار مناسبة،
هذه المرة حضرت بلا تذكرة إياب، بلا موعد للرجوع، حضرت لأمكث إلى أجل غير مسمى، حضرت كفارة بوالدتي وإبني من الحرب، حضرت مرغمة لضيق الخيارات أمامي، بعد أن عانينا ما عانينا من النزوح الداخلي وتجار الأزمات، وتذكرت أول شهر قضيناه في شندي ودفعنا ما يربو على الألفين دولار إيجارا لمنزل بغرفتين، فقد أخرجت الحرب أسوأ ما فينا وظهرنا على حقيقتنا كشعب انتفاعي وطماع، شعاره (جلدا ما جلدك، جر فيهو الشوك)، استهلكنا رقما كبيرا من النقود نظير السكن، وكنا كمن استجار من الرمضاء بالنار، فهربنا من ظلم الجنجويد الذين سرقوا احتلوا، نهبوا وسرقوا منازلنا، لنقع في حبائل نوع آخر من الإنتفاعيين،
صراحة لم أستطع بتاتا أن أتصالح من هذا السلوك الشائن من تجار الأزمات، ولم يستوعب عقلي المحدود كيف يمكن لشخص عاقل وسوي ومسلم، أن يستغل ظرف الحرب ليثرى ويكنز الأموال، ولا يرحم إبن جلدته الذي لجأ إليه هاربا من أتونها ينشد المأوى والأمان، وكيف له أن يضمن أن الدائرة لن تدور عليه؟!
المؤسف والمبكي في الأمر أن هذا النهج السيء كان عاما، في كل مدن السودان التي لجأ إليها سكان الخرطوم، فشندي، عطبرة، مدني، الدامر وبورتسودان وقفت على حد سواء،
نرجع للموضوع الأساسي، بعد ما يربو على السبعة أشهر، رفع الله سبحانه وتعالى القدم وحضرنا إلى القاهرة، وشتان بين البلدين، فالتطور والتقدم في العاصمة المصرية يشرئب جليا للعيان، البنية التحتية، الخدمات، الحياة في منتهى السهولة، يمكنك أن تحصل على كل ما تحتاجه وأنت في مكانك، فخدمة التوصيل متوفرة في كل زمان ومكان، وإذا أحسست بالجوع في الثانية صباحا، عليك فقط أن تطلب ما تشاء بالتلفون ليصلك ساخنا في أقل وقت، المقارنة بالوضع في السودان محبطة للغاية، الكبد والمعاناة الذي نعانيه قي الحصول على أقل متطلبات الحياة، شح الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه، الغلاء الفاحش والارتفاع الجنوني للأسعار، التردي العام الذي طال كل شئ، وللأسف لم يستثنِ أخلاق وسلوك الإنسان السوداني،
المصريون يعتقدون أن الدولة طورت البنية التحتية على حساب معايشهم، وأرهقت كاهلهم بهذه المديونيات من البنك الدولي، وأنهم يعانون الأمرين في سبيل الحصول على احتياجاتهم الضرورية، حيث أن تدهور عملتهم الوطنية أدى بالضرورة إلى ارتفاع الأسعار، وهذا صحيح بالتأكيد،
من أكثر الأشياء التي ضايقتني أن الحياة في القاهرة تبدأ بعد منتصف النهار، فلا يستيقظ باكرا إلا الطلاب والموظفين، وأنا كائن نهاري، طيلة حياتي اتخذت الليل لباسا والنهار معاشا، وفي القاهرة اليوم مقلوب، ومن الصعب أن تجد سباكا او نجارا في الثامنة صباحا مهما حاولت، ويواصلون نشاطهم حتى ساعات الصباح الأولى،
ما لاحظته أنك يجب أن تدفع قصاد أي خدمة مهما كانت بسيطة، حتى إن كانت الخدمة من صميم عمل مقدمها، فهو يتوقع منك أن (تكرمه أو تراضيه)، كما يسمونها، فجميع عمال المطار ينتظرون منك الهبات، صراحة افتقدت الشهامة والمروءة التي تميزنا نحن السودانيين، إكرام الضيف ومساعدة الغريب لوجه الله، الوقوف مع الآخرين وخدمتهم بدون أي مقابل، وقد تناقشت مع أحد المصريين الأسوانيين، وأخبرني أن هذا السلوك بسبب الغلاء وصعوبة مجابهة أعباء الحياة، فالكثيرون يعملون في ثلاث وظائف، ومع ذلك لا يستطيعون توفير متطلبات المعيشة الأساسية لأسرهم، وبالطبع هو مبرر ولكنه غير مقنع لهذا السلوك،،
قد يخال القارئ أن هناك تناقضا في استهجاني لسلوك تجار الحرب في بداية المقال وافتقادي لشهامة السودانيين في نهاية المقال، ولكني انتهجت الشفافية في سرد تجربتي الشخصية بكل صدق،،
بالرغم من سهولة الحياة في مصر، إلا إنني أريد العودة إلى وطني، إلى الخرطوم، إلى بحري، إلى بيتي، إلى سريري، إلى مرتبتي ومخدتي،
أريد استعادة حياتي التي ضاعت بسبب الحرب،،،
بلد تسقي منتوجاتها الزراعية بماء الصرف الصحي بلد الدولار بلغ سعره خمسون جنيها لغاية نوفمبر الحالي بلد قذرة ونسبة التلوث فيها مخيفة وزحمة في شوارعها واهمال في المترو ليتك تتحدثي عنً المدينة المنورة المكة او الدوحة او ابوظبي او دبي
ما تشكري الراكوبة في الخريف
الكاتبة روت تجربة شخصية وتمثلت بمن استجار بالرمضاء بالنار عبر مقال شفيف وغاية في احترافية الكتابة، ولم تشكر الراكوبة في الخريف.