مقالات سياسية
متى ينتعش السيد رئيس الوزراء من غيبوبته ، وينتشل نفسه والشعب السوداني من هذي الهوة السوداء؟

إبراهيم موسي
بعد أن كان السيد عبد الله حمدوك رئيس وزراء السودان منارة الثورة السودانية وجسر العبور من الظلمات إلى النور ، أصبح منذ توقيع على اتفاقه السياسي مع البرهان عبءً ثقيلا على الثورة وأداةً فعالا من الأدوات التي تستخدم سراً وعلانيةً لهزيمة الثورة قتلها إلى الأبد . والأفظع مما أقدم عليه خلف الكواليس ، الحيرة التي زرعها في نفس كل سوداني تواق للحرية والسلام والعدالة في البحث الإجابة المقنعة على سؤالين ظلا يؤرقان الجميع ، ألا وهما “لماذا وقع حمدوك على هذا الاتفاق الكارثي؟،” كيف وافق حمدوك على بنود هذا الاتفاق الكارثي؟” فهذان السؤالان معقدان للغاية ، ولن يستطيع أحد الإجابة عليهما نتيجة لما يكتنفان من غموض . ورغم ذلك ، تداولت الوسائط الاجتماعية ووسائل الإعلام المختلفة إجابات متضاربة ومتعددة تعادل إجمالي اعدد لرافضين والمرحبين بالاتفاق معا ، أي ما يعادل عدد سكان السودان في سياق آخر .
فعلى سبيل المثال وليس للحصر ، انقسمت القوى الثورية الحية الرافضة للاتفاق إلى فريقين ، أحدهما يصف السيد رئيس الوزراء بالخائن الذي طعن الثورة من الخلف دون أقل مراعاة للدماء التي أريقت من أجلها ، بينما يكف عن ذلك فريق آخر ويصوب كل سهامه على المكون العسكري وحلفائه. وفي ذات الوقت ، يرى بعض المراقبين والمحللين أن السيد رئيس الوزراء وقع على الاتفاق السياسي تحت ضغوط خارجية ، بينما يقلل ذلك البعض الآخر ويعتقد أن السيد رئيس الوزراء وقع في فخ خدعة حبكتها بعض القيادات الحزبية التي سوقت له الاتفاق لمصالح شخصية ، ولاذت بالفرار عندما بدأت مراسم التوقيع خوفا من الظهور على شاشات الإعلام المرئي . ويعضض هذا الزعم عدم ظهور هذه القيادات للجمهور كمهندسي هذا الاتفاق إلّا بعد أن فضحهم مني مناوي رئيس حركة جيش تحرير السودان في بعض وسائل.
وبعدئذ ، بدأ يرتاد برمة ناصر ، رئيس حزب الأمة القومي وسائل الإعلام مرارا وتكرارا مدافعا عن تبنيه لهذا الاتفاق بمعية آخرين لتفادي تشظي السودان والانزلاق في مهاوي الحرب الأهلية . والغريب في الأمر ، أن قواعد حزب الأمة الجماهيرية وبقية قيادات الحزب ترفض الاتفاق جملة وتفصيلا وتدعوا للتصعيد في ذات الوقت . وبظهور مهندسي الاتفاق علنا ، تشعبت الأسئلة التي وردت سابقا وازدادت إجاباتها غموضا ، وازداد فضول السواد الأعظم من الشعب السوداني لمعرفة ملابسات ما جرى خلف الكواليس قبيل إعداد الاتفاق ومراسم التوقيع . فبالتالي بدأ الناي يتساءلون عن سبب تبني برمة وأعوانه هذا الاتفاق الضار بالسودان أرضا وشعبا . هل استفزت دولارات الذهب السائبة برمة ناصر وأعوانه ، أم وعدوا بمناصب مرموقة نظير تبنيهم لهذا الاتفاق الكارثي، أم كانت هناك معادلات أخرى لم يفصح عنها ؟ أسئلة إجاباتها أعقد من الكوارث الأمنية والسياسية والاقتصادية التي خلفها هذا الاتفاق السياسي المشؤوم.
أما الأسئلة الخاصة بالسيد رئيس الوزراء والتي طرحت في الفقرة الأولى ، كانت إجاباتها على لسان سيادته مثيرة للدهشة ، والسخرية ، والاستغراب ، والاشمئزاز . في أول ظهور له على وسائل الإعلام بعيد مراسم التوقيع على الاتفاق السياسي ، أدلى السيد رئيس الوزراء بثلاثة أسباب رئيسية دفعته للتوقيع على الاتفاق السياسي . فعلى مقدمة الأسباب التي دفعت سيادته للتوقيع على الاتفاق يأتي حرصه على حقن دماء السودانيين . ويليه حرص سيادته على المحافظة على المكتسبات الاقتصادية والدبلوماسية التي تحققت خلال العامين الماضيين . ويأتي في خاتمة الأسباب حرص سيادته على قطع الطريق أمام فلول النظام البائد من السيطرة على مقاليد الدولة . مزاعم كلها فطيرة، لا يمكن تسويقها حتى للأطفال القصر ، ناهيك عن تسويقها للديسمبريين الأحرار الذين أطاحوا بنظام البشير المتعطش للدماء بصدور عارية.
وأقوى دليل على هشاشة اتفاقه وفشل تسويق مزاعمه ، استمرار المظاهرات المناوئة للاتفاق في معظم مدن السودان الكبرى . هذا فضلا عن فشل سيادته الذريع في اقناع وشق لجان المقاومة عن القوى الثورية الأخرى استنادا على خطط واستراتيجيات المرتزقة الذين سوقوا له كهذي البضاعة الخاسرة . ليس هذا فحسب ، بل فشل سيادته في حماية الثوار الأبرياء من عنف المليشيات والاعتقالات التعسفية ، والتعذيب الجسدي والنفسي رغم التوجيهات التي يصدرها مرارا وتكرارا يشدد فيها على حماية المتظاهرين واحترام حقوقهم في التظاهر السلمي . والسبب، لأن سيادته في نفسه ليس له حماية ، فكيف يحمي غيره؟ والأدهى والأمر من ذلك ، لم يخاطب سيادته الشعب مبشرا بمزاعم اتفاقه التي أدلى بها في وسائل الإعلام . بل ظل يتفادى الخروج إلى المتظاهرين وإقناعهم بحكمته السحرية التي تؤمن الانتقال الديمقراطي والحكم المدني المنشودين.
والأخطر مما سلف الذكر ، بدأت دماء الأبرياء تسيل في إقليمي دارفور وكردفان الكبريين أكثر من الدماء التي كانت تسيل قبل التوقيع على اتفاق حقن دماء السودانيين. وهذا فضلا عن احتلال فلول النظام البائد معاقد في مجلس السيادة ووزارة العدل وبنك السودان المركزي وهيئة المخابرات وغيرها من دواوين الدولة الحساسة . وبل فشل سيادة رئيس الوزراء في اختيار أعضاء حكومة الكفاءات التي توارى خلفها الانقلاب ، لأن كل الأكفاء عادة شرفاء ، وليس هناك شريف يرمي بنفسه في مثل هذا الوضع الكارثي. ونظرا لاستفحال الفشل وكساد بضاعة الاتفاق السياسي من جانب ، وضغوط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الرامية إلى الرجوع للوثيقة الدستورية لعام ٢٠١٩ ، والمعدلة ٢٠٢٠ من جانب آخر، بدأ سيادة رئيس الوزراء يتخبط يمينا وشمالا . فتارة يحاول إيجاد حاضنة سياسية زائفة يستطيع من خلالها تكوين حكومة الكفاءات المزعومة ، وتارة أخرى يصرح برهن استمراره في المنصب بالتوافق السياسي.
أي حاضنة سياسية يبحث عنها سيادة الرئيس ، بعد أن قفز من الحاضنة السياسية التي تضم ٩٥٪ من الشعب السوداني ؟ تلك الحاضنة التي أتت به رئيسا للوزراء ، وظلت تحبه وتعشقه بإفراط وإدمان متلازمين حتى بعد أن طعنهم من الخلف ، وباع دماء شهدائهم وجرحاهم ببخس المزاعم ليتوارى خلف القتلة ومدمني الارتزاق . أي توافق سياسي يبحث عنه يا سيادة الرئيس ، بعد أن قفز من توافق سياسي يجمع ٩٥٪ من الشعب السوداني؟ ذلك التوافق السياسي الذي ظل يرفع اسمه نبراسا لثورة ديسمبر المجيدة ، وكاد أن يجعل من صورته علما للسودان الجديد . يا حسرة على ما فرط سيادة رئيس الوزراء في جنب حاضنته السياسية الأصيلة وبات من الخاسرين . فصال سيادته صولة فيمن يليه، وصال الثوار صولة فيمن يليهم ، فآب بالمرتزقة المأجورين خائفين ومرجفين ، وآب الثوار بكل الشعب من كل ربوع السودان متظاهرين . وبعدئذ أحيط بثمر جنة سيادته التي بناها مع الخاسرين، فأصبح يقلب كفيه على سوء زرعه وصار من النادمين.
والجدير بالذكر هنا ، رد السيد رئيس الوزراء في مقابلة مع قناة الجزيرة ، حينما سئل عن العواقب التي ترتبت على شعبيته وقاعدته الجماهيرية اللتين بالفعل بدأتا تقرعان ناقوس الخطر من جراء توقيعه على هذا الاتفاق السياسي. فجاء رد سيادته بكامل إرادته وقواه العقلية إنه لا يريد شعبية ولا يكترث على فقدانها . ونسي سيادته وقتذاك أن الشعبية والقاعدة الجماهيرية هما ركيزتا الحاضنة السياسية والتوافق السياسي اللذان ظلا يعطلان تكوين حكومة كفاءاته المزعومة. ربما بنى سيادته قصوره على الرمال مرتكزا على الحاضنة السياسية التي وعدت بها ثلة اعتصام القصر التي لفظتها حتى معظم أعضاء كياناتها السياسية منها والمسلحة، ناهيك عن بقية أبناء وبنات الشعب التي كفرت بكل من سولت له نفسه وبات يشرعن ويبيض وجه الانقلاب الكالح بالمستحضرات المسرطنة التي تم تركيبها في معامل التآمر والخيانة والمصالح الشخصية الرخيصة. لقد غلبت سيادته شهوته وأضلته السبيل ، وقادته إلى بئس المصير .
فهلا ينتعش سيادة رئيس الوزراء من غيبوبته ، ويصطلح مع حاضنته السياسية الحقيقية ، ويبتعد عن الحاضنة السياسية الزائفة التي طردت من رحمة ربها لبئس ما فعلت ، قبل أن توصد أبواب التوبة أمامه؟ وإلّا ولسوف يجسو نادما ويقول “يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا”. على سيادة الرئيس التمعن في نداء الترغيب والترهيب هذا ومراجعة حساباته قبل فوات الأوان . وهذا ما ذهب إليه عثمان الميرغني، رئيس تحرير صحيفة “التيار” السودانية” منوها، “إذا كان حمدوك يريد الآن، بعدما أدرك خطأ حساباته بشأن «الاتفاق السياسي» الذي رفضه الشارع بقوة ، العودة إلى حاضنته السياسية وترميم الجسور معها ، فالأولى ألا تغلق قوى الثورة الباب أمامه . وكلامه أمس ، عن أنه كي يستمر في رئاسة الحكومة لا بد أن يجد دعم القوى السياسية ، رسالة واضحة في هذا المعنى.” حجة الميرغني التي تدعم هذا النداء ، أن فقدان حمدوك كرئيس للوزراء يخدم المكون العسكري ويضر الثورة ضرا بالغا مشيرا “لكفاءته وقدرته على معالجة الملف الاقتصادي، وللرصيد الذي يتمتع به في الغرب الداعم للسودان.”
وبقدر ما تحتاج القوى الثورية الحية لقيادته ، تحتاج حمدوك لهذه القوى التي قفز لكسر عزلته وتمكين قدراته في تكوين حكومة الكفاءات التي ينشدها . إذ يواجه سيادته كما عثمان الميرغني “مشكلة في تشكيل حكومة من الكفاءات المستقلة بسبب «عقدة» قادة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية جوبا للسلام . ذلك أن جبريل إبراهيم ، زعيم حركة العدل والمساواة ، لا يريد الاستقالة ويتمسك بمنصبه وزيراً للمالية ، بل كان يطمح أن يصبح رئيساً للوزراء بعد دعمه للانقلاب. وليس سراً أن العلاقات بينه وبين حمدوك ليست على ما يرام ، إذ كان الرجل وهو عضو في الحكومة ، يغرد خارج سربها وينتقدها ، ويبدو غير متقبل لتنفيذ سياسات رئيس الوزراء ، وبالتالي كان عامل عرقلة في مفصل أساسي ، وهو الملف الاقتصادي .” لأن السيد رئيس أخطأ خطأ جسيما ووضع نفسه بين مطرقة القوي الثورية وسندا الحركات المسلحة والمكون العسكري وأصبح بين خيارين أحلاهما مر .
ومن هذا المنطلق يجب أن تتوحد القوى الثورية وتفتح الباب على مصراعيه لحمدوك حتى يتمكن من الرجوع إلى قاعدته الجماهيرية وينقذ السودان من التشظي والانزلاق إلى أتون الحرب الأهلية التي في الأصل ظلت مشتعلة في دارفور وكردفان الكبريين ، وبدأت تدب إلى المركز رويدا رويدا. وبنفس القدر ، على السيد رئيس الوزراء أن يعي الدرس وينتشل شخصه بمكانته المرموقة من أحضان أمراء الحرب وذوي المصالح الشخصية الرخيصة الذين انقطعت أوصالهم من شرف وكرامة السودان وشعبه. فليسأل نفسه سيادته قبل أن يسأل، أي خير ينتظر سيادته من برمة ناصر ، أول سن فكرة المليشيات التي تسببت في فصل جنوب السودان عن شماله، وامتدت ويلاتها إلى كردفان ودارفور وقتلت الملايين وشردت أضعاف ما قتلت؟ أي خير ينتظر سيادته من مني مناوي وجبريل إبراهيم اللذين تسببا ولا زالا يتسببان في قتل وسحل وتشريد أهالي دارفور وتصالحا مع عدو الأمس نظير مصالح شخصية ضيقة ورخيصة لتكتمل دوائر التآمر والارتزاق لمزيد من قتل وتشريد الأبرياء؟ أما الخير الذي ينتظره سيادته من مالك عقار ، فأمر جلل . ما بالك في رجل باع رفيق دربه ياسر عرمان على مر العصور ببخس الثمن ، ويتركه في السجن يمتطي مقعدا في السيادة برئاسة السجان ؟ أما ياسر عرمان في ذاته هو الآخر لا ينتظر منه خيرا ، لأنه من ذات المعدن الرخيص . وبخصوص البرهان ومعاونيه ، يعرفهم سيادته أكثر من غير فليصفهم بنفسه.
ففي أحضان هؤلاء ، فليدرك السيد رئيس الوزراء بطلان المزاعم التي دفعته إلى توقيع الاتفاق السياسي الكارثي . أن كان سيادته حريصا على حقن دماء السودانيين، فإن ثمرة اتفاقه تبشر بمزيد من الاقتتال وإراقة الدماء ، لأن من هندسوا له الاتفاق أبعد الناس حرصا على حقن دماء السودانيين. وإن كان سيادته حريصا على المكاسب التي تحققت خلال العامين الماضيين ، فإن الديون والعقوبات الاقتصادية سترجع كما كانت من قبل. ولن يأتي دعم مالي أمريكي أو أوروبي إلى السودان حتى يستقيم الميسم . أما إذا كان سيادته حريصا على قطع الطريق أمام فلول النظام البائد، فهم دب دبيبهم في أهم مفاصل الدولة بكل عنفوان منذ يوم الانقلاب المشؤوم . بعد سيطرة هؤلاء على بنك السودان المركزي ورئاسة القضاء والشرطة والأمن ومفوضية الانتخابات والمحكمة الدستورية العليا ووزارة المالية، فإن سيادته ليس سوى موظف يحركه الانقلابيون بقيد أنملة. إذا متى يفيق سيادته من غيبوبته وينتشل نفسه والشعب السوداني من هذي الهوة السوداء؟.
فعلى سبيل المثال وليس للحصر ، انقسمت القوى الثورية الحية الرافضة للاتفاق إلى فريقين ، أحدهما يصف السيد رئيس الوزراء بالخائن الذي طعن الثورة من الخلف دون أقل مراعاة للدماء التي أريقت من أجلها ، بينما يكف عن ذلك فريق آخر ويصوب كل سهامه على المكون العسكري وحلفائه. وفي ذات الوقت ، يرى بعض المراقبين والمحللين أن السيد رئيس الوزراء وقع على الاتفاق السياسي تحت ضغوط خارجية ، بينما يقلل ذلك البعض الآخر ويعتقد أن السيد رئيس الوزراء وقع في فخ خدعة حبكتها بعض القيادات الحزبية التي سوقت له الاتفاق لمصالح شخصية ، ولاذت بالفرار عندما بدأت مراسم التوقيع خوفا من الظهور على شاشات الإعلام المرئي . ويعضض هذا الزعم عدم ظهور هذه القيادات للجمهور كمهندسي هذا الاتفاق إلّا بعد أن فضحهم مني مناوي رئيس حركة جيش تحرير السودان في بعض وسائل.
وبعدئذ ، بدأ يرتاد برمة ناصر ، رئيس حزب الأمة القومي وسائل الإعلام مرارا وتكرارا مدافعا عن تبنيه لهذا الاتفاق بمعية آخرين لتفادي تشظي السودان والانزلاق في مهاوي الحرب الأهلية . والغريب في الأمر ، أن قواعد حزب الأمة الجماهيرية وبقية قيادات الحزب ترفض الاتفاق جملة وتفصيلا وتدعوا للتصعيد في ذات الوقت . وبظهور مهندسي الاتفاق علنا ، تشعبت الأسئلة التي وردت سابقا وازدادت إجاباتها غموضا ، وازداد فضول السواد الأعظم من الشعب السوداني لمعرفة ملابسات ما جرى خلف الكواليس قبيل إعداد الاتفاق ومراسم التوقيع . فبالتالي بدأ الناي يتساءلون عن سبب تبني برمة وأعوانه هذا الاتفاق الضار بالسودان أرضا وشعبا . هل استفزت دولارات الذهب السائبة برمة ناصر وأعوانه ، أم وعدوا بمناصب مرموقة نظير تبنيهم لهذا الاتفاق الكارثي، أم كانت هناك معادلات أخرى لم يفصح عنها ؟ أسئلة إجاباتها أعقد من الكوارث الأمنية والسياسية والاقتصادية التي خلفها هذا الاتفاق السياسي المشؤوم.
أما الأسئلة الخاصة بالسيد رئيس الوزراء والتي طرحت في الفقرة الأولى ، كانت إجاباتها على لسان سيادته مثيرة للدهشة ، والسخرية ، والاستغراب ، والاشمئزاز . في أول ظهور له على وسائل الإعلام بعيد مراسم التوقيع على الاتفاق السياسي ، أدلى السيد رئيس الوزراء بثلاثة أسباب رئيسية دفعته للتوقيع على الاتفاق السياسي . فعلى مقدمة الأسباب التي دفعت سيادته للتوقيع على الاتفاق يأتي حرصه على حقن دماء السودانيين . ويليه حرص سيادته على المحافظة على المكتسبات الاقتصادية والدبلوماسية التي تحققت خلال العامين الماضيين . ويأتي في خاتمة الأسباب حرص سيادته على قطع الطريق أمام فلول النظام البائد من السيطرة على مقاليد الدولة . مزاعم كلها فطيرة، لا يمكن تسويقها حتى للأطفال القصر ، ناهيك عن تسويقها للديسمبريين الأحرار الذين أطاحوا بنظام البشير المتعطش للدماء بصدور عارية.
وأقوى دليل على هشاشة اتفاقه وفشل تسويق مزاعمه ، استمرار المظاهرات المناوئة للاتفاق في معظم مدن السودان الكبرى . هذا فضلا عن فشل سيادته الذريع في اقناع وشق لجان المقاومة عن القوى الثورية الأخرى استنادا على خطط واستراتيجيات المرتزقة الذين سوقوا له كهذي البضاعة الخاسرة . ليس هذا فحسب ، بل فشل سيادته في حماية الثوار الأبرياء من عنف المليشيات والاعتقالات التعسفية ، والتعذيب الجسدي والنفسي رغم التوجيهات التي يصدرها مرارا وتكرارا يشدد فيها على حماية المتظاهرين واحترام حقوقهم في التظاهر السلمي . والسبب، لأن سيادته في نفسه ليس له حماية ، فكيف يحمي غيره؟ والأدهى والأمر من ذلك ، لم يخاطب سيادته الشعب مبشرا بمزاعم اتفاقه التي أدلى بها في وسائل الإعلام . بل ظل يتفادى الخروج إلى المتظاهرين وإقناعهم بحكمته السحرية التي تؤمن الانتقال الديمقراطي والحكم المدني المنشودين.
والأخطر مما سلف الذكر ، بدأت دماء الأبرياء تسيل في إقليمي دارفور وكردفان الكبريين أكثر من الدماء التي كانت تسيل قبل التوقيع على اتفاق حقن دماء السودانيين. وهذا فضلا عن احتلال فلول النظام البائد معاقد في مجلس السيادة ووزارة العدل وبنك السودان المركزي وهيئة المخابرات وغيرها من دواوين الدولة الحساسة . وبل فشل سيادة رئيس الوزراء في اختيار أعضاء حكومة الكفاءات التي توارى خلفها الانقلاب ، لأن كل الأكفاء عادة شرفاء ، وليس هناك شريف يرمي بنفسه في مثل هذا الوضع الكارثي. ونظرا لاستفحال الفشل وكساد بضاعة الاتفاق السياسي من جانب ، وضغوط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الرامية إلى الرجوع للوثيقة الدستورية لعام ٢٠١٩ ، والمعدلة ٢٠٢٠ من جانب آخر، بدأ سيادة رئيس الوزراء يتخبط يمينا وشمالا . فتارة يحاول إيجاد حاضنة سياسية زائفة يستطيع من خلالها تكوين حكومة الكفاءات المزعومة ، وتارة أخرى يصرح برهن استمراره في المنصب بالتوافق السياسي.
أي حاضنة سياسية يبحث عنها سيادة الرئيس ، بعد أن قفز من الحاضنة السياسية التي تضم ٩٥٪ من الشعب السوداني ؟ تلك الحاضنة التي أتت به رئيسا للوزراء ، وظلت تحبه وتعشقه بإفراط وإدمان متلازمين حتى بعد أن طعنهم من الخلف ، وباع دماء شهدائهم وجرحاهم ببخس المزاعم ليتوارى خلف القتلة ومدمني الارتزاق . أي توافق سياسي يبحث عنه يا سيادة الرئيس ، بعد أن قفز من توافق سياسي يجمع ٩٥٪ من الشعب السوداني؟ ذلك التوافق السياسي الذي ظل يرفع اسمه نبراسا لثورة ديسمبر المجيدة ، وكاد أن يجعل من صورته علما للسودان الجديد . يا حسرة على ما فرط سيادة رئيس الوزراء في جنب حاضنته السياسية الأصيلة وبات من الخاسرين . فصال سيادته صولة فيمن يليه، وصال الثوار صولة فيمن يليهم ، فآب بالمرتزقة المأجورين خائفين ومرجفين ، وآب الثوار بكل الشعب من كل ربوع السودان متظاهرين . وبعدئذ أحيط بثمر جنة سيادته التي بناها مع الخاسرين، فأصبح يقلب كفيه على سوء زرعه وصار من النادمين.
والجدير بالذكر هنا ، رد السيد رئيس الوزراء في مقابلة مع قناة الجزيرة ، حينما سئل عن العواقب التي ترتبت على شعبيته وقاعدته الجماهيرية اللتين بالفعل بدأتا تقرعان ناقوس الخطر من جراء توقيعه على هذا الاتفاق السياسي. فجاء رد سيادته بكامل إرادته وقواه العقلية إنه لا يريد شعبية ولا يكترث على فقدانها . ونسي سيادته وقتذاك أن الشعبية والقاعدة الجماهيرية هما ركيزتا الحاضنة السياسية والتوافق السياسي اللذان ظلا يعطلان تكوين حكومة كفاءاته المزعومة. ربما بنى سيادته قصوره على الرمال مرتكزا على الحاضنة السياسية التي وعدت بها ثلة اعتصام القصر التي لفظتها حتى معظم أعضاء كياناتها السياسية منها والمسلحة، ناهيك عن بقية أبناء وبنات الشعب التي كفرت بكل من سولت له نفسه وبات يشرعن ويبيض وجه الانقلاب الكالح بالمستحضرات المسرطنة التي تم تركيبها في معامل التآمر والخيانة والمصالح الشخصية الرخيصة. لقد غلبت سيادته شهوته وأضلته السبيل ، وقادته إلى بئس المصير .
فهلا ينتعش سيادة رئيس الوزراء من غيبوبته ، ويصطلح مع حاضنته السياسية الحقيقية ، ويبتعد عن الحاضنة السياسية الزائفة التي طردت من رحمة ربها لبئس ما فعلت ، قبل أن توصد أبواب التوبة أمامه؟ وإلّا ولسوف يجسو نادما ويقول “يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا”. على سيادة الرئيس التمعن في نداء الترغيب والترهيب هذا ومراجعة حساباته قبل فوات الأوان . وهذا ما ذهب إليه عثمان الميرغني، رئيس تحرير صحيفة “التيار” السودانية” منوها، “إذا كان حمدوك يريد الآن، بعدما أدرك خطأ حساباته بشأن «الاتفاق السياسي» الذي رفضه الشارع بقوة ، العودة إلى حاضنته السياسية وترميم الجسور معها ، فالأولى ألا تغلق قوى الثورة الباب أمامه . وكلامه أمس ، عن أنه كي يستمر في رئاسة الحكومة لا بد أن يجد دعم القوى السياسية ، رسالة واضحة في هذا المعنى.” حجة الميرغني التي تدعم هذا النداء ، أن فقدان حمدوك كرئيس للوزراء يخدم المكون العسكري ويضر الثورة ضرا بالغا مشيرا “لكفاءته وقدرته على معالجة الملف الاقتصادي، وللرصيد الذي يتمتع به في الغرب الداعم للسودان.”
وبقدر ما تحتاج القوى الثورية الحية لقيادته ، تحتاج حمدوك لهذه القوى التي قفز لكسر عزلته وتمكين قدراته في تكوين حكومة الكفاءات التي ينشدها . إذ يواجه سيادته كما عثمان الميرغني “مشكلة في تشكيل حكومة من الكفاءات المستقلة بسبب «عقدة» قادة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية جوبا للسلام . ذلك أن جبريل إبراهيم ، زعيم حركة العدل والمساواة ، لا يريد الاستقالة ويتمسك بمنصبه وزيراً للمالية ، بل كان يطمح أن يصبح رئيساً للوزراء بعد دعمه للانقلاب. وليس سراً أن العلاقات بينه وبين حمدوك ليست على ما يرام ، إذ كان الرجل وهو عضو في الحكومة ، يغرد خارج سربها وينتقدها ، ويبدو غير متقبل لتنفيذ سياسات رئيس الوزراء ، وبالتالي كان عامل عرقلة في مفصل أساسي ، وهو الملف الاقتصادي .” لأن السيد رئيس أخطأ خطأ جسيما ووضع نفسه بين مطرقة القوي الثورية وسندا الحركات المسلحة والمكون العسكري وأصبح بين خيارين أحلاهما مر .
ومن هذا المنطلق يجب أن تتوحد القوى الثورية وتفتح الباب على مصراعيه لحمدوك حتى يتمكن من الرجوع إلى قاعدته الجماهيرية وينقذ السودان من التشظي والانزلاق إلى أتون الحرب الأهلية التي في الأصل ظلت مشتعلة في دارفور وكردفان الكبريين ، وبدأت تدب إلى المركز رويدا رويدا. وبنفس القدر ، على السيد رئيس الوزراء أن يعي الدرس وينتشل شخصه بمكانته المرموقة من أحضان أمراء الحرب وذوي المصالح الشخصية الرخيصة الذين انقطعت أوصالهم من شرف وكرامة السودان وشعبه. فليسأل نفسه سيادته قبل أن يسأل، أي خير ينتظر سيادته من برمة ناصر ، أول سن فكرة المليشيات التي تسببت في فصل جنوب السودان عن شماله، وامتدت ويلاتها إلى كردفان ودارفور وقتلت الملايين وشردت أضعاف ما قتلت؟ أي خير ينتظر سيادته من مني مناوي وجبريل إبراهيم اللذين تسببا ولا زالا يتسببان في قتل وسحل وتشريد أهالي دارفور وتصالحا مع عدو الأمس نظير مصالح شخصية ضيقة ورخيصة لتكتمل دوائر التآمر والارتزاق لمزيد من قتل وتشريد الأبرياء؟ أما الخير الذي ينتظره سيادته من مالك عقار ، فأمر جلل . ما بالك في رجل باع رفيق دربه ياسر عرمان على مر العصور ببخس الثمن ، ويتركه في السجن يمتطي مقعدا في السيادة برئاسة السجان ؟ أما ياسر عرمان في ذاته هو الآخر لا ينتظر منه خيرا ، لأنه من ذات المعدن الرخيص . وبخصوص البرهان ومعاونيه ، يعرفهم سيادته أكثر من غير فليصفهم بنفسه.
ففي أحضان هؤلاء ، فليدرك السيد رئيس الوزراء بطلان المزاعم التي دفعته إلى توقيع الاتفاق السياسي الكارثي . أن كان سيادته حريصا على حقن دماء السودانيين، فإن ثمرة اتفاقه تبشر بمزيد من الاقتتال وإراقة الدماء ، لأن من هندسوا له الاتفاق أبعد الناس حرصا على حقن دماء السودانيين. وإن كان سيادته حريصا على المكاسب التي تحققت خلال العامين الماضيين ، فإن الديون والعقوبات الاقتصادية سترجع كما كانت من قبل. ولن يأتي دعم مالي أمريكي أو أوروبي إلى السودان حتى يستقيم الميسم . أما إذا كان سيادته حريصا على قطع الطريق أمام فلول النظام البائد، فهم دب دبيبهم في أهم مفاصل الدولة بكل عنفوان منذ يوم الانقلاب المشؤوم . بعد سيطرة هؤلاء على بنك السودان المركزي ورئاسة القضاء والشرطة والأمن ومفوضية الانتخابات والمحكمة الدستورية العليا ووزارة المالية، فإن سيادته ليس سوى موظف يحركه الانقلابيون بقيد أنملة. إذا متى يفيق سيادته من غيبوبته وينتشل نفسه والشعب السوداني من هذي الهوة السوداء؟.
حمدوك لديه فرصة وعليه انتهازها … وذلك في حالة تمسك موقعو سلام جوبا بالمناصب التي يستوزرها … عليه تقديم استقالته للشعب وأنه غير قادر على تشكيل حكومة تكنوقراط بسبب تمسك الجماعة بمناصبهم. وفي حالة تمكن حمدون م تشكيل حكومة كفاءات عليه إبقاء وزارة المالية تحت ولايته ولايتها لأي احد…
حمدوك اضاع الفرصة واصبح عدو الشعب الاول حتي ولو اتانا بالمن والسلوي. حمدوك الني الشارع حي.