(جُرحُ الأحِبة عندي غيرَ ذِي ألمِ)..!

الغارات نمط من أنماط الصراع التي تتجلى فيها خصوصية التجربة الصوفية، لأن الغارات بين الأولياء بعض أحوالهم، التي لا تُقيَّد أو تُحاط بالتدوين، فتظل فى الغالب أسراراً متشافهة دون تفصيل.. في هذا المعنى قال شوقي:
(ريمٌ على القاعِ بين البانَ والعلم ** أحلَّ سفك دمي في الأشهُرِ الحُرُمِ ** رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً ** يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجِمِ ** لما رنا حدثتني النفس قائلة ** يا ويحَ جنبِك بالسّهم المصيب رُمِي ** جحدتُها وكتمتُ السَّهمَ في كبِدِي **جُرحُ الأحِبة عندي غيرَ ذِي ألمِ)
تحمل الغارة معنى تحرك النفس بإحساس لا يُلام عليه صاحب تلك النفس الزكية ? الولي ? ، لأن ذلك الإحساس ما هو إلا غيرة في طلب الحق، بهذا المعنى تكون الغارة مدحاً لا إدانةً باعتداء، وقد مدح ود ضيف الله الشيخ باسبار السكري بأنه (كان غيوراً)، يعطب من تجاوز حدّه.
والغارة تعني في ما تعني منازلة الخصم حتى إزهاق روحه، كما جاء في خبر الشيخ إسماعيل صاحب الربابة، الذي قُتل في إحدى غارات الشُّلك على تقلي، أو كما جاء في تدوين ود ضيف الله، أنه قضي (حين غار عليهم شُلُكْ)، في معنى أنه قتل حِسي في سياق غلواء التنازُع القبلي.
إن المعنى القبلي المتضمن في العبارة: (حين غار عليهم شُلُكْ)، تجده يندغم في أغلب وقائع الغارات المدونة في الطبقات والمحكية عن ذلك العهد، وهذا أمر طبيعي يفضح نزوع القبيلة نحو الدفاع عن كيانها أمام زحف (الدولة)، الآخِذ في التنامي على حساب أيديولوجيا العِرق.
غير أن الغارة بطابعها الغيبي ــ الميتافيزيقي ــ تقع بين أولياء التصوف ذوي القدسية، دون قصد التنكيل أو الانتقام أو طلب التشفي والانتصار، إنها أشبه بتدافع المناكب على العتبات المقدسة، أو الفناء تحت أرجل الطائفين.
ومع ذلك فهي خطر يتقيه الأفذاذ بالتأدب في حضرة أهل (السِّرْ)، خشية أن تتحرك نفوسهم بالمحق.. هذا التأدُب هو حظ العارفين من أهل الله، وشأن العالمين من الفقهاء، كالإمام الشافعي الذي اشتهر بتأدبه مع نده أبي حنيفة النعمان.. وممّا يروى عن عمق العلاقة بين الرجلين، أن الإمام الشافعي أسدل في الصلاة حين دخل دار أبي حنيفة وقد كان الثابت عنده القبض.. قال الشافعي، إنه أسدل التزاماً بأدب الرجل في بلده.
سبب الغارة إجمالاً ينبع من هذه الدنيا، فهي حمّالة أوجه.. سببها يأتي من زواية النظر للأكوان، من اختلاف فهم وتفسير الواقع والنص.. إلخ.. قد تقع الغارة دون أسباب محسوسة، وبين أولياء لا يربطهم عصر واحد.. قد تكون الغارة في رؤيا، يأخذ فيها الولي هيئة موتيفيا تاريخية، كأن يُرى الولي في هيئة أسد أو ثور أو تمساح، أو أي رمز تاريخي مقدس يُطل به من زمان غابر على ولي معاصر.
وقد تُستخدم في الغارة أسلحة معروفة للناس، وأخرى غير محسوسة، كأن يُقتل الولي بمجرد وقوع عين المغير عليه، أو (يُسلب) بمثوله أمام المُغير.. وفي قصة الشيخ دفع الله ود أبو إدريس، والشيخ مدني بن دشين صورة من هذا.. فقد قال الشيخ مدني حين رآه: (الرجال تلد البحور).. فكان أن مات الشيخ دفع الله، وبكاه أبوه وهو يقول، إن ابن دشين قتل ابن!.. أنظر الطبقات، ص (239).
ورغم خصوصية الغارة كفعل روحي خارق، فإننا نستطيع القول إن من أسبابها عدم مراعاة دواخل الولي واختلاجات قلبه بإتيان أفعال لا تراعي مقامه وحرمته.. قد يغفر الولي لمن تجاوز الحدود جاهلاً أو مكرهاً، لكن من يبحر في المياه الإقليمية للأولياء ــ إن جاز التعبير ــ يُنَكَّل به.
كان الأولياء في زمان الفونج يحرصون على مراعاة الآخر، وعلى عدم تجاوز الحرمات.. من ذلك، ما حكاه ود ضيف الله عن اتقاء الشيخ محمد بن عبدالله الطريفي، لغضب الشيخ حمد بن الشيخ دفع الله، إذ كان يُنكِّس رايات موكبه ويدخلها إلى الجُراب، حين يشارف الدخول عليه، فتكشف أرواح الأسلاف للشيخ محمد نبأ قدوم زائره، أو أن الشيخ يلتقِط إشارة من يدخل (مجاله المغنطيسى)، فيخرج لاستقباله بالبشر، يعانقه ويقبِّل رأسه، ويخرج رايته المخبوءة في الجُراب ويرفعها، ويسيران.. وإن جاز لنا تجريد الغارة من أغلفتها القدسية، سنرى أن النِساء كُنّ المحرك الكامن للصراع في ذلك الزمان القبلي..
اخر لحظة