مُحاكمة المُتأسلمون..حالة الثروة الحيوانية

د.فيصل عوض حسن
الاكتفاء الذاتي مُصطلح اقتصادي يعني بمفهومه البسيط القدرة على تغطية الاحتياجات وإشباعها بالموارد الذاتية أو الداخلية، سواء للفرد أو الجماعة أو الدولة. وقد يكون الاكتفاء الذاتي في سلعةٍ أو مُنتَجٍ أو خدمةٍ ما كاملاً (أي مُطلقاً)، ويبدو واضحاً، بصفةٍ خاصة، عندما ينحصر داخل الدولة المعنية، أو ما يُعرف بالدولة المنعزلة التي لا تقوم بتصدير مُنتجاتها ولا تستورد من الخارج.
وبمعنىٍ آخر، دولة مُنغلقة على نفسها تستهلك ما تُنتجه فقط كحالة اليابان وألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، واللتان تعتبران الأكثر بروزاً في هذا الصدد. كما قد يكون الاكتفاءُ الذاتي جُزئياً (نسبياً)، وفيه تعتمد الدول على سياسة تقليل الاعتماد على الخارج في تغطية الحاجات المحلية وإشباعها، حتَّى ولو كان هذا على حساب العوائد الناجمة عن تصدير الـ(مُنتَج) أو الـ(سلعة) أو الـ(خدمة) المعنية، باعتبار أنَّ تغطية الحاجة المحلية وتحقيق الإشباع الداخلي للسُكَّان، من هذا المُنتَج أو السلعة أو الخدمة يُعدُّ كسباً ونجاحاً اقتصادياً.
ومما لا شكَّ فيه أنَّ الاكتفاء الذاتي يدعم تحرير الدول الـ(مُنتِجَة) بصفةٍ خاصَّة من (فَخْ) الاعتماد على الخارج، ويُعزِّز من استقلالية قرارها وإرادتها، لا سيما في ظل الأوضاع الراهنة الذي باتت فيه الكثير من الدول النامية، ومن ضمنها السودان، ترتهن للدول الأخرى، انطلاقاً من عجزها عن تغطية حاجاتها المحلية (ذاتياً)، ولرُبَّما استغلال الدول التي تستورد منها لهذه الحاجة (عائد التصدير) لتضغط على الدول الـ(مُصدِّرة) للمواد أو السلع الأوَّلية أو الخام وتشتريها منها بأبخس الأثمان، وبالتالي تُصبح خسارة الدول المُصدِّرة (مُركَّبة)! فلا هي (غَطَّت) حاجتها المحلية من السلعة أو المُنتَج الذي (صدَّرته)، ولا نالت عوائداً (مُجزية) من عملية التصدير، وهي حالة وقع فيها السودان كثيراً في ظل حُكمْ الـ(مُتأسلمين)!
كان لابد من هذه المُقدِّمة المُتخصِّصة لبيان حجم الجرائم الاقتصادية المُدمِّرة التي ارتكبها الـ(مُتأسلمين) في حق السودان، والتي ترتقي لمُستوى الخيانة الوطنية، وتستوجب المُحاسبة والعقاب وفق القانون الجنائي وغيره من القوانين الوضعية. فقد عَمَدَ هؤلاء الـ(مُتأسلمون) إلى تدمير البلد في كافة المناحي بخاصة الجانب الاقتصادي، عبر إيقاف الإنتاج سواء كان في القطاع الزراعي بالدرجة الأولى (بشقيه النباتي أو الحيواني)، أو القطاع الصناعي أو الخدمي، من خلال القيود التي وضعوها كتعدُّد واتساع الرسوم والجبايات المفروضة على المُنتجين بما يرفع تكاليف الإنتاج، وبالتالي ارتفاع أسعار السلع والمُنتجات في السوق المحلية، مع إتاحتها في السوق الخارجية بأبخس الأثمان. ولم يتوقف التدمير الـ(مُتأسلم) عند هذا الحد، بل امتد ليشمل فقدان السودان لمزاياه النسبية، خاصةً في القطاع الزراعي (وعن عمدٍ) حيث لم يستمع هؤلاء الـ(مُتأسلمون) لنصائح أو نداءات المُتخصصين الـ(مُخلصين)، وواصلوا مسيرة التدمير على غرار ما تناولناه في مقالنا السابق عن محصول القطن وكيفية تدميره، بدايةً بقرارهم المشئوم (المُتأسلمون) عام 1992 بإيقاف زراعته في مشروع الجزيرة واستبداله بالقمح، رغم تفوق السودان في القطن بحجتهم الكاذبة وغير المدروسة (نأكل مما نزرع)! فكان أن فشلوا في زراعة القمح والذي (يصعُب) إنتاجه في السودان بالـ(مُواصفات) الـ(قياسية) الـ(مطلوبة) عالمياً لعدم مُلاءمة مناخ السودان لإنتاج الأنواع المرغوبة، وفي ذات الوقت فقدنا أسواق القطن الذي كنا نبيعه فيها، وكان عائده (أي القطن) يُغطي جانباً كبيراً من حاجتنا المحلية عبر الاستيراد من الخارج بعد توفر العملات الصعبة من عائد التصدير! ثم توالى فشل المُتأسلمين و(خيانتهم) للبلد ومُقدراتها إلى أن أتى المُتعافي وقضى على ما تبقى (جريمة القطن المحور)، وطالبنا بمُحاكمته هو ومن معه على جُرْمه الشنيع هذا.
في هذه المقالة أنموذج آخر لتدمير الاقتصاد السوداني (عن عمد) أيضاً، تُمثِّله هذه المرة وزارة الثروة الحيوانية، التي دمَّرت ثروتنا الحيوانية وأضعفت عوائدنا الاقتصادية منها، وحَرَمَتْ الـ(مُواطن) البسيط منها لـ(صالح) الدول المُستوردة، بمُبرر غير أخلاقي ولا منطقي يتمثل في الحاجة لعوائد تصديرها، وهي مُبررات واهية وغير موضوعية. فبالإصافة إلى ما ذكرناه أعلاه من شرحٍ لمفهوم الاكتفاء الذاتي، وهو بعيدٌ عن واقعنا الماثل، فإنَّ العائد من تصدير الكميات المهولة من ثروة السودان الحيوانية، وآخرها ثلاثة ملايين رأس خلال موسم الأضاحي (هذا) كان ضعيفاً كنتيجة (مُتوقَّعة)! لإغفال وزارة الثروة الحيوانية وبقية عصابة الـ(مُتأسلمين) للقواعد الاقتصادية الرصينة، التي تنادي بالاهتمام بالـ(قيمة) وليس الـ(كمية)! أي قيمة ما (نُصدِّره) وليس كمية الصادرات، بجانب عدم إشباع السوق الخارجي لكي لا يعرض عن سلعتك، وبالتالي (يضعف/يقل) العائد نتيجة لانخفاض السعر. وبمعنىً آخر، عدم العمل (عن قصد) بقاعدة العرض والطلب، فكلما زاد االعرض انخفض الطلب، وبالتالي السعر والعكس صحيح! فلماذا تصدير كل هذه الكميات؟ ولماذا لا يفعل السودان كما تفعل بقية الدول وبخاصة الأوبك، بتقليل كمية الصادر ورفع الأسعار نتيجة زيادة الطلب بما يعود عليها بذات العوائد (إنْ لم يكن أكثر) مع تصدير كميات أقل؟ وفي ذات الوقت تحقيق توازن الأسعار في السوق المحلية وإشباع حاجة المُواطن (المالك الحقيقي للسلعة أو المنتَج)؟
ولعلَّ إجرام الـ(مُتأسلمين) لم يتوقف عند هذا الحد، وهو إشعال الأسعار الداخلية وعدم إشباع الحاجة المحلية للسكان من لحوم بلدهم، بل امتد ليشمل (حرمان) السودان من ميزته النسبية (عن عمد كذلك)، في سلعةٍ يُعاني العالم من فجوة غذائية منها، حيث عَمَدت وزارة الثروة الحيوانية بتصدير (أُناث) هذه الثروة في جريمة (شنيعة) بحق الوطن وأهله، بدايةً بـ(أُناث) الإبل في عهد أبو كلابيش وانتهاءً بالضأن في عهد فيصل حسن، دون أي واعز شرعي أو أخلاقي أو إنساني! وهو أمرٌ وجد استنكاراً واسعاً من قبل المتخصصين (الشرفاء)، مع صمت من بقية أجهزة العصابة الـ(مُتأسلمة) ومن والاها، مما يدل، بل يُؤكِّد على أنَّ الأمر (مُتعمَّد)! والآن تتواصل مسيرة الاستنزاف بتصدير كل هذه الكميات المهولة من الثروة الحيوانية، في وقتٍ ترتفع فيه أسعار اللحوم بالداخل، وعجز الكثيرون عن تناوُلها، ولجأ بعضهم الآخر لتناوُل لحوم (الحمير)! والأدهى والـ(أَمَرْ)، أنَّ هذه الكميات المُزمع تصديرها، جانبٌ كبيرٌ منها سيذهب لـ(مصر)! التي سبق وأن تبرَّعَ (لها) كبير عصابة الـ(مُتأسلمين) بخمسة آلاف رأس من الماشية رغم احتلالها لأجزاء غالية من البلد! وتتواصل الـ(خيانة) الـ(وطنية) الآن بنحوٍ (مُركَّب)، أول أشكاله حرمان المواطنين من إنتاج بلدهم، وثانيهما تغطية حاجات دولة مُحتلَّة للبلد ولا تزال أطماعها مُستمرة عبر توغُّلها في أجزاء إضافية في وادي حلفا بل وتجاوُزات (أعلامها) و(إعلامها) صراحةً في حق السودان و(أهله)، وثالثها ضعف العائد من تصدير هذه الكميات.
لم يترك لنا الـ(مُتأسلمون) خياراً آخر غير مُناهضة هذه الجرائم بصفةٍ عامة، وهذه الجريمة بنحوٍ خاص. ولتأخذ هذه المُناهضة أكثر من شكل، يبدأ بدعاوي قضائية (مُباشرة) وعاجلة ضد وزارة الثروة الحيوانية والقائمين عليها (حالياً وسابقاً)، ومن عاونوهم في هذه المصيبة، أياً كانوا (برلمان، وزارة، هيئة، … إلخ)، ومُتابعة هذه الدعاوي (داخلياً وخارجياً)، وهنا الأمر يتعلَّق بالقانونيين الشرفاء بصفةٍ خاصة، حتى و(لو) رأي البعض أنَّها غير مُجدية لكنها تبقى خطوة قانونية ومؤسسية. وعلى الإعلاميين الـشرفاء حصراً (وما أندرهم) تناوُل هذا الموضوع وتوعية وتثقيف وحشد طاقات وهمم السودانيين بالداخل والخارج. وللمُواطنين دورٌ في هذه المُناهضة، لا سيما العاملون في قطاعات ترتبط بعملية التصدير، وعليهم الوقوف ضد هذه الجريمة وتعطيلها! إذ لا يجوز والسودان يتمتع بكل هذه الثروة الحيوانية، ويُحرَم شعبه منها، أو يستبدلوها بلحوم الحمير. أنتم فقط يا أهل السودان معنيون بهذا، فهي ثروتكم ومصيركم، إما الوقوف بقوة ضد هذا الإجرام الـ(مُتأسلم)، أو تبقوا في قاعكم الذي ما بعده قاع.
[email][email protected][/email]
يا دكتور فيصل إنك تتناول مواضيع بمنتهي الوعي و المهنية و بالأرقام في مواضيع خطيرة و حيويه و لها تأثيرها المباشر في حياة المواطن و البلد بشكل مباشر سواء في الحاضر أو المستقبل القريب و البعيد ، مواضيع فعلا تحتاج لفئات القانونين للتصدي لها و لإعلام جرئ يدق عليها حتى يصم آذان من يقوم بهذه الأفعال و كذلك آذان من تمسهم و هم المواطنين ليفيقوا من سباتهم في قاعهم السحيق كما ذكرت ، نسأل الله أن يقيض لعباده في بلاد السودان من يعمل على إفاقتهم من سرحانهم إلى واقعهم المرير ليجابهوه بشكل فاعل و مؤثر .
تصحيح بسيط للدكتور يختص بعنوان المقال (محاكمة المتأسلمين ) بدلا عن ( محاكمة المتأسلمون ) مضاف ومضاف اليه . وشكرا لك على المقال الرائع .
وزارة الثقافة الحيوانية والاعلام الموجه والسياحة الكيزانية