
لن يخرج التطبيع بين السودان واسرائيل والذي يجري الان (توضيب) الصيغة النهائية لبنوده – العلني منها والسري- عن الشكل التقليدي لتطبيع العلاقة بين اي دولتين كانتا في حالة عداء، حيث جرت العادة ان يبتدر الطرفان بتبادل التمثيل الدبلوماسي يليها تطبيع العلاقة في بقية المجالات الاخري حسب المصالح المشتركة والوتيرة التي تم الاتفاق عليها.
بالنسبة للتطبيع بين إسرائيل ودول المنطقة وإسرائيل كان توقيع الاتفاق عادة مايتم برعاية أمريكيا التي يدرك الجميع انها تمثل الجانب الاسرائيلي اكثر من كونها راعيا للاتفاق ، اما في الحالة السودانية فامريكا لم تلعب دور الراعي /الوسيط بل مارست الابتزاز بالمعنى الحرفي للكلمة بربط رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بموافقته على بنود التطبيع مع إسرائيل مستغلة تردي الوضع الاقتصادي والكوارث الطبيعية فيه.
بالطبع لامريكا دوافعها في اللجوء الي ذلك السلوك المشين والمتمثلة في سياسيتها الداعمة دوما لإسرائيل ، وفي حوجة الرئيس الحالي دونالد ترامب لهكذا انجاز يدعم به حملته الانتخابية المتعثرة، لكن ان يخضع السودان لهكذا ابتزاز مقابل حفنة مساعدات اقتصادية فهذا رضوخ مهين للغاية لسيادة وسمعة الدولة السودان كدولة وكشعب ، والأكثر إذلالا ان الصحف العالمية وفي مقدمتها الاسرائيلية قد قامت – وهي محقة لحد كبير – بتصوير التفاوض حول عملية التطبيع الاجباري تلك كمزاد علني تتفاوض فيه الحكومة السودانية حول ثمن التطبيع الذي تريده والذي جري نشر أرقامه الأولية.
ليس الثمن القِيَمي والأخلاقي للتطبيع بتلك الصورة المهينة هو الأمر السلبي الوحيد في مسار التطبيع بصورته الحالية،
بل ان هنالك تساؤلا جديا حول جدوى التطبيع والفوائد التي سيجلبها و تأثيرها على الاقتصاد السودان ، فتوقعات المؤيدين تشير الي ان رفع اسم رفع السودان من قائمة الدول الراعية سيرفع الحرج السياسي من بعض الدول والمؤسسات الدائنة لاعفاء او جدولة بعض ديون السودان ، وتسهيل حصوله على قروض جديدة أخرى من الدول والمؤسسات المالية الدولية التي أغرقت دول العالم النامي بمئات مليارات الدولارات من الديون التي تتضخم فوائدها سنويا، وايضا قيل ان الخروج من قائمة الإرهاب سيشجع دول العالم الرأسمالية والشركات الكبري للقدوم باستثمارات ضخمة، هذا إضافة إلى مزايا التطبيع الإقتصادي المباشر مع إسرائيل والذي قد يفتح آفاقا جديدة للاعمال والتعاون الفني والتكنولوجيا. لكن كل ماقيل اعلاه يظل مجرد توقعات متفائلة لا ضمان لتحققها في الواقع الذي لا يعرف إلا لغة المصالح والأرباح.
الا انه في هذا الطرح – والذي يحاول ان يصور ولو بشكل غير مباشر، ان السبب أزمة الاقتصاد السوداني هو وجوده اسمه في قائمة الدول الراعية للإرهاب – كان يجرى تغييب حقيقة اساسية وهي ان امريكا ومنذ ما يقارب الاربعة سنوات قد قامت بالغاء كافة العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان ، وأصبح بإمكانه منذ ذلك الحين إنتاج وتصدير مايشاء من منتجات دون وسيط ، كذلك يمكنه استيراد ما يحتاجه من بضائع ومعدات واليات وتكنولوجيا من اي مكان في العالم مباشرة، واضحي أيضا بمقدوره إجراء كافة المعاملات البنكية والتحويلات المالية من وإلى مكان في العالم دون قيود، وبالتأكيد أيضا أصبح لديه اهلية افضل للحصول على قروض من بنوك عربية وأفريقيا وبعض الدول الاخري التي كانت تقرضه حتى في ظل وجوده في قائمة الإرهاب.
امر اخر بذات الأهمية تم اغفال الحديث عنه في غمرة التوقعات الايجابية لنتائج التطبيع، الا وهو الخلل البنيوي او السرطان الخبيث الذي يخنق الاقتصاد السوداني والمتمثل في الإمبراطورية الاقتصادية الهائلة الحجم التي صنعتها الحركة الإسلامية، والمكونة من شبكة اخطبوطية من البنوك وهيئات وصناديق الاستثمار الحكومية الفاسدة، والمئات من الشركات الحكومية الكبرى التي تعمل في كل الأنشطة وتتحكم تماما في الاقتصاد السوداني، وتحظي بحماية مطلقة من المكون العسكري والذي يضم تحت لواء قطاعه الاقتصادي كل هذه الشركات، دون ان تكون للدولة الولاية المالية عليها، وهذ القطاع هو الذي يجري استغلاله و توظيف ما يملكه من إمكانيات لخلق الازمات الاقتصادية المتلاحقة.
وقد عبر عن حجم هذا الماساة رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك حين ذكر ان وزارة المالية لا تتعدى نسبة ولايتها على الماليه العامة للدولة ال18 في المائة ، وهذا خلل عظيم لا يمكن للإقتصاد السوداني ان يتعافي في ظل وجوده، حتى وان صدقت التوقعات المتفائلة ومهما كان حجم الفوائد الاقتصادية والمزايا وفرص الأعمال التي سيجلبها الانفتاح الغربي على السودان، فان ذلك القطاع الاقتصادي سيعمل كثقب اسود لاحتواء كل هذه الأنشطة والمشاريع الاقتصادية والاستثمارات وامتصاص كل الفوائد والأموال و لن يتحقق اي شكل من أشكال الإنتعاش الاقتصادي، بل بالعكس سيتضخم تاثير ونفوذ هذ القطاع وستتعزز مكانته بحكم الامكانيات الكبيرة التي يملكها وقدرته على المنافسة، والعمل في كافة المجالات التي ظل يحتكرها لنفسة طوال حكم الإنقاذ، ما يعزز هذه الخلاصة ان عملية التطبيع والمفاوضات السرية والعلنية التي تجري لاكمالها، يقودها بسيطرة مطلقة المكون العسكري في السلطة الانتقالية، و تتواجد فيها الإمارات التي تملك الكثير من المصالح والروابط العميقة معه منذ عهد النظام السابق، بالتالي فان مجمل مخرجات التطبيع إقتصاديا وسياسيا ستصاغ لصالح استمرار وتعزيز وجود المكون العسكري في السلطة بشكل يخدم سياسات الرعاة في المنطقة ويسمح بتطبيق كل بنود التطبيع ، ربما تكون تلك الصيغة في شكل حكومةيقودها الجيش بواجهة مدنية صوريا كما يجري بصورة خجولة الآن، خاصة أن هنالك عدد كاف من المدنيين (المطاليق) على أتم الجاهزية والاستعداد للعب دور المحلل ان سارت وفق مايتمنون.ويخطط العسكر ورعاتهم ومنظمة التسوية والهبوط.
ويظل التعويل كله والأمل معلقا بالوعي الشعبي الحصيف والارادة الثورية التي أظهرها شعبينا وشبابه رجالا ونساء في كل مسار الثورة الاعظم المستمر حتى نصرها النهائي.،لاسقاط هذه المخططات الخبيثة واستعادة مقدرات شعبنا وارادته السياسية ليقرر بكل حرية وارادة في مصالحه وسياساته دون ابتزاز او خضوع .
د. يوسف حسين