الخواجة طارق (رواية: حلقة 2)

صمت … حيرة … ارتباك! تخرج من بين شفتيها البضتين كلمات مهموسة أغلب الظن بلغة عربية متكسّرة. ترتسم على وجهها علامات توحي بعدم اهتمامها له. صدته بإشارة صريحة من يديها أكدتها نظرها الفاتكة متنرفزة:
– لا، شكرا، دعني وشأني!
مترددا لحرج الموقف وارتباكها ومصرّا على تقديم مساعدة، ثم قائلا بصوت متهدج:
– لا مؤاخذة، لمحتك حائرة وكأنك تبحثين عن مكان؟! ربما يمكنني أن أدلك عليه، أنا من أهل الحارة.
– لا أظن أنك تعرفه!
– لا أفهم، هل تبحثين عن مكان ما أم هو شخص بعينه عنه تبحثين؟ (وفي غرارة نفسه سلّم نفسه للظنون وامتلك الشك سريرته. أختلق عنها قصة توحي بالآتي: مسكينة! تبحث عن أبيها الذي تركها وطلّق أمها الأوروبية وأتى هاربا من العدالة ليتزوج من أهله ها هنا. هذا الوغد، لعنة الله عليه في القبل الأربعة. يحسبون بنات الناس لعبة في أيديهم؟!)
يهدأ من ثورته التي انتابته فجأة من باب الانسانية. سكن إليه غضبه تجاه صاحب الصورة الفوتوغرافية الذي وضعه في حساباته كوالدها. تعودُ هي من فجعها وربكتها. روحها تهدأ وتمتلك زمام أنفاسها المقبوضة بضيق المكان والزحام. تغوص يدها في شنطة اليد. ترتجف. تبحث عن شيء بين متاعها المتكدس وأدوات التجميل. تخرج قصاصة صغيرة وتقول للشيخ: “تفضل!” صورة فوتوغرافية قديمة بالية عليها ختم عربيّ ينزوي في أسفل اليمين. يمد يده الغليظة المكتنزة بتردد، يمسك بالصورة ويهمس: “شكرا”. يبحلق بعينيّ النسر فيها. يدرسها، يتفحصها مليّا مالئا نظره بقسمات الرجل المرتسم عليها، ثم قائلا:
– أه، تبحثين عن الأستاذ؟ (ابتسامة ساخرة مليئة بالإزداء، غريبة! غير محددة، تجاهها أم تجاه الصورة؟!)
يعتذر؛ يتأسف مستطردا:
– أنا عمّك جمعة أبو محمود. صاحب محلات المكسرات. هناك، عند زاوية الحلاوتي (يشير بيده إلى المكان).
بينما هما في غمرتهما تلك في أخذ وعطاء عن المحروس، المكان والزمان، ودون أن يشعرا لا بمرور الوقت فضلا عن الدنيا من حولهم، فإذا بخلق قد تسللت رويدا رويدا آتية من كل فج عميق. تجمعت حولهما في شكل شبة دائرة. ابتلعهما جمع المتطفلين كالدوّامة بامتصاص تدريجيّ. ولم تمض إلا بضع لحظات عجاف حتى امتلأ المكان الذي يقفان عليه عن بكرة أبيه بالخلق. صارت لمّة أشبه بزفّة مولد السيّدة أم هاشم وزحمة الطائفين. أطرشان في زفّة! هذا حال الناس في بلادنا، يتركون كل ما وراءهم وقدامهم دون اكتراث. يهرعون متهالكين خلف فضولهم الجبار، لا يلوون على شيء إلا وأن يشبعوه: نعم، هذا الجَشِع البغيض! ظل الشيخ ممسكا بالصورة الفوتوغرافية في راحة يده النديّة بالعرق. الشمس وهجيرها يزحفان فوق الرؤوس مدّاً دون جزر. أوثق قبضته عليها كأنه كنز. غدت الصورة في تلك اللحظة موضع اهتمام الجميع. عيون الزفة تشرئب لتلمح وجه الرجل المرسوم عليها. يرجعون ليبحلقون في مشهد الشيخ والآنسة اللذان انتصفا قلب الحلقة. تظل نظراتهم تتنقّل بتردد بين الصورة والأطرشين ككرة المضرب. بدأت الأيادي المتطفلة تمتد كالأفاعي تجاه قبضة الشيخ الماسكة بالكنز. فضولهم جبار وحب استطلاعهم بلا حدود. يرغبونها بشهوة دون سابق انزار، في صلافة وعدم احساس. يطلبونها بعقيدة راسخة أنهم على حق والشيخ على باطل؛ ذلك دون سابق معرفة بمجريات الأمر. يحاولون بأيديهم الممتدة حولها أن يمسكوا بها. نجحوا أخيرا مرغمين الشيخ. أفلحوا نزولا عن رغبة العصبجية المرتفعة المنادية بأخذها وتحت ضغط الجماعة الحاملة عليه. يبغضون الشيخ لأنها اصطفته دونهم. يبحلقون في الصورة ويرجعون البصر إلى الفتاة الغارقة في زحام الزفة أمامهم. يعدون الكرّة مرّات ومرّات. وحينما وقعت الصورة أخيرا في أيديهم جلجل صراخهم وتناثر في الهواء ليمتزج بضوضاء الموسكي. ينظرون فيها. ينسون للحظات حكاية الصورة. يفتي بعضهم ويعلل ويحلل وينذر وينصح. كل في اتجاه، تماما عكس التيار. وآخرون يغوصون في صمت مطبق. ينتظرون الحكم الأخير في القضية. يحسب بعضهم أنها لقيطة احتضنها صاحب الصورة وتراجع عن رأيه مع مرور الأيام. يعتقد البعض الآخر ويحلف بالله أنها ابنة غير شرعية لمصري جاءت تبحث عنه ليس بعيد في حارتهم. وما أكثر حارات المدينة. تتكاثر الآراء وتتضارب:
– دي مش بت سي علي العفيفي؟ مش هو كان في أروبا ورجع بعدما عمل العملة إياها وطردوه. جا بعدين وتزوج من أم حمادة ست الكشري!
– لا يا اهبل، دي والله بالله بنت عم يوسف الكهربجي بتاع جامع البركة في الست زينب.
– يا حوش، يا حمير، إنتو ما عندكمش مخ، دي بت خالي حسن حسنين بتاع الأقمشة في الغورية، وأنا حأخدها معاي للبيت دلوقتي. خلاص، انتو ما عندكمش أي علاقة بالموضوع!!!
ظلوا في هراءهم هذا يتناوبون الحكايات في شأنها، يفتون الفتاوى في أمرها ويقصّون النوادر عن أصلها وفصلها. يحلفون بالمصحف الشريف أنها، “البت هُدى”، المولودة في حارتهم والتي سافرت مع أبيها إلى بلاد برّة ورجع أبوها وتركها هناك. تنظر “هُدى” أو “قل “سلمى بيقر” إليهم وهم في أضغاث أحلامهم يتهاوشون، يتنابزون. تحيرهم القصة أيتما حيرة. يدهشها المشهد تدخل في دوامة من صدمة المفاجأة. تتساءل فيما يثرثرون؟! ” يا تُرى كشفوا سرّ الصورة وعرفوا من هو؟! أملها تملأه صلوات وابتهالات ورجاء صادق وتمني. يا رب!

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..