سفر الفنجري ..

د. علي حمد ابراهيم
تحدث نفسك في ركنك القصي من الطائر الفخيم، يتهادى في بطء محسوب استعدادا للإقلاع في رحلة مجهولة المدى لا تعرف إلى أين تقودك خطواتك المفارقة. لا تعرف هل تعود بك من قابل؟ أم تتيه بك في الوهاد العميقة، تمتد أمامك بلا قرار؟ ويغلبك أن تعود الى الديار التي ارضعك من ثديها الحب والحنان. تطمئن نفسك المهتاجة: هي خطوات كتبها عليك قلم القدرة منذ الأزل. والذي يكتبه قلم القدرة يمشى فوق ضهر البحر. هكذا قالت الكتب المقدسة. تطلق زفرة عميقة من سويداء قلبك المحتقن، كأنك تفرغه من همه وغمه. يطول تحديقك المبهم في الافق البعيد. السحب تبدو داكنة ومتجهمة كأنها تتفردك من بين جميع المسافرين. علها حزينة وغاضبة من سفرك هذا، كما هي البوادي عموم حزينة وغاضبة.
ترفض الاستسلام لهذا الهاجس. ترفض الاستسلام لسطوة الاحساس بالتيه. والحسرة على عشرة السنين تسربلت وضاعت من بين يديك، ومن بين يدي الرعيل الحنيف. تغادر بحزنك الخاص، وتترك من ورائك الخميل الوارف ساجيا في حزنه المكين. الثيران الاسبانية تقتحم مستودع خزفه الجميل، وتنشر فيه الاخراب والتدمير. يهرب النور والنوار من الخميل الجميل. تلملم احاسيسك المبعثرة. وتغادر الأرض.
تترك لهم الجمل بما حمل.
جمعت الى صدرك أوراقك الثبوتية. وجمعت معها حزنك وغضبك وخرجت تستعصم بالمسافات الفاجرة تجعلها بينك وبين بلدك الطعين. لا تريد أن تكون شاهدا على مولد المحنة. لا تريد ان تسمع سمار الحي القديم يتصايحون مذعورين، كل في وجه أخيه: انج سعد، فقد هلك سعيد. سنابك خيل التتار تقتحم الفضاء. الناس يتقاطرون الى الفيافي العدم، كل يأخذ بعقلة أخيه في هروبهم الكبير. تبقى في المخيلة المأزومة فواصل الشريط الدامي. يمتلئ صدرك. تغمض عينيك. لا تريد ان تكون شاهدا على القبح والفجيعة. تتف عن يمينك وعن شمالك كما يفعل الصالحون في البوادي عموم عندما تحضر شياطين الإنس والجن. تتمارى في مخيلتك صور الذين تساقطوا تلالا تلالا غدر بهم جنون الانسان التتري الجديد، يحوم في الارجاء، ينشر فيها المحن بهمة لا يلحقها الإعياء. الطائر الفخيم يشق بك عنان السماء بقوة واقتدار. يبتعد بك عن البوادي عموم، وعن مدن التراب. ويقترب بك من البلد البعيد. خانتك شجاعتك الموروثة. ودمعت عيناك. هذا هم ثقيل لا طاقة لك به يزمجر في دواخلك. صور من الأذى والأسى تتداخل وتتشابك فيها الطرفة ونقيضها. الزعيم الكجور الكبير يرسل الالوف من الشباب إلى حتوفهم في أحراش الجنوب يغريهم بتزويجهم بالحور العين في اليوم الآخر. ويقيم لهم مهرجانات الفرح الصاخبة. زيجات بلا شهود. وبلا تواكيل شرعية. أزواج تتعذر عليهم اللقيا ذلك الشرط الأساس لأي زيجة طبيعية. هذه زيجات غير طبيعية. ولكن من يفتح فمه في حضرة الزعيم الكجور الكبير. يستصغر عقول الناس ويصنع لهم زيجات مغشوشة. ويعتمد لهم شهداء مغشوشين حتى إذا قضى وطره السياسي منهم عاد واعتبرهم مجرد فطايس.
تتذكر حكاية السرداق الكبير يقيمه الشيخ الكجور في قلب الحي القديم، ينصب به على الدهماء، يزوج القتلى في حربه الجهادية على حور عين يقمن في السماوات العليا. يصغر عقولهم إلى درجة التصفير الكامل. أمرضك تماهى مردة النفاق والتدليس مع أكاذيب الكجور الكبير. زادوا قلبك المريضة شرايينه التاجية مرضا على مرضه القديم. جبن أهل الديرة. وقبلوا ذلك الاستصغار. كل الديرة جبنت أن تقول إن بغلة الكجور العراب في الإبريق. وخرجت ترقص الصقرية بفرح مغشوش. تدامجت الحقيقة مع الخيال في المشهد الغريب.
الطائر الفخيم يشق عنان السماء مقتربا أكثر من أم المدن، ومبتعدا أكثر من مدن التراب، يتهتك في حبها الخليل شاعرها المغنى، لا يعرف هو الآخر أين يقوده قدمه المفارق. وانت لا تدري إلى أين يقودك قدمك المفارق. قالوا لك دلاس، قلت لا تحب المدينة التي قتلت زين شباب الرؤساء.
تطول تهويماتك وشرودك، ويطول بالطائر الفخيم المشوار. يتقاذفك الملل العظيم. ينمو في وجدانك شعور بالتيه وقد تراصت بينك وبين البوادي عموم المسافات الفاجرة. مسافر أنت اليوم وفي صدرك زئير وزفير. لست منسحبا من ميدان المعركة. ستعود عندما يشتد الأوار. ستعود عند لحظة الاقتحام و تشعلل المعركة. هذا هو تقديرك على أي حال. لست مغاضبا البوادي عموم. لا أحد يغاضب البوادي عموم. يقبل تصنيف جدته بت وداعة لسفره هذا. حسبته من أسفار الغبينة.
مسافر الغبينة لا ينقطع فيه العشم. تحسبه العشيرة في عداد العائدين في يوم من الأيام مهما طال به السفر والغياب. تطول الغبائن ولا تدوم. وعندما تدول الغبائن، تعود المياه الى مجاريها القديمة. حامد العود، فتى الديرة الأمجد، غادر البوادي عموم مغاضبا. أقسم أن لا يعود حتى تعود إلى البوادي عموم فحولتها المكسورة، وتمسح عن صحائفها هذا الحمل الثقيل.
قال لن يعود حتى تخلي البوادي عموم نفسها من هذا العيب الكبير. مثل صديقه حماد العود، كان يتف عن شماله وعن يمينه عندما يرى منهم أحد. يقول أعوذ بالله من جن التتار وأنسهم. يحتقر الذين يحنون هاماتهم أمام العواصف الصغيرة. ويدفنون رؤوسهم في الرمل حتى لا يروا الخطر الوشيك كما يفعل ذكران النعام الموسوم بالجبن عادة. يدفن رأسه في الرمال عندما يقترب منه الصائد. مثل صديقك حماد العود تغادر مغاضبا وفي صدرك زفير وزئير. الطائر الفخيم يشق بك عنان السماء في قوة واقتدار. يقترب بك من أم المدن. ويبتعد بك من مدن التراب، تعشق ترابها وغبارها كما كان يفعل الخليل، شاعر الحب العربيد. لا أحد يستطيع أن يعاور الوطن الجريح، أو يداوم على جفائه مهما جار. ستغفر للذين جرّحوا وجدانك ذات يوم. ولكنك لن تغفر للذين جرحوا وجدان الوطن.
تركت لهم الجمل بما حمل
وغادرت والوطن يغالب أوجاعه وجراحه الصادحة. لن تغفر للذين استأسدوا على المرهقين الحزانى. وذابوا مثل الواح الثلج في الصيف ساعة المحنة. يوم هجم التتار على الخميل الوادع، وهشموا مستودع خزفه الثمين، غيروا جلودهم مثلما يغيرون ملابسهم حتى لا يأخذهم ريح التتار العاصف في معيته. لبسوا للحالة الطارئة لبوسها. ذهبت عنتريات الأمس القريب. ركبوا جيادهم الصافنة. وساروا في مؤخرة الركب يتلصصون من خجلهم المفرط. يدفدفون الدفوف في جوقة الزمارين.
تغيب في وجدانك المرهق، ويغيب الطائر الفخيم في جوف الضباب، يبتعد بك عن مدن التراب. ويقترب بك من أم المدن، تحادث نفسك، تناجيها وتناجزها على التعزي دون والغفران لو تستطيع. طالت تخيلاتك لعالمك الجديد ينتظرك خلف السهوب العميقة تمتد أمامك بلا قرار. ويستمر حوارك الصامت مع نفسك المكلومة، تريد ان تلزمها أن تظل نظيفة عندما يتسخ الآخرون: أن لا تعلق بها الأوساخ السابلة: أن تظل مفطومة على بزازة التحدي: أن تظل مناجزة ضد الرهق والاستسلام الاسيف. الحياة قصيرة ومعطونة في أحبار المهالك. البوادي عموم لا تذكرك إلا مناجزا عن حق مضاع. لو تظل على تلك الفطرة.
يكفيك أن تمارس الرضا العام. وقبول ما تخفيه لك المقادير. الكهنة الجدد لن يروضوا نفسك العنيدة. ها أنت ترحل وتحمل معك صمودك الحنيف. لن يأخذوا منك غير بهرج حياتك المهنية، نعم. فعلوا ذلك. ولكنهم ما استطاعوا أن يجبروك على الانحناء والتدلي. فالريح لن تأخذ شيئا من البلاط. الطائر الفخيم يطوى المسافات الفاجرة في قوة واقتدار، يقترب أكثر من أم المدن، ويبتعد أكثر من مدن التراب.
أنفاسك المختلجة تصعد وتهبط. تواصل تأملاتك الصامتة. والغياب في دياجير وجدانك المحترق. تأملات لا تشرك فيها أسرتك الصغيرة. تخاف عليها من تسلل الرهق إلى نفوسهم الصغيرة. تخاف تحديدا على الصغيرتين سحر وسالي، رصيدك الباقي في بنك الاغتراب القسري تحدق في وجوه رفقتك في الطائر الفخيم وقد شارفت الرفقة المؤقتة على نهايتها. لا يعرف منهم احدا. اكثرهم نائمون. طوبى لهم. النائمون لا يعانون من حرقة الانتظار واللهفة.
بعضهم يتجاذبون أطرافا من حديث هامس. آخرون دسوا أنوفهم في كتبهم وأجهزتهم. آخرون يتابعون مباراة في كرة القدم. لم يكن من هؤلاء جميعا. تدسّ نفسك في احزانها القريبة. غبت بعيدا في عالم المرهقين الحزانى تركته وراءك في البوادي عموم. عاد إليك منلوج نفسك الصامت: غادرت بأحزانك الكبيرة. تحملها فوق جناحك المهيض. وتركت للآخرين مثلها من الأحزان.
شيخ العشيرة الفارس يترجل ويرحل في هدوء. ويرحل معه السرور من ديار الأسرة والعشيرة. يغادرها مرحها وألقها المشهود. عزت عليك تحية الوداع الأخيرة. وعزت عليك دموع عائشة الأخت الأم. ومياسة الاخت الابنة. وعزت دموع البادية عموم. فعلت بهم الذي فعلت. وأنت تدري تعلقهم بك. عزاؤك الباقي أنهم لا يطلبون منك اعتذارا. تتعزى بفيض شعورهم النبيل هذا. يعرفون أنك لا تستطع ممارسة الانحناء كما يستطيع الآخرون. كان أهون عليك أن تحمل اغراضك وتغادر من أن تتقوّس أمام جبناء الالفية الثانية.
تركت لهم الجمل بما حمل .
أرض الله واسعة. وواسعة كذلك أرزاقه. لن تفنى نفس قبل أن تفني ما كتب لها قلم القدرة من رزق.. قناعة مؤمن لا تتبدل. بخ بخ بالبيع الرابح.
تركت لهم الجمل بما حمل.
وجئت تبدأ حياة مرة في عالم مر. لا قريب تأنس إليه. ولا ولى حميم تبثه لواعج نفسك وكدرها. حياة مرة في مجتمع مر. يحفظ الحقوق، هذا صحيح ومريح. ويحفظ الحدود، ويرقم الفواصل بين الاشياء. مجتمع يطلب من القادم إليه ماضيه القريب. قبل أن يبدأ من الصفر تارة اخرى. يقولون هذه هي صيحة البداية. وعربون الحلم الأمريكي المقدم. عزائم قاسية، في مجتمع قاس، يرحم إذا كانت نار جهنم ترحم. هي بلد اليانكى، قريبة منك بزخمها المترع. بعيدة عنك بقدراتها على التزيين والتغليف.
تعمر مدارك الناس من حولها بصورة الدولة القطب. والشعب القاهر بالياته ومعارفه. وثرائه الممدود. وتغيّب عنهم صورة الدولة التي تحّول إنسانها إلى ماكوك يغدو ويروح دأبا من صباح الرحمن وحتى مسائه وراء لقمة عيش شقية يقضمها في مطاعم الوجبات السريعة في عجل. يسابق الزمن، ينظر في ساعته، يحذر سطوة الرأسمالي الجاثم على صدره مثل صخرة جلمود. إنسان دوار في وجود دوار، عجلة دوارة في مجتمع دوار ومتفرعن على الآخر، لا يسأل فيه حميم حميما. مجتمع غشيم، يصبح الفرد فيه ويمسى وهو لا يطمئن على شيء. الرأسمالي الضخم قد يطيحه في لمحة بصر إذا تراجعت أرباحه سنتا واحدا. الإنسان فيه مسكون بهم تسديد فواتير الاستغلال الرأسمالي في آخر الشهر. وتوفير الحد الأدنى من قوت عياله غدا. رزق اليوم باليوم. يترك الأبعد وديعة عند الظروف والمقادير. الطائر الفخيم يشق عنان السماء في قوة واقتدار. يقترب أكثر من أم المدن. يبتعد أكثر من مدن التراب. انصرفت إلى نفسك تسمّع هتافها المكتوم كمن يحادث جليسا ضنينا بالرؤيا. لا يدري إن كان يعتذر لها عن المشاق التي راكمها عليها حتى فاض الكيل: الشطب من كشوفات الترقي، الشطب من كشوفات التنقلات الدبلوماسية، الشطب من كشوفات الابتعاث الدراسي، الشطب من كشوفات التدريب. أثمان باهظة كان لزاما عليه أن يدفعها طالما بقي وزيره الخالي الذهن وزيرا للوزارة التي عرفت وزراء فطاحل في قامات زروق والمحجوب وأحمد خير، وطالما ظل هو على سجيته البدوية، يحمل قلمه الهمّاز اللّماز، يدخل به في صفحات الصحف لا يرعى إلا لكبير أو ذمة، خرج ذلك الكبير على الحدود التي تحد حركات جميع البشر. عندما هشم الطيران المصري رؤوس أهله في جزيرة أبا، فار الغضب في قلبه. جرد قلمه السنين قلمه وكتب (الزعامة طايرة ويطير معاها الانجليز).
صرخة تحدي وقلة أدب في وجه الدكتاتور. وعندما قتلت دبابات الدكتاتور أهلك في ود نوباوى، حملت قراطيسك وجلست تكتب دموع (أوليفيرا)، صرخة أكثر لداحة في وجه الدكتاتور. تطيحك دموع اوليفيرا من كشف الترقى. وتدحرجك خارج إطار التنافس دفعة واحدة. تشطبك من كشف دفعتك صرت عائما لوحدك. بلا دفعة. فعل بك هذا بعض أقزام عجزوا في أن يصيروا طوالا رغم التزلف والتشابي. لم يرتادوا الشواهق التي لبسوا لها كل البسة النفاق والتدلي. لست مغبونا منهم لنفسك. لكنك مغبون لهم من أنفسهم.
صوت المضيفة الرخيم يقطع حبل تفكيرك وتهويماتك تبلغ المسافرين معها بأن يشدوا الاحزمة استعدادا للهبوط في مطار جون كنيدي في نيويورك. اخرج قصاصة صغيرة ودون على السطر الأول ساعة وتاريخ الوصول.
[email protected]