
طالعتنا الأخبار بالكثير من المفاجآت في البيان الصادر من مجلس الوزراء الذي استقال بموجبه ستة وزراء فيما تم إعفاء السابع فيما يبدو لرفضه تقديم استقالته.. ويكمن عنصر المفاجأة في أن رئيس الوزراء سارع في الأمر بسبب الضغط الذي فرضه على نفسه دون مبرر بتوقيت زمني حدده بأسبوعين للاستجابة لمطالب الجماهير التي خرجت في الثلاثين من يونيو وهو ما جعل هذا القرار في غير محله خاصة أن ملف السلام الذي قد يستوجب تعديلا آخر لم تكتمل مفاوضاته بعد ، ومهما بلغت درجة التفاؤل لكن الطاولة السياسية لا ضمان ولا أمان لها ولا للاعبين حولها إذ يمكن لأي منهم قلبها أو رفض التوقيع في آخر لحظة وكان الأحرى برئيس الوزراء وفقا لتجربة سابقة له حدد فيها أسبوعا واحدا للجنة تحقيق مع الشرطة لم تسفر عن شيء ، ألا يكرر إلزام نفسه بما لا يلزم .. كما أن الأسبوعين اللذين حددهما مدني عباس مدني لإنهاء صفوف الخبز لم تجلب له سوى السخرية والتهكم وتكذيب الواقع للأماني رغم أن ذلك خارج عن إرادته.
معظم الذين ذهبوا غير مأسوف عليهم وربما لم يسمع بهم أحد فقد اختاروا الصمت على الضجيج سواء بعمل أو بغير عمل وبعضهم كان كالبراميل الفارغة أحدثت ضجيجا عاليا في الخصومات دون أن نرى على الأرض شيئا ملموسا رغم علمنا بالصعوبات التي واجهتها الحكومة خاصة المصاعب المالية والمتاعب السياسية.
لقد ” حدس ما حدس ” وبدلا من أن يطالب الفاعلون بحكومة بقدر تطلعات الجماهير تحول صدى التغيير المرتقب إلى حرب ” طواحين الهواء والخواء ” حول وزير الصحة ووزير المالية.
ومع حماس الدكتور أكرم الشديد للإصلاح الذي لا ينكره إلا جاحد، لكن حساب الحقل في السياسة غير حساب البيدر .. فقد قتله وأقصاه لسانه فيما قتل آخرين صمتهم كوزير الزراعة مثلا.
كان د. أكرم، أكرم مما يجب في الحديث عن طموحاته وخلافاته وقراراته وكنت من أكثر المتحمسين لتشدده في إجراءات مكافحة جائحة كورونا لأنه يدرك مدى المخاطر المترتبة على ذلك خاصة مع شعب يستهين بكل ما لا يراه عيانا بيانا وكان في حاجة لأن يرى فيروس كورونا حاملا سيفه يسفك الدماء في الطرقات حتى يصدق وجوده..ويتمسك بعاداته وتقاليده وإن قادت معظم الناس إلى حتفهم .. لكن معالجة د. أكرم للأمر بتلك الهستيريا الخطابية كانت خصما عليه إذ لا يعقل أن تقول للشعب ” ما عندي ليكم دواء.. تاخدوا بندول تشفوا أو تموتوا” .. أو ما معناه ..وقد اعتبر معظم الناس ذلك ” كلام زعل.. ما بنقبلوا ” وهذا خطاب لا يجوز من مسئول ورجل دولة وإن وافق الحقيقة فمهمة رجل الدولة أن يطمئن الناس وإن كانوا على شفا حفرة من الخطر وأن يقول سنفعل ما بوسعنا وأن عليكم مساعدتنا وقد كان العامة يعرفون قيمة ذلك كما ورد في الغناء الشعبي ” ود العز أخوي يعزم علي المافيش ” .. بمعنى أنه ليس في بيته شيء ومع ذلك كريم جواد يعزم ضيوفه ويحلف ليطمئنوا للنزول عنده رغم أن بيته ليس فيه شيء فإن قبل “المعزوم” الدعوة ذهب ليتدبر أمره و” ربنا يفرجها ” ..
لذلك فإن من سفه الرأي أن يعلن وزير كل ما يعرف عن وزارته بما يشجع الخصوم ويدفعهم لشن حرب تزيد من الضائقة .. هذا ما لا يفعل القادة .. وكان الأحرى تجنب الحديث بعبارات مثل ” ما عندنا .. ومافي .. ومن وين ؟ ونختف ونقلع إلخ ..” وآخر ذلك ما فعله الوزير حين ظل تائها في الطرقات يبحث عن لجنة ذهبت للمسيرة ليلتقيها في مطعم جانبي ولم يكتف بذلك بل أقام في الشارع ” ركن نقاش طلابي ” موثق وذلك ما لا يجوز من رجل دولة بل ويحدثهم عن الميزانية وما يحتاجه وما يحاول أن ” يقلعه ” لوزارة الصحة من وزارة المالية ثم فاجأتنا الفيديوهات بتعديات لولا لطف الله وحكمة من أحاطوا به مدافعين لخرج منها بخسارة بالغة ولأحرج حكومته حرجا بالغا خاصة أن هناك من المتربصين به ولغيره الكثير من أعداء الثورة .. ولم يغنٍ الفيديو الذي سجله يدافع به عن موقفه مما رأى الناس رأي العين شيئاً ..
وقبل ذلك ما كان يوم حليمة بسر حين تبادل الاتهامات علنا مع وزارة المالية بأنها ” أكلت ” أو لنقل تلطيفا “حولت” أموالا جاءت من الخارج لوزارة الصحة لمحاربة كورونا ثم عاد ليبرر ذلك في لقاء أخر بعد أن انتشر الخبر وذاع وعم القرى والحضر مما جعل الدولة كلها في مأزق مع المؤسسات الدولية المانحة.
وقبل كل ذلك شفافيته المفرطة التي كبدت السودان خسائر فادحة في صادر ثروته الحيوانية. وغير ذلك كثير ،و” ليس كل ما يعرف يقال ” وبذلك منح إخوان الشيطان المزيد من مساحة توجيه الاتهامات.
لكن الخطأ الأكبر الذي وقع فيه د. أكرم هو رفضه تقديم استقالته ولو كان له أو لمستشاريه أو أصدقائه أدنى نصيب من الحس السياسي لعلم أنه على رأس قائمة التعديل الوزاري نظرا لكونه شخصية مثيرة للجدل .. وله خلافات في وزارته ومع لجنة الطوارئ وغيرهم .. وكان الأحرى به أن يكون أول من يتقدم باستقالته ليحفظ ماء وجهه ويلقي بالكرة في ملعب رئيس الوزراء ، أما أن يرفض الاستقالة فقد كان ذلك لتقدير خاطئ آخر وهو أن يشكل ضغطا على حمدوك اعتمادا على شعبيته في الشارع وقد رأينا ذلك في وسائل التواصل وبعد إعفائه في ” حملة نصرة ” لأكرم ولكنها تظل مكسورة الظهر برفضه وكان يمكن لتلك الحملة أن تكون بذات الزخم رفضا لقبول استقالته ولكان حينها قد كسب جمهوره واحترام حكومته بدلا من خلق بؤرة توتر لحكومة ” هي أصلا ما ناقصة ” أما الضجة المثارة بشأن د. أكرم فسوف تأخذ حظها من الانتشار ثلاثة أيام أو تزيد ثم تنتهي كما حدث مع الضابط الشجاع محمد صديق الذي كان قد عرض نفسه للخطر مؤيدا للمعتصمين أمام القيادة في وقت لم يكن يجرؤ فيه أحد على فعل ذلك حتى من المجلس العسكري ولكن قرار الفصل أصبح نافذا رغم كل ما صحبه من حملات رفض ولا يعرف أحد الآن أين يوجد ذلك الضابط الشجاع الثائر!!.
وعلى أية حال فقد ذهب د. أكرم وعلى من يحل محله أن يحرص على تنفيذ ما بدأه ووجد بسببه تأييد الكثيرين كما أن عليه تجنب ما أودى به .. ولكليهما التوفيق.
أما الوزير الآخر فهو د. إبراهيم البدوي الذي لا أخفي سعادتي باستقالته ” وبركة الجات منك يا بيت الله ” فأنا اعتقد أنه حاول تطبيق نظريات البنك الدولي بحذافيرها التي ترفضها دول الخليج منذ سنوات طويلة رغم ثرائها الفاحش وما زال البنك ينصح وهي ترفض ثم لجأ لما يسميه دعم الأسر الفقيرة وكان النظام البائد يطبقه من أموال الزكاة التي كان يأكل مسؤولوها تسعة أعشارها وكأننا في بريطانيا لنعرف الأفراد والأسر في فيافي السودان وأصقاعه .. لكن البدوي كان يرى أن دعم الأسر يبدأ من فقراء حي سوبا وينتهي بتعساء حي أم بدة !!..
ثم كانت الجائحة الكبرى في زيادة الرواتب سبعة أضعاف فيما لم يسبقه إليه أحد في العالم وهو ليس لديه ” ميزانية مجازة ” وقلنا إن الزيادة واجبة لكن بنظام متفاوت ونسب معقولة بحيث تتم المضاعفات للشرائح الأضعف وبنسب مضاعفة فيما لا تزيد في الشرائح الأعلى ضعف الراتب (100%) ثم يحول فائض تلك الأموال لتوظيف الشباب ” ترى ماذا لو تم توظيف مائة ألف منهم ؟؟ فتلك تحل مشاكل الشباب العاطل وترفع معنوياتهم وسقف طموحاتهم وتمنحهم الأمل في حياة كريمة وترفع عن كاهل الأسر الهم الاجتماعي على أبنائهم والضغط النفسي والاجتماعي الذي يسببه وجود خريجين عاطلين أو يعملون في مهن لا تتناسب مع تعب أسرهم عليهم وآمالهم فيهم ” ويوجه الجزء الأخر لمشاريع التنمية والبنية التحتية والتعليم والصحة إلخ .. لكن صاحبنا اختار الفرحة الكاذبة التي ارتسمت على وجوه الناس وسرعان ما تحولت إلى عبوس ولما يمض شهران .. فقد رأينا ولائم ذبائح ” البطيخ ” وأهازيج الفرح في مايو .. لكنها اختفت تماما في يونيو ويوليو بعد أن وقع الفأس في الرأس ولم يستطع الوزير كبح جماح السوق الذي امتص الزيادة والفرح معا .. وكان البدوي ينوي الأسوأ وهو رفع الدعم كاملا رغم أنه لم يهيئ كالعادة السبل الضابطة لتطبيقه بحيث لا ينعكس سلبا على المواطنين ” مع أنني من أشد المطالبين برفع الدعم عن الوقود على أن يرتبط ذلك باستخدام العداد في كافة عربات الأجرة بأنواعها وتحديد سعر الكيلومتر منعا لاستغلال المواطنين ” مع دعم المحروقات الخاصة بالمشاريع الزراعية والمواصلات العامة التي توفر المواصلات بسعر معقول.
ومع ذلك أعتقد أن قبول استقالته سيؤدي لمزيد من متاعب الحكومة المالية خاصة مع البنك الدولي والدول المانحة في مؤتمر برلين ما لم يترسم القادم الجديد خطى البدوي وإن حدث ذلك فكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا وسوف تستمر الأزمات والمواجهة.
نقطة نظام: وبقي القول أن التشكيل القادم يجب أن يكون أفضل كثيرا مما سبقه وقد رأينا وبمجرد استقالة الوزراء بدأت قوائم الترشيح تتابع وإن صدقت فتلك كارثة كبرى وهي محاصصة بغيضة لن تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى ذات النهاية التي انتهت إليها الحكومة السابقة ..
هذه الثورة ثورة الشعب ..شارك فيها الكبار والشباب والصغار وحتى الأطفال وليعلم كل شخص أنه ليس لديه فضل في الثورة أكثر من الآخر بمعني أن لغة “نحنا الجبناك ” يجب أن تختفي .. والشعب في معظمه غير متحزب ولا يوجد أي مقياس يجعل حركة أو حزبا يعتقد أن لديه الحق أكثر من غيره من الأحزاب أو الحركات أو المواطنين وحتى يأتي ذلك بعد الانتخابات فإن الواجب اختيار حكومة من مواطنين أكفاء، عايشوا الأزمات وقادرين ومؤهلين لابتداع الحلول والابتعاد تماما عن شغل الوزارة من القادمين من الخارج مهما كانت مؤهلاتهم فقد خبرناها وعرفنا نتائجها.
وفيما يبدو وكما صرح البعض فإن اتفاقية السلام قد تسفر عن محاصصة تمنح الجبهة الثورية خمسة وزراء وثلاثة أعضاء في مجلس السيادة. وبغض النظر عن رأينا في هذه النسبة لكن سنقبلها على علاتها .. شريطة ألا تعيدنا للمربع الأول من الفشل وأعني به شغل الوزارة من سياسيين وحزبيين .. ونقترح أن تمنح الحركات المسلحة النسبة المتفق عليها ، على أن تقوم باختيار شاغليها من شخصيات قومية بمعيار الكفاءة فقط أي أن يكون لها حق اختيار شاغلي المناصب وليس ملء المناصب وعليها من خلال الاختيار أن تثبت حسن نيتها نحو سودان جديد فعلا وتوسع دائرة الاختيار من الكفاءات فقط لتشكيل حكومة جادة.. وبناء عليه فإن اختيار أي من الأسماء التي تم تداولها لن يقود إلا لمزيد من التعطيل والاستقطاب ..
وعلى الرئيس حمدوك وقوى الكفاح المسلح أن يكون توجههم الجديد ناحية شخصيات قومية تقوم بتنفيذ برنامج حكومي طموح وواضح لا يضير إذا نفذه من يتم اختياره من أي بقعة من السودان .. أما دون ذلك فابشروا بمزيد من الأزمات ..
لقد مرت الحكومة الأولى بحسناتها وسيئاتها وكنا نحبس أنفاسنا كي لا ننتقدها حتى لا يشمت الشامتون من بني كوز ، لكنا لن نجامل الحكومة القادمة فإن أحسنت الأداء أجزلنا الثناء وإن قصرت سلقناها بألسنة حداد .. ولا يتخفى أحد بعد اليوم وراء الجدار الساقط ” ثلاثين عاما من الخراب ” فذلك أمر معلوم والجدار قد انهد ولا يكاد ينقض وأمام الوزراء ركام فمن لا يعرف كيف يبني من الركام صرحا وكيف يتجاوز الألغام فلا يقربن الوزارة فالحكم ليس مختبرا لإجراء التجارب على الشعب ..
ويا حمدوك .. احكم فإنك لم تحكم .. والسلام .
أبو الحسن الشاعر
[email protected]