تجليات: تدهور التعليم في البلد … من المسؤول؟!

إن قضية التعليم بالبلد ليست هي بالضروري مسألة أرقام واحصائيات حول نسب الأمية به، وليست أيضا زيادة عدد المتخرجين أو ارتفاع معدلات معرفة القراءة والكتابة لدى العامة، بل هي أعمق مما نتصور، والتساؤلات التي يطرحها تدهور التعليم بالبلد -حسب رأيي- هي كيف نعيش؟ وكيف نفكر؟ وكيف نعمل؟ وكيف نخطط؟ وكيف تنعكس مسارات عمل ودأب الفرد على يومه وفي النهاية ما هي الحصيلة التي تجلبها البلد من عمل هذا الفرد؟ فالمشكل يكمن في طبيعة المضامين على مستوى الأهداف والبرامج، أي هل خُطِّط التعليم ليُلّبي حاجات المجتمع أم أنه يسير لتلبية حاجات الدولة وحاكميها؟ هذا هو الإطار الصحيح لمعالجة المسألة مع وعينا بتدهور مستوى التعليم بالسودان مقارنة بدول مثل تونس والمغرب أو الجزائر.

إن تدني مستوى التعليم بالسودان صار أمرا واقعا وحقيقة ملموسة، ورؤية هذا التدني في الحياة اليومية بمجتمعاتنا لا تحتاج إلى مايكروسكوب أو دراسات ميدانية إذ أنها صارت كالشمس لا تخفى على أحد، فالبيئة الأميّة الرديئة والجهل المتفاقم الذي نعيشه وانعكاساته على حياتنا ما هي جملة إلا مؤشر آخر لتدني التعليم بالبلاد وبطبيعة الحال ضعف الطالب والمدرس على السواء. والمقصود هنا ضعف القدرات والإمكانيات التي تبنيها مضامين هذه الرسالة النبيلة في عقل وشخصية تلميذ أو تلميذة اليوم وانسان الغد. لقد صار التعليم في بلادنا ليس له هم غير أن يعلم الأطفال القراءة والكتابة وهذه على أسوء حال، فالباحث ? على سبيل المثال لا الحصر – في رسائل الشباب على مواقع الانترنت كالفيس بوك والواتس أب يجد فن الإملاء يمكن أن يطلق عليه حكم “أعد” فالأداة التي يكتبون بها ضعيفة للغاية وفي بعض الأحيان مخجلة، فصار أبناءنا في هذا العصر لا يفرقون بين همزة الوصل وهمزة القطع وبين الألف المدودة والألف المقصورة والتاء المربوطة. ربما يكمن الأمر في آليات اللغة العربية، التي لم تحظ بعد بالاهتمام الكبير نسبة لتعصب مجامع اللغة العربية للغة الضاد القديمة. لماذا يكتب التلميذ “ماذا” بالألف و”هذا” بدون ألف، مثلا؟ فاللغات الحيّة في تطور دائم وتحتاج إلى عناية وتنقيح من شوائب القدم والشيخوخة.

من سلبيات التعليم بالبلد أنه اعتاد أن يلقن التلاميذ عن ظهر قلب في كل الحالات، تطبيقية كانت أم نظريّة، إذ يركّز على تلقينه وتدريسه ثقافة عامة (غير تخصصيّة) تنبثق في أكثر الأحيان من ماض أكل الدهر عليه وشرب، أكثر من اعتمادها على قضايا الساعة أو قل قضايا عصرية تمنحه قدرات وامكانيات للتجاوب مع البيئة التي يعيش فيها، داخل وخارج بلده، سواء كان ذلك في اطار حياته الشعبية أو في اطار حياة عصرية حديثة تمكنه من عبور المسافات الزمنية والمكانية في لحظات. فلماذا نكرس كل مضامين التعليم على الماضي؟ ألاننا وثقافتنا وموروثاتنا نخاف الحاضر أو قل نخشى على أنفسنا من قضايا الساعة العالميّة؟ أنهرب منها؟ سادتي، إن تحسين قضايا التعليم ببلادنا يتطلب:

أولاً: الاهتمام ببناء قدرات ومهارات الطلاب والتلاميذ التي يحتاجون إليها اليوم والغد وبعد الغد. ولعل من أهم القدرات التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالرفع من مقدرات التعليم هي تأهيل التلاميذ في مجالات التفكير التحليلي ومجال الاستنتاج والابتكار وصقلها بقدرات تطبيقية، فوجود المعامل والورش التطبيقية في مجال المواد الطبيعية كالفيزياء، الكيمياء، الأحياء، الزراعة بالإضافة إلى مواد النشاط (موسيقى، تربية بدنية، تدبير منزلي) في غاية الأهمية؛
ثانيا: تأهيل التلاميذ لتوظيف هذه المعارف والمهارات المكتسبة (عبر التفكير والتدبير والابتكار لا الحفظ) في نظام منطقي وعلمي متناسق تكوّن وحداته جسما واحدا ترتبط فيه تلك ببعضها البعض ارتباطا وثيقا. وفي هذه البوتقة تمتزج العلوم وتتلاقى مع بعضها البعض.

المعلم المكافح ليس له حيلة في الأمر وليس اللوم عليه لأن كليات التربية كلها كليات نظرية تفتقد للمعامل والمقدرات التقنية التي يمكن أن ينقلها المعلم بعد اكمال فترة دراسته إلى المدرسة لدى الطلاب. أين معامل الأحياء والكيمياء والفيزياء التي يمكن أن يتلقى فيها الطلاب بمدارسنا؟ والله لم نتعلم ولا حتى تعقيل شجرة في مادة الأحياء حينما كنا بالمدراس النموذجية في صف الأحياء وعلى أبواب الشهادة الثانوية. الابتكار مهم لكن من أين للمعلم أن يبتكر وهو لم يتعلم ذلك لا في المدرسة ولا في كلية التربية؟

فالمعلم السوداني المكافح يشكل جزءا لا يتجزأ من المشكلة: ضعف مستوى عدد كبير من المعلمين، إذْ أن أصحاب النسب الضعيفة من حملة الشهادة الثانوية يوجهون نحو كليات التربية وهم دون أدنى شكك من نتاج النظام التعليمي السائد القائم على التلقين للاستظهار بدلاً من التعليم على التفكير والإبداع، وهم يمارسون بعد التخرج تطبيق هذا النظام، حين يوظفون في وظائفهم الجديدة. ومما يضفي على عمل المعلم ضعفا وبهتانا كبيرا هو عامل انعدام البيئة السليمة للتحصيل والدراسة، ففقدان هذا العامل في ٩٩٪ من مدارس السودان والناجم عن انخفاض ميزانية التعليم كإحدى قواعد المتطلبات الأساسية هام للغاية في إنجاح العملية التربوية.

من المؤسف أننا نهتم بالسياسة أكثر من اهتمامنا بقضايا التعليم. فقضية إصلاح التعليم في السودان هي دون أدنى شك من أهم قضايا الساعة التي نربط آمالنا عليها وهي سفينة النجاة الوحيدة التي يمكن أن تفصل بين واقعنا ومستقبلنا وبين التدهور والانحطاط المعرفي الذي نعيشه وبين السقوط إلى الهاوية؛ فالتعليم هو ? والله على ما أقول وكيل – درع الأمان في مجتمعات العولمة في الألفية الثالثة.

mohamed-badawi.com

تعليق واحد

  1. من مشاهد تدهور مستوي التعليم في بلادي مقابلتي لبعض خريجي الجامعات السودانيه الذين يجدون صعوبه كبيره في قراءه عناوين الصحف ويجهلون كذلك ابسط قواعد الكتابه دعك من المستوي الثقافي المتدني للطلاب انا اعتقد بان كل من حاز علي درجات علميه في حكومه الدمار (الانقاذ) فهو عباره عن فاقد تربوي الا من رحم ربي في السابق كان جميع السودانيون يستطيعون التمييز بين (المتعلم و الجاهل ) اما الآن فلا نستطيع التمييز بينهما لان الفرق بينهما اصبح فقط في تعلم القراءه و الكتابه اي ان الجامعات انحصرت مهمتها في تعليم الطلاب الكتابه و القراءه …..والدتي العزيزه التي تحصلت علي الشهاده السودانيه في ستينات القرن الماضي برغم عدم التحاقها بالجامعه الا ان قدراتها في الثقافه العامه و اللغتين العربيه و الانجليزيه كبيره جدا و كان ذلك ناتج من نظام التعليم المتطور في ذلك الزمن

  2. الاستاذ الجليل محمد بدوي مصطفى ابن وزير التربية الأسبق الاستاذ الكبير بدوي مصطفى ان لم تخني الذاكرة.

    حسب رايي المتواضع آمل أن نعود الى تجربة معهد التربية بخت الرضا بولاية النيل البيض تلك التجربة التي بدأها المستر قريفز وكان نائبه الستاذ الكبير عبدالرحمن على طه من أبناء العمارة طه(أربجي) وهو أول وزير تربية وتعليم سوداني بعد ذهاب المستعمرين.

    تجربة معهد التربية ببخت الرضا تجربة غير مسبوقة واتمنى أن تعود اليها الدولةوالتاريخ يشهد لهذا المعهدالعريق بما قدمه من خدمة للتعليم لم تتكرر بعدز
    هذا بالنسبة للتعليم الابتدائي والمتوسط ولنقل ( مرحلة الأساس الحالية والتي تمتد من الصف الأول الى الصف التاسع بلا عن الثامن حسب اقتراح مؤتمر التعليم الأخير الذي رفع عدد سنوات التعليم الأساسي الى 9 سنوات على أن تكون 6 سنوات مفصولة عن ال3 سنوات التالية لها لأسباب تربوية روعي فيها عدم اختلاط الصغار مع المراهقين من الصف الصف السابع الى التاسع.
    أما بالنسبة للتعليم الثانوي أحيل سعادتكم الى توصيات مؤتمر التعليم الذي انعقد قبل حوالي عامين والرجوع الى توصياته والتي لو نفذت لتخلصنا من الحشو غير المبرر الذي تذخر به المقررات التي وضعت على عجل وبدون رؤية مستقبلية ثاقبة .

    العامل الهام هو عدم المجاملة في اختيار المعلمين ولا بد من التدريب المستمر ومواكبة آخر المستجدات في مجال التدريب والخبرات الضرورية التي يجب أن يتمتع بها المعلم حيث لاتصير مهنة التعليم مهنة من لا مهنة له. أرجو تكرم الكتور محمد بالرجوع الى توصيات مؤتمر التعليم الأخير قبل حوالي عامين ويستمر النقاش بيننا .

    مع شكري وتقديري لاثارة موضوع غاية في الأهمية( عوض نميري) معلم سابق وخريج بخت الرض وكلية التربية جامعة الخرطوم مبتعثا من وزارة التربية والتعليم خلال الفترة من1978 الى 1980 وكان عميد الكلية آنذاك المرحوم الاستاذ الجليل : مندور المهدي.

  3. كل الشعوب التي نهضت واصبحت مضرب المثل في التقدم المعرفي والسلوكي هي التي تبنت سياسة اعطاء التعليم والمعلم الاولية في ميزنيتها السنوية مثلا في المانيا عندما طالبت قطاعات بمساوات رواتبها برواتب المعلمين ونوقش الامر في البرلمان , قالت لهم المستشارة ميركل اتريدونني ان اساويكم بمن علموكم ؟ فبهت القوم ولم يتجرأ احد ان يحاول اقناعها. اتدرون ماذا كانت تعمل مريكل قبل ان تولج الي مجال السياسة ؟ كانت نادلة في حانة , واذا رجعنا الي اليابان او ماليزيا التي يهاجر اليها القوم للترفيهو . هل حدثت احدهم نفسه كيف نهض دكتور مهاتير محمد بهذة البلد ام هو التغافل المقصود الذي اعمي القلوب والبصر لكي يستاثروا بالسلطة و الجاهه ويورثوها الي ابنائهم .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..