بيّارة الغابة

لعل أول مدماك لكتشنر، في بناء الدولة الحديثة، هو رسم الجيش البريطاني لكروكي السودان، بناء على خريطة ديمغرافية، كانت أولى حقائقها، قلة عدد السكان. بعد مجاعة سنة ستة، وبعد حروب المهدية التي هزّت النسيج الاجتماعي، وبعد أوامِر التعايشي لود النجومي بتجييش كل أولاد البحر، للاستشهاد في توشكي.
بعد كل ذلك ــ و حين توطّد الحكم الثنائي ــ كان تعداد السودانيين بضعة ملايين.كان الأهالي حينها، على شك كبير في الحكومة المركزية، وكيف أنها حكومة استعمارية، فضلاً عن أن الحكم الوطني ــ المهدية ــ كان حقبة من شِرعة السكاكين الطويلة.. بعد فورة الجِهادية، استحسن الأهالي الاستقرار، مثلما تقبّلوا على المدى الطويل، فكرة تعليم أبناءهم في المدارس النظامية . لكن «الغابة حتماً ستثور»، كما قال شاعرهم مصطفى سالم.. ففي العام 1952 نشبت ثورة المزراعين ضد آل عتباني، وضد زيادة الضرائب، وكانت خلفية الغضب هي رفض الحكم الاستعماري.
بُنِيّت بيّارة مشروع الغابة الزراعي، على الطراز الفيكتوري، الذي كان رمزاً لإمبراطوريةٍ غرُبت شمسها. افتتح البريطانيون تلك البيّارة في العام 1917، كي تبقى صامِدة لمائة عام فوق ضفة النهر، دون أن يجرفها الهدام، أو يخنقها الطمي أو تسد الرمال مشربها.
تلك البيّارة، هي إحدى مُعجزات العقل الهندسي، الذي خطّط سواقي السودان النيلي، بموجب قانون الأراضي لسنة 1905م. تبع ذلك قانون تسوية الاراضي لسنة 1925، فإُضيفت بموجب تلك التسوية أراضى «الأبيار» وأراضٍ ميرية فوق الحفير، لرقعة المشروع التي تتوزّع حالياً على 1050 حواشة، غير قابِلة للزيادة!
اليوم وبعد انقضاء الأجل، يتهيأ أهالي الغابة للاحتفاء بمرور قرن كامِل على مشروعهم، الذي أحيا الفلوات عند مُبتدأ الحوض النوبي الكبير. أنشا المُستعمِر مشروع الغابة، على الضفة الغربية، موازياً لعاصمة السودان القديم ــ دنقلا العجوز ــ ضمن مشاريع مؤسسة الشمالية الزراعية .
كان الهدف بعد زوال حقبة المهدية، هو بناء قاعدة انتاجية تهيئ استقرار الأهالي، حتى يسهُل حُكمهم. كان الاستعمار شراً، تمخض عنه خير كثير، بينما كان الحكم الوطني خيراً، جلب لنا شراً مستطيرا. من خيرات الإستعمار هذا المشروع، الذي يمتد في مساحة قدرها 3000 فدان، غير قابلة للزيادة. هناك صورة ليوم افتتاح تلك البيّارة، نشرها الصحفي التوثيقي عمار كيجاب، يظهر فيها الحاكم أو المفتش الانجليزي بصحبة قرينته، مع بعض الخواجات في أزيائهم التي تميّز موقع أي منهم في دولاب الدولة، بينما يقف بعض الأهالي بجانب كومر الحكومة.. ذاك الكومر كان حياً إلى عهد قريب.. البيّارة وما حولها من ذِكريات، قد يجرفها النيل الذي يتنكّر لساكنيه، حيناً بعدَ حين. في العام 1922، في عهد الناظر محمد المهدي حامد، تم تسجيل مشروع الغابة، بإسم الشيخ ميرغني سوار الذهب، تسهيلا للاجراء الإداري المطلوب.
كانت الحكومة الاستعمارية حينها، تعتمد على مشايخ الإدارة الأهلية في تعاملها القاعدي، فلم تجد أفضل من ذلك الشيخ الوقور، ليمثِّل أهله الذين لا يعرفون النعرة القبلية، لكونهم خلاصة تجربة الانصهار التاريخي بين النوبة والعرب.
أهالي الغابة يعدون العُدة للاحتفاء بالذكريات، لأن حالهم من حال البلد..هناك ماضٍ يصعُب الحفاظ عليه، إن كان النّهر يغيّر وجهته حين، وإن كانت الأراضي التي يفترض أن تكون إمتداداً للمشروع، قد آلت لمستثمري البراسيم، الذين يستحلبونها لمدة 99 سنة، قابِلة للزيادة!

اخر لحظة

تعليق واحد

  1. الاستاذ / عبدالله الشيخ المحترم
    السلام عليكم و رحمة الله و بعد
    ارجو تنويرى عن هذه الثورة ضد آل عتبانى التى ذكرتها و جزاك الله خيرا شاكر لكم حسن تعاونكم و الله ولى التوفيق .

  2. الاستاذ / عبدالله الشيخ المحترم
    السلام عليكم و رحمة الله و بعد
    ارجو تنويرى عن هذه الثورة ضد آل عتبانى التى ذكرتها و جزاك الله خيرا شاكر لكم حسن تعاونكم و الله ولى التوفيق .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..