من وكري الشيوعي إلى العزيز البخاري عبد الله الجعلي (1977) (2-2)

كتبت هذه الرسالة إلى الدكتور بخاري عبد الله الجعلي وأنا قيد التخفي ضمن الكادر السري للحزب الشيوعي بين 1973-1978. واحتفظت بها كل هذه السنوات. ولا أعرف إن كنت بعثتها له، أو أنه استلمها. وكان بلغني من رفاقي أنه سألهم عن أحوالي في غيهب الشيوعيين. وكان ينشر أيامها بجريدة الأيام سلسلة مقالات عن جيل مؤتمر الخريجين والحركة الوطنية عنوانها “الفكر الذي ضاع والجيل الذي ولى”. ودارت حول ما يستوجب عمله لاستثمار أندية الخريجين. وعرضت عليه بعض الأفكار حول ما ربما فعلنا لخاطر توقير ذلك الجيل ومأثرته الوطنية. فاقترحت أن تخدم أندية الخريجين، التي استولى عليها الاتحاد الاشتراكي كدور حزبية، إلى أندية-معاهد يقبل عليها من بقي من ذلك الجيل للأنس والترويح. ولكن بوسعنا أن نحولها أيضاً إلى معاهد بحثية شغلها التوثيق لتجربة مؤتمر الخريجين وجيل الاستقلال. فلم أعرف إلا من قريب، ومن رسالة للماجستير للدكتور البوني، عن دور الحريجين الشجاع الكبير في إضراب مزارعي الجزيرة عام 1946. وأفصل في هذا الجزء ألخير من الرسالة القديمة في ما بوسع هذه الأندية عمله كمعاهد للبحث. فإلى الجزء الأخير من الرسالة:

أعتقد أن الشكل الجديد لحياة واستمرار هذه الأندية هو المعهد/ النادي: وقوام ذلك
 أن ينشأ في هذه الأندية [بدءاً بشيخ الأندية في أم درمان] معهد لأبحاث مؤتمر الخريجين تحت إشراف مثقفين مؤهلين متطوعين
(أ‌) بتجميع المكتوب والمصور وغيره من وثائق تلك الفترة وتسجيل الروايات من حملتها من الخريجين وحفظها حفظاً وثائقياً صحيحاً
(ب‌) تشجيع البحث في مسائل الخريجين والحركة الوطنية مثل أعمال الترجمة Biography وغيرها.
 التوفر على النشر عن الخريجين بأسبقية خاصة للتراجم الذاتية والمذكرات التي يحفزها المعهد ويقابل التزاماتها المالية والبحثية.
“لقد أبعدت هذا المعهد عمداً من الجامعة لكي نتيح له نشاطاً بحثياً لا “يُعَسمه” انضباط الجامعة (شرف، شرف أولى…الخ) ولا ضغائنها البحثية (كثير من مؤرخي الوثائق المكتوبة قليل الثقة في الوثائق الشفاهية). وأردت أن يلج ساحته باحثون مؤرقون [قد يكون أرق الواحد منهم كتابة نبذة من سطور تعرف بجده الخريج] ليس في تراتيب الجامعة البحثية حيزاً لاستيعاب أرقهم الصغير.
ولم أقصد بهذا الاستبعاد أن يتحلل من شروط البحث المعلومة الدقيقة التي نأمل أن يبثها هؤلاء المثقفون المشرفون إلى ناشئة الباحثين بتعاطف وصبر ودأب لا بحد اللوائح.
 التمويل:
? منح حكومية.
? عطايا أهل الفضل وأوقافهم.
? مردود نتاجه الفكري [مثلاً قد يوزع شرائط كاسيت عليها نشيد المؤتمر وغيره بأصوات فنانين ذائعين وبتعديلات متفق عليها].
ويمكن لهذا المعهد/ النادي
– أن يضم في أم درمان مثلاً المكتبة المركزية وينعشها بتركيز على ان تضم كل ما كتب من الخريجين والحركة الوطنية وكل ما كتبه الخريجون.
– أن تعني أيضاً بجمع وثائق العمل السياسي المعاصر وتوفيرها ودرسها (في سمنارات) لكي يكون أداة لنشر الاستنارة بين الكادر السياسي السوداني في مختلف الأحزاب والتجمعات.
ومتاح للنادي، حين تتأطر مهمته السابقة، أن يمارس الدور الذي رسمته له بواسطة أعضاء استوعبوا قيمة الساحة التي ورثوها. إذ بغير ذلك لا تملك أن تحول دون النادي “ولعب الورق وتزجية الفراغ”، أي إنك لا يمكن أن تحول دون النادي من أن تكون نادياً”.
ملحق:
تعليق على كلمة لك بتاريخ 16/1/76 عن المثقفين:
تقول في كلمتك: “إن قلة من المثقفين الصامتين تستطيع أن تفهم صيغة الديمقراطية كما هي مطبقة في الجزائر ومصر وتنزانيا وزامبيا وموزمبيق وأنغولا والاتحاد السوفييتي وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ولا تستطيع تفهم صيغة الديمقراطية بالصيغة المطبقة بها في السودان”.
“إن هذه القلة تستطيع أن تجد منطقاً في صيغة تحالف قوى الشعب العامل…. الخ”
 لم يطرأ لك أن تتساءل كيف سيتوفر لهؤلاء الصامتين رفع مؤاخذتك لهم باضطراب المنطق. لقد أخذت الشباطين. لا تتكلم وحدك فحسب بل تؤاخذ أيضاً. لا تجعل من صمتنا إفحاماً. يقول العاشق: الليل عليّ ليلين. وأنت تجعل من صمتنا صمتين.
 ومع ذلك أقّدر استغرابك لميلنا لبعض صيغ الديموقراطية الجديدة وكراهيتنا لصيغة السودان الحالية المعروضة كديمقراطية جديدة.
في هذه العجالة أقول: نحن، من الناحية النظرية أقله، متماسكون في النظر إلى ما يعرف بالديمقراطية البرجوازية كاستمرار في الديمقراطية الجديدة وفقاً للمقولة الفلسفية عن الاستمرار والانقطاع. صيغة الديمقراطية الجديدة ليست انقطاعاً عن الديمقراطية البرجوازية (وستمنستر) بما أمدت به الإنسان من حقوق (حرية التعبير، التنظيم، الإضراب… الخ) وإجراءات أساسية لصيانة تلك الحقوق (الاقتراع السري إلخ). لقد قلنا منذ مؤتمر حزبنا الرابع (1967) في “الماركسية وقضايا الثورة السودانية” إن النضال من أجل الديمقراطية الجديدة يمر عبر النضال من أجل الحقوق الديمقراطية البرجوازية. هذه الحقوق التي قال عنها كاشو زعيم النقابات الإسبانية السرية، ملخصاً تجربتهم في ظل الفرانكفوية:
“We learn that formal freedom are not just bourgeois، they are human. ”
(ترجمة لاحقة للعبارة الإنجليزية: لقد أدركنا أن الحريات الشكلية ليست مجرد حريات برجوازية، إنها حريات إنسانية”.
ولهذا فأية صيغة للديمقراطية الجديدة (السودان أو غيره) يجب أن تخضع للتنقيب عن توفر الحقوق الأساسية في بنيتها وتوجهاتها وإجراءاتها وإلا كانت انقطاعاً، أي استبداداً يتسمى بما شاء. ولهذا حذرت وثيقة لنا اسمها قضايا ما بعد المؤتمر الرابع (1968) من أن تتحول حملتنا إلى الديمقراطية الجديدة إلى “نداء من فوق رأس البيوت” حين تشدد على المحتوى الاجتماعي للديمقراطية على حساب الحقوق الديمقراطية.
هذا الخيط النظري هو الذي حكم في الغالب صورة تحالفنا مع سلطة 25 مايو بما يعرف بالاحتواء الشيوعي. وقفنا مثالاً ضد الأمر الجمهوري الخامس الذي عطل حق الإضراب للطبقة العاملة. وقفنا ضد المصادرة لأنها اعتداء على حق أساسي لطبقة الرأسماليين وحقهم في جمع المال، والاحتفاظ به، وحق الدفاع عن شرعية ملكيتهم له. ووقفنا ضد تطهير الأساتذة من الجامعة من علٍ ولم نسلم من تجاوزات وإعفاءات.
كان محور صراعنا (أو احتوائنا) لشريحة البرجوازية الصغيرة الحاكمة هو الديمقراطية الجديدة في علاقتها بالحقوق الأساسية. وقد منع تجلي صراعنا هذا في أساسه العميق مواقف جماعة منا (معاوية أخوان) آثرت أن تتخلى عن هذا المرتكز النظري لتمارس الاحتواء لتنتهي إلى حليف لا يؤبه به حالياً.
تصادف قراءتي لتقرير الحكم الشعبي المحلي أثناء إعدادي لهذا الخطاب. ولقد سمينا قانون الحكم الشعبي المحلي في نقدنا له عام 73 بـ “حكومة المحافظين” قياساً على حكومة المفتشين. وها هي اللجنة تقرنا على ذلك.
ومع ذلك فالشاهد أن اللجنة انتقدت طريقة الاقتراع في المجالس الشعبية (عدم ضبط التسجيل، مصادرة حق الطعن، التصويت العلني برفع اليد*). مما يؤيد رأينا في ضرورة تلازم الحقوق الأساسية (والإجراءات التي تكفلها) مع أية صيغة للديمقراطية الجديدة.
أرجو أن تكون هذه مقدمة لحوار حول هذه المسألة لو شئت. فمن حق إنسان في العمل العام مثلك علينا أن نوفر له ما ينيره حول اعتقاداتنا وممارساتنا من غير أن نقره على قناعته في شرعية حوار لا طرف ثانِ له.
*بل كان أوضح مظاهر انتخابات المجالس الشعبية الأخيرة هو الاحتجاج الذي طفحت به الصحف عن رداءة الاقتراع وفوضاه.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..