واحد بلدياتنا

واحد بلدياتنا
محمد وداعة
[email][email protected][/email]
محمد وداعة: على غرار ما يرويه الصديق الاستاذ صلاح الدين عووضة، من قصص عن «واحد بلدياتهم»، وبمناسبة زيارتى لمسقط رأسى قريتى المقل والحجير فى اليومين الماضيين، طافت بذهنى عشرات القصص عن « واحدين بلدياتنا»، وما فيش حد احسن من حد، فالاستاذ عووضة لا يعدم رواية عن واحد «بلدياتهم» متى اراد او اقتضى الحال، ولكن المهم فى الأمر ما تراه العين وتسمعه الأذن حول ما آل اليه الحال، نخلات إصفرَّ جريدها و «عرجونها» ناشف، ولا محصول يرتجى منها هذا الموسم، مرض عضال اصاب اشجار النخيل، والنيل الذى كنا نتبارى فى من يستطيع عبوره سباحة، تغير وابتعد عن النخلات.. وهناك جداول ورمال، وصغر حجم المراكب ذات الاشرعة والمجاديف الضخمة التى تحتاج لاثنين اشداء يتناوبان عليها وريس يمسك بالدفة ويحرك الاشرعة حسبما تنفخ الريح، فقد اصبحت المراكب اصغر حجماً «فلوكة»، ولا تحتاج ذلك الكم من البحارة لقيادتها، وقد يكون فى هذا تفسير لاضراب اشجار النخيل، وامتناعها عن الإتيان «بالتمر والرطب»، فقد ابتعد وضاق مجرى النيل حتى صار من الممكن قطعه قفزاً، ولم يعد هناك مكان «لتمساح الشايقية» الذى تنادى له اولياء الله الصالحين للقضاء عليه، كما وثق ذلك المادح حاج الماحي، فتذكرت تلك الشجرة الضخمة، التى تتدلى فروعها فى النيل وكنا نظن ان التمساح يتخفى فيها لينقض منها على فريسته، وقد اختزنت المياه خلف سد مروى لزوم توليد الكهرباء، وفى الطريق قابلنا عدة «دفارات» وارد الخرطوم، محملة بأنواع مختلفة من الخضروات، فقد اصبحت قرانا القديمة والجديدة تأكل مما يزرع غيرها، والارض تغير لونها وانبتت اعشاب «الكمتر» التي تصيب ما عداها فى مقتل، وكان بلدياتنا صاحب «الحمار» الابيض، ذى السرج والفروة البيضاء، حينما يمر مزهواً، كنا نعتقد انه ابن لحصان ما، اتى من مكان ما، وهو نسيج وحده فلا احد سمع بأن اى من «حمير» القرية قد سبقه يوماً، وذلك الرجل الذى فى ما مضى ورد «البوش»، فلم يجد ما يرضيه او يدانيه فى الحاضرين، قال قولته «ان حمارى هذا اشهر من حمار كلتوم الذى تغنت له البنات فى مشارق البلاد ومغاربها، فضلاً عن شمالها»، ورأيت القليل منها وقد زهدت فى النهيق فلم تعد تنهق، ومبانى المدرسة التى تعلم فيها من ابناء الشمال من امرى وحتى حلفا، اصبحت اطلالاً ولم يتبق منها الا القبة التى كانت تتوسط فناءها، وضاعت دروب القرية، درب الجمل، درب العربات، ودرب الساقية، درب الجدول، فلم يعد لها وجود، وكربكان والزهرة كانت اشهر البواخر النيلية التى تنقل البضائع والمسافرين بين كريمة ودنقلا، لا يمكن ان تفعل ذلك مرة اخرى حتى فى اوقات الدميرة، لقلة منسوب المياه، وانطمار المجرى العميق الذى كانت تمر فيه، فقد اصبح جزراً من الرمال لـ «أم قيردون وطير البقر» وتغير شكل الحياة ولم يتبدل حس أهل القرية، لم نستطع ارضاء احداً منهم، الجميع يريد استضافتنا، الكل يلح بأن نبقى لديه ولو لحين، لم تفارقهم الابتسامة على وهنها، ولم يفتر قولهم أن الحمد لله على كل حال، ولا حول ولا قوة الا بالله، هذا وقد عاد بلدياتنا يفجر مفخرة تلو اخرى عن «حماره»، وقد سماه الميمون واسبغ عليه اوصافاً وأسماءً، ولم يعد مجدياً تذكيره بأن الله تعالى قال فى محكم تنزيله «إن أنكر الاصوات لصوت الحمير»، ذلك انه كان قد شرب وشرب الحمار. ولا يجوز البتة القول فيما رويت اننى قد قاربت ما يرويه الاستاذ صلاح الدين عووضة، او ان بلدياتنا قد بزَّ بلدياته، إنها ساعة صبر مع حقيبة الذكريات، نصبرها كيفما نشاء، قد تكون ايحاء العقل الباطن ، وقد تكون حنيناً الى الماضى، وهروباً من الحاضر الكئيب والواقع الذى لا يريد أن يتغير الى الافضل، حتى تعود القمارى الى ترديد «احمدوا ربكم» كما فُسِّرَ لنا فى الصغر ما كانت تقوله «القمرية»، والأعزاء أهل قريتنا رغم شظف العيش وقسوة الظروف لماذا هذا؟ جف النهر وتغيرت أشكال قرانا وهجرها أهلها وقامت قرى جديدة لا يسكنها أحد، ولم تُنفذ دراسات التوازن البيئى، ومازال أهلنا فى انتظار الموعود، ترعتان للرى، واحدة غرب النيل وأخرى شرقه، تنطلقان من السد وتتجهان شمالاً لرى الاراضى وإعادة شكل الحياة بطريقة أو بأخرى.