مقالات سياسية

الفساد : الداء والدواء بصيدلية السياسيين

أدوات الفساد: الحكومات و المجتمعات:

مكافحة الفساد لا تتم إلا عبر أسس علميّة منهجيّة..

من أكثر الدول التي يُضرب بها المثل في مكافحة الفساد بعد أن كان قد انتشر بها في مختلف قطاعاتها، ونجحت تماماً في القضاء عليه ومحاربته، وإحداث نهضة حقيقية وتنمية مجتمعيّة ومعماريّة فعّالة، هي دولة نيجيريا، هذه الدولة التي لن أجد وصفاً لها أبلغ من عبارة (الدولة التي خرجت من عنق الزجاجة).

قمت بزيارة هذه الدولة الرائعة لمدة شهر بدعوة كريمة من الصديق الرائع الرجل القامة المهذب الأخ عثمان محمد عثمان من قبيلة الفولاني، ومُقيم بالعاصمة أبوجا، والذي يعتبر من أميز السودانيين المُقيمين في دولة نيجيريا، ومنزله مرتكز للطلاب السودانيين من مختلف أنحاء السودان، وهو مثال حي للكرم السوداني الأصيل خارج السودان.

وقمت خلال هذه الرحلة بزيارة جامعة إلورين بمدينة إلورين بولاية كوارا في منتصف الشمال النيجيري، وتعتبر هذه الجامعة من الجامعات المميزة في نيجيريا، وعلى الرغم من أنه بها قرابة ال30 ألف طالب، وسوق ومساكن للطلاب والطالبات وادارة كاملة للأجانب ومستشفى وموقف للسيارات خاص بها، إلا أنها لا تعتبر من الجامعات الكبرى في نيجيريا مثل جامعة نيجيريا، وجامعة لاغوس، وابيدان وغيرها من جامعات كبرى، لأن جامعة الورين جامعة ولائية صغيرة، لكنها مهيأة و مؤهلة تماماً أكاديمياً وادارياً بصورة مذهلة، ويكفي دليلاً على ذلك أن بها ما يقارب ال30 ألف طالب.

انتفضت نيجيريا لتعلن حرباً ضروساً، علمية ممنهجة على الفساد، واستطاعت حكومتها بقيادة الجنرال الرجل السياسي المُحنّك والمسلم الديانة محمد بخاري، أن تغيّر نيجيريا التي كانت من أكثر عشرة دول يتوغل فيها الفساد في العالم الى نيجيريا الحديثة دولة التنمية والنهضة المجتمعيّة.

تمكنت حكومة الجنرال بخاري من وضع تجربة حقيقية جادّة لدول العالم التي تريد التخلص من هذا الداء العضّال، داء الفساد، الذي ينخر أجساد المجتمعات ويُؤدي لإنهيار الدول، وظهرت جدّية حكومة بخاري ببذلها لمجهودات عظيمة واجتماعات مُكثّفة لمكافحة الفساد.

بدأت حكومة بُخاري هذه العمليات التصحيحية لفساد ضرب نيجيريا منذعام 1999م، حيث كانت تعاني من آثار ما بعد الحرب وكان 60% من الشعب يعيش تحت خط الفقر، بالإضافة إلى تراكم الديون الداخلية والخارجية، وفساد السلطة والمسؤولين ونهب خيرات البلاد من ثروات طبيعية ومنتجات صناعية ونهب للمال العام وعجز إيرادات الدولة عن تغطية أجور العاملين في القطاع العام،
والعجز في النقد الأجنبي وغيرها من مظاهر انهيار امتدت حتي انتخابات 2003م.

أول ما فعلته حكومة بخاري هو تحديد أسباب هذه المشكلات الإقتصادية، ووضع سياسات الحلول الناجعة للقضاء على كل بواطن الخلل، فاتخذت من الإصلاح السياسي الجّاد والممارسة السياسية الفعّالة، نموذجاً يُحتذى به، وجمعت التيارين الاسلامي والمسيحي بديمقراطية أصبحت نوذجاً يحتذى به في العالم للتعايش السياسي الديني، وكفى دليلاً على هذا أن الرئيس بخاري يتمتع بحب جميع مواطني نيجيريا المسيحيين قبل المسلمين.

ولا مقارنة تذكر ما بين الاصلاح السياسي الذي ظهرت جدّية الحكومة النيجيرية في تطبيقه وانزاله أرض الواقع، وما بين الإصلاح السياسي الذي رفعته شعاراً حكومة الحوار الوطني ببلادنا، والتي كان جُلّ اهتمام هذا الحوار هو المحاصصة وتقسيم السلطة، ولم يكن التركيز في آليات الممارسة السياسية كحلول ناجعة لمشاكل البلاد السياسية وإنما كان الوفاق الوطني توزيع حقب وزراية لإرضاء الخصوم الحزبية للنظام الحاكم.

وضربت حكومة بخاري أروع الأمثال في التجرّد ونكران الذات لإصلاح سياسي ومؤسسي شامل بمختلف قطاعات الدولة النيجيرية وهي تستعين بهيئة ال UNCAC التابعة للأمم المتحدة والتي لها خبرة متمرسة في مجال مكافحة الفساد بصورة علمية مؤسسة ومنهجية، وقد كانت لهذه الهيئة دوراً فعّالاً في مساعدة الحكومة النيجيرية لوضع السياسات الإصلاحية.

وقامت كذلك حـكومة بخاري النيـجيرية بتـأسـيس مـكتب “تـحسين الخـدمة العـامـة” ووضعت خطة عمل للإصلاح ومكافحة الفساد بالتعاون مع الأمم المتحدة (UNCAC)، والمدهش في هذه الخطة التي وضعها مكتب تحسين الخدمة، أنه كان يختار بصورة دورية ثلاث مناطق عشوائياً ليرفع تقارير عن أداء النظام القضائي بها.

وظهرت جدّية حكومة بخاري النيجيرية في وضعها لقوانين رادعة قوية لمحاسبة المُفسدين وظهرت لدى الحكومة رغبة سياسيةصادقة لإحداث التغيير والقضاء على الفساد، وقد طبقت القوانين الجنائية بصورة فعّالة كما في مشروعها “مكافحة الجرائم المالية”، الذي تمخض عنه إنشاء “هيئة مكافحة الجرائم المالية” ومنها جرائم غسيل الأموال.

الآن أعلنت الحكومة السودانية انتهاج اصلاحات سياسية واقتصادية وأعلنت بقوة رغبتها في مكافحة الفساد والقضاء عليه، ولكن مازال العود أعوج، ومازالت العجلة الإقتصادية وحلى في طين الفساد، ومازالت أرجل السياسيين ملطخة بهذا الطين، ومازالت أعناقهم مُثقلة بحقوق الضعفاء والبسطاء، الذين ترتفع أياديهم في ظلمة الليل البهيم وهم ينادون رب السموات والأرض، مطالبين برفع المعاناة والظلم عنهم.

ظهر النفاق وعمّ في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس، وأصبحت الحكومة والسياسيين والمجتمع وأفراده هم الداعمين الرئيسيين للفساد، فكل مسؤول تمّ تعيينه فشل تماما أن يضع بصمات واضحة لنجاحه، يذكرها له التاريخ، كل وزير فشل تماماً في تحديث وزارته ورفعها لمصاف العالمية والنهضة والتطور، وكل والٍ فشل في نهضة ولايته، وتحديثها ونشلها من خط الفقر والتخلف المدني والجهل الاداري والمؤسسي، وكل مُعلّمٍ فشل في غرس القيم والأخلاق والحس الوطني العالي في قلوب تلاميذه، وكل عامل فشل في الارتقاء بروحه لأسمى معاني الإنسانية والقيم الفاضلة والأخلاق.

المأساة.. مأساة مجتمع، غرق في عدم المسؤولية والجدّية حتى شحمتي أذنيه، وانعدمت منه الكوادر البشرية النقية، ذات الحس الوطني العالي، التي تضع الوطن في حدقات العيون، المأساة مأساة حكومة تضيع هيبتها يوماً بعد يوم وهي عاجزة عن محاسبة وابعاد الفاشلين والمُقصرين من المسؤولين واصحاب المواقع الإدارية، الذين ظلموا الوطن ببحثهم عن مصالحهم الذاتية وتضييع المصالح العامّة، المأساة مأساة عدد لا يستهان به من الأحزاب السياسية، غرقت قياداته في بحر الاعلام المُضلل، وزيف النجاحات، واهتمت بمصالحها الشخصية الذاتية، وتناست هموم آلاف المواطنين الذين يمثلونهم.

المجتمع الذي ينشد تغيير الحكومات ظنّاً منه أنه سيكون تغيير حقيقي للأوضاع الإقتصادية هو بلا شك واهم، فالتغيير الحقيقي الذي يُؤدي لاحداث التنمية الاقتصادية ونهضة الدول، هو التغيير في التنمية البشرية، والارتقاء بالحس الوطني، ومجتمع غير قادر على اصلاح نفسه، بالتأكيد لن يستطيع انتاج كوادر بشرية تكون مؤهلة لقيادة دولة ووطن، والحكومة التي تتخذ من التنمية شعارات اعلامية، قطعاً لن تستطيع احداث تغيير، فليصلح كل منّا نفسه، لنصبح بعدها قادرين على لفظ الفساد جملةً وتفصيلاً.
[email][email protected][/email]

2-4-2018م.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..