عَزيزَ قومِه الكابلي … أشـاءَ لكَ الهوى ..؟ ..

من طرَفٍ قريب
الكابلي، علَمٌ على رأسِه نارٌ. مُطربٌ فنّان، باحثٌ متعمِّق، مثقف سوداني ضليع، وفوق ذلك، له الكثيرُ من الصفات والمهام والاهتمامات المتعددة، إنسانٌ سودانيٌّ أصيل الإبداع، مـُتفانٍ في حُبِّ وطنه، بجميل الروح وآسِرِ التعبير. بالكلمة الموشّاة، وهل في البدء إلاّ كانت الكلمة؟
ثم إنّ الكابلي هو الأستاذ/ عبدالكريم عبدالعزيز الكابلي، سليل الطبقة الوسطى السودانية، في قديمها الذي لم يتُه بعد..! وخليلُ التراث السودانوي اللمّاح، بل وواحد من روّاد الحـَداثة التي ترى وتسمع ثم تقرأ لتتكلّم، ولعلها تُغرِّد بالمموسق والمُنمّق وحَماسي في آنِه وأوانِه. وفي تقديري، أنّ هناك حداثة قد تُصمي بالمُفارِق، وتُنذرُ بالتطوير الغصب، وقد تُؤتي أُكُلُها حَشَفاً وسوء كَيْلة، أو تكون نتائجها بالمعكوس.

تفرّد الكابلي، باللُّقيات الترنيمية الغوالي. تلك التي لا يعترض طريقها إلى الأفهامِ مُعتَرِض. تستجيشُ بالنفوس الطيبة، لتستقرّ بالوجدان. بذرة نماء لها ثمار، ثم ازدهاءٌ وازدهار. ترنّم الكابلي بلآلئ السودان، ومدّد اهتمامه لأفريقيا وآسيا، فالشرق الأوسط، والمغرب العربي. غابات كينيا والملايو، وأرض سوكارنو؛ وَ مصرَ يا أخت بلادي يا شقيقة، يا رياضاً عَذبة النّبع وريقة، يا حديقة. كلماتٌ ليست كالكلمات، صاغها الشاعر الحداثي السوداني تاج السر الحسن، إكراماً لانعقاد مؤتمرعدم الانحياز. تجاوب كابلي مع نشيد أكتوبر السودانية، بحماسية للشاعر السوداني عبد المجيد حاج الأمين، هبّت الخرطوم في جُنحِ الدُّجى.. ضمّدت بالعزم هاتيك الجراح .. وقفتْ للفجر حتى طَلَع، مُشرِق الهامة مجدول الجناح .. والتقينا في طريق الجامعة.. مشهداً يا موطني ما أروَعه.

تدفّق الكابلي، شعراً مُتحدِّثاً وداعياً مُرَغِّباً، بالحيا والفضيلة، والوعي المُبكِّر والعاطفة النبيلة، وأمانٍ عذارى، تتجمّع في ليلة، فيها زغاريد وحِنَّة وفيها بخور وشَيْلة .. والحالم في ملكُه زي راس القبيلة؛ مُتنزِّلاً إليها بــ: مِنْ قلبي وعُقبالك يا راسي يا زين. وكثيراً ما تودّد الكابلي، أصالةً عن نفسِه الشاعرة ونيابةً عن كُل شجيٍّ أو خَليِّ بِـــ: تاني ريدة وكمان جديدة.. يا قلبي مالك في دروب دلالك تحكُم علي، بعيون سعيدة. ثم استشفّ عبقريُّ الكابلي قصيداً، بما يُشبه “انعدام المَلالة” في لحنِه التَّتيُّمي: كُل يوم معانا ,, وما قادرين نقول ليك.. إنّك في قلوبنا وكم نشتاق لي عينيك .. حنانك يا حالم.

عَمّر الكابلي، آفاق العديدين بلُقياتِه الحميمة، ثم استطرد يغرفُ من التُّراث غَرفاتٍ من القاع، ليست بذات عناء. فالكابلي يعرف، وبالتالي حُقّ له، أن يغرِف، ماهراً، تنأى غَرفاتِه أن تقعْ فيما وقع لبعض بني إسرائيل! عند ذيّاك النهر المقدّس؛ ليشدو بالحَسَن صاقعة النّجِم .. هو البـ حَمي الشهادة والنَّضِم .. هو الليلة .. من الموت ما بي يَهِم. كذلك شدا مُنداحاً حماسا: إتْ بي نيّة ما بتقوم .. وظاهر اسمك كالنجوم .. ومابيخاف في المحاصَة دموم. ذاك الذي هو، الجنزير في النجوم.. زيَّ الهيكل المنضوم ما بيخاف. ثم أبدع الكابلي، في تناوله للتراث، وقد شدا بِــ: جيتك بامتثال صاحبي المِتمِّم كَيْفي .. إبراهيم ثَبات عقلي.. ودرقتي وسيفي.. مطمورة غلاي مونة خريفي وصَيْفي .. سُترة حالي في جاري، ونِسايا وضَيْفي. وتلك معانٍ تزدهي وتزدحم بمكارم الأخلاق، وفق ما تعارفتها الأمم الصالحة. عَبّر كابلي عن زمان السماح والإكثار من التحدِّي والتحدُّث بالنِّعمة؛ وذاك هو الزمنُ الجميل، والغائب! في عُرف مَخضْرَمي زماننا الماثل؛ إنّه لزمنُ سماحة الشيخ سيَّرو .. والذي هوَ: النَّصيح حديدو .. تلاتة قدور محلبية .. وتلاتة قدور ريحة نَـيّة .. نسيبتو قالت: شــوية، وحَرمان ما بدخلَنْ عليّا..! ولعلّ السّامع قد لا يستكْنِه، أنّ مقصود النَّسيبة لا ينطَبِق على حَرفيّة النَّص، بقدر ما يُحيل إلى كون الشيخ سَيَّرو، مُمَجّدٌ بأكثر من أن يُعادِل فَضْلَه – فقط – حِسبة ثلاثة قدور محلبية.

جابَ الفنّان المُبدِع كابلي الآفاق، وتصفّح مجدولات الحِكمة ومجبولاتها، فسَبَح في بحور الشعر العربي، وتضرّع في عروضِ الخليل بن أحمد الفراهيدي، ثم اقتبس من شاعر العربية الكبير، أبو الطيِّب المتنبي، تقدمات لها أوائل وأواخر. حيثُ أخذ من أبي الطيب: ما لنا كُلّنا جـَوٍ يا رسول .. أنا أهوى وقلبُكَ المتبول؛ وازدان من شِعر الفتوة للمتنبي، في رميات شهيرات للكابلي: كم قتيلٍ كما قُتلتُ شهيدِ ,, لبياض الطُّلى وورد الخدود .. وذاك قريضٌ شبابي فوّار بالثورة والاحتجاج، كمثل قول المتنبي: فَــ عِش عَزيزًا أَو مُت وَأَنتَ كَريمٌ ,, بَينَ طَعنِ القَنا وَخَفقِ البُنودِ .. فَرُؤوسُ الرِماحِ أَذهَبُ لِلغَيـظِ ,, وَأَشفى لِغِلِّ صَدرِ الحَقودِ .. لا كَما قد حييّتَ غَيرَ حَميدِ وإذا ,, مِتَّ مِتَّ غَيرَ فَقيدِ .. فَاطلُبِ العِزَّ في لَظىً وَدَعِ الذُلَّ .. وَلَو كانَ في جِنانِ الخُلودِ.

تفجّر الكابلي ينبوعاً من جزيلِ الشعر السوداني، كما عند الشاعر العبّاسي، في قصيدته عهد جيرون: يقول لي وهو يحكي البرقَ مُبتسِماً ..يا أنتْ يا ذا وعَمداً لا يُسمِّيني. أنشأتُ أُسمعُه الشكوى ويُسمعني ..أُدنيه من كَبدي الحَرَّى ويُدنيني. ومُفتتح قصيدة العبّاسي، والتي كثيراً ما ترنّم بها عبدالكريم الكابلي: أرِقتُ من طولِ هَمِّ باتَ يعروني .. يثيرُ من لاعج الذكرى ويشجيني .. مَنَّيْتُ نفسي آمالاً يُماطلني فيها زمانيا من حين إلى حين .. ألقى بصدري جِسام الحادثات ولي .. عزمٌ أصُدُّ به ما قد يُلاقيني.. ولستُ أرضى من الدُّنيا – وإن عَظُمتْ – إلاّ الذي بجميل الذِّكر يُرضيني.

ولأبي فِراس الحمداني، شفيفُ قولٍ وبديعُ إلهامٍ حماسي، طَوَّفَ إليه عزيزنا الكابلي، بــ” أراكَ عَصيَّ الدّمعِ .. شيمتك الصبرُ .. أما للهوى .. نهيٌ عليكَ ولا أمرُ ..” و فيها: مـُعَلّلتي بالوصل والموت دونه .. إذا مِتُّ ظمآنا فلا نزل القطرُ .. تكاد تضيء النار بين جوانحي .. إذا هي أذكتها الصبابة والفكرُ .. وقلتُ كما شاءت .. وشاء لها الهوى: قَـتيلُكِ قالت: أيّهم؟ فهمُ كُثْرُ ..! .. وقالت: لقد أزرى بك الدهـر بعدنـا فقلت: معاذَ اللهِ .. بل أنـتِ لا الدهـرُ .. وما كان للأحـزان لـولاك، مسلـكٌ إلى القلب، لكنّ الهوى للبلى جسـرُ.

كُل ما مضى، لا يعدو بنظري، عن كونِه مُجرّد إلماحَة؛ لما يتفرّد به الكابلي من فَنِّ ولُغةٍ ووجدانٍ سليم؛ بل هو أقرب لأنموذجٍ، ممّا أفاء به المثقف والفنان كابلي، على بني وطنِه وبناتِه. ها هنا، وقبل أن نرفع التحايا وادعات آملات، في أنْ تتسخّر الأمور لعودة كابلي، إلى غُرّة وطنه، وإلى مُتْرَع حُبِّ أهلِه له، فلا مناص من استئناسٍ برويِّ عَذب، يُعرِب فيه الكابلي عن حُبّه للوطن، شِعراً يقول:
أدور حولك بإحساسي .. ربيع بيغازل النوار ..
واشيلك جوّا أنفاسي .. عشان أطفي اشتياقي الحار ..
وبين طاريني لأ..! ناسي .. لقيت الحيرة فيك تحتار ..
كأني حِداك ضُل مشتول .. على دروب الزمن بتـــطول ..
أشوف معناك في كل زول.. شرب من طعمك المعسول ..
ودا الخلاّني فيك أقول .. قَدُر ما يرجى عمرى الحول ..
كلاما بالغزل مغزول .. ولحنـاً في البعاد موصول ..
وكيف ما أشيل هواك فصول .. وقلبي برؤيتك مأهول ..
مسارح صيد.. مهاوي سيول .. شديرات حِنّة فوقا حجول ..
بَرِق عَبـّادي سوّا الهول .. بصدق أفعالو ما بالقول ..
روى اليابس على المبلول .. قـَلَب فرح الحرازة ذهول ..
بعيد بين الوفاهو مطول.. وبين حَفيان يتِبْ معجول ..
عليك الخالق المأمول .. منو الزّيْ ريدي بيك مكتول ..
منو الشالك شرا وقندول .. وسيف بتّار سنين مصقول ..
يبشِّر بيكا في كل زول.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الأستاذ الفاضل الكريم محمد أبو جودة …. مقالك جميل .. كتابة رصينة ولغة جميلة ومعرفة وحب وتذوق للأستاذ الفنان الأديب عبد الكريم الكابلي ….. من المحزن ان يهاجر خارج الوطن وهو في هذا العمر … نسال الله العلي القدير ان يصلح الحال ويرد غربتنا أجمعين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..