تونس : بلد صغير .. ودرسٌ في الديمقراطية كبير !

اجتازت دولة تونس أول انتخابات تشريعية ورئاسية بنجاح كبير، وأسدلت الستار على تجربة جديدة في المنطقة العربية لم يتعود عليها المواطن في هذه البقعة الملتهبة ، وكانت بذلك كمن يُعطي درساً لكل الأنظمة الفاشلة في المحيط العربي، ولشعوبها المنهوكة والمغلوبة التي تأملت خيراً بـ”ربيعه” الذي أطاح بدكتاتوريات بغيضة وباطشة أذاقت شعوبها الأمرين على مدى عقود طويلة ، وكانت بداية شرارتها تلك التي أشعلها الشاب التونسي محمد البوعزيزي .

الجولة الثانية من الانتخابات انتهت بفوز الباجي قائد السبسي ، مؤسس ورئيس حزب “نداء تونس” ، وبخسارة الرئيس المنتهية ولايته منصف المرزوقي الذي كان أول من بادر بتهنئة خصمه الفائز، ودعوة مناصريه ومؤيديه الذين صوتوا له بـ(القبول بنتيجة صندوق الانتخابات، وبما أفرزته قواعد اللعبة الديمقراطية) حسب تعبيره، داعياً إياهم العودة إلى منازلهم وأعمالهم والاستعداد لإنجاح التجربة الديمقراطية الجديدة، وبناء تونس الجديدة.

ورغم الظروف التي تمرُ بها تونس ـ هذا البلد العربي الصغير في حجمه، والكبير في مستوى وعي شعبه وتحضره ـ إلا أن عملية الانتخابات الأولى (اختيار برلمان تشريعي) ، والثانية لاختيار رئيس للدولة، تمت كلها في جو مستقر وحضاري يجب الإشادة به والتنويه له. ففي حين فشل حزب النهضة الإسلامي الذي يقوده راشد الغنوشي، والذي فاز حزبه في الانتخابات السابقة التي أجريت بعد سقوط نظام الرئيس المعزول زين العابدين بن علي، ولم يحالفه الحظ في هذه الجولة فحل ثانياً في الترتيب، فقد جاء قبول الغنوشي وجماعته بالهزيمة والجلوس على مقاعد المعارضة، ذكاءً من هذا السياسي المخضرم، ودرساً ـ وعبرةً لمن يعتبر! ـ يجب أن يستوعبه الآخرون ممن يؤمنون بقواعد اللعبة الديمقراطية وأولها التبادل السلمي للسُلطة والقبول بنتائج صندوق الانتخابات دون تزوير ولا عناد.

لقد قرأ الغنوشي جيداً “خريطة” الأحداث التي عصفت بجماعة الإسلام السياسي في دول الربيع العربي، كما فهم بحنكته السياسية المتمرسة “أن رياح التغيير” لا تهُبُ لصالح حزبه وجماعته. فما حدث لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وما تلا ذلك من “توسونامي” الأحداث التي وضعت هذه الجماعة في مواجهة مع أكثر من دولة في المنطقة حتى أنها صُنفت كجماعة إرهابية في دول عديدة، كان ناقوساً تنبه له الغنوشي الذي تفادى المواجهة، مؤكداً على حنكة سياسية وذكاء يندُر أن تجده في منطقة تجلس على برميل بارود مشتعل، ولم يكُن أمامه غير “الانحناء” للعاصفة التي اجتاحت المنطقة بأسرها، وهو تصرفٌ معمول به في الساحة السياسية التي تقول قاعدته “أن السياسة هي ، فن الممكن” .

وبالعودة إلى نتائج الانتخابات الرئاسية التي أتت بحزب نداء تونس الذي يقوده السبسي إلى سُدة الحكم، فيجب الإقرار بأنها تجربة فريدة في المنطقة العربية التي تعود فيها المواطن العربي على نتيجة ليس لها مثيل في التجارب الديمقراطية في العالم، وهي نسبة الـ(99,9) في المئة التي تتمسك بها أغلب الأنظمة والأحزاب التي تخوض غمار السياسة في المنطقة. فالجو الذي أجريت فيه الانتخابات، والسلوك الحضاري المنتظم والهدوء الذي اتسمت به العملية، هي في مجملها دلالة على رُقي الشعب التونسي الذي كانت ثورته التي أشعل فتيلها “البوعزيزي” ثم ما لبث لهيبها أن عمَ أغلب الدول العربية، رفضاً للظلم وبحثاً عن حياة إنسانية كريمة، ولقمة عيش حلال، وحُرية افتقدتها هذه الشعوب طويلاً، فكان الفتى التونسي الشاب بمثابة “عود الثقاب” الذي أشعل المنطقة بأكملها، وسرت عدوى الثورة التونسية كالنار في الهشيم العربي البائس!

ولئن كان من إشارة مهمة ينبغي التنويه إليها، فهو ما أقدم عليه الرئيس المُنتخب الباجي قائد السبسي والذي أعلن تخليه عن رئاسة الحزب الذي أسسه، بل وقاده إلى الفوز بأول انتخابات في تاريخ بلاده ، وأعقب هذه الخطوة الشجاعة وغير المسبوقة، بخطوة أخرى بإعلانه في أول ظهور له وسط مؤيديه المحتفلين بفوز حزبهم، بأنه سيكون رئيساً لكل التونسيين، وأنه وحزبه لن يمارسا إقصاءً لأحد ولا لحزب، فالكل تحتاج إليه تونس، حسب تعبيره. كما أنه أشاد بمنافسه المنصف المرزوقي الذي قال عنه، أن البلاد تحتاج إلى خبرته، وأنه شخصياً ـ أي السبسي ـ لا يستغنى عن استشارته. وهو سلوك محترم وفريد من رئيس اختارته جماهير حزبه وشعبه عن قناعة ورضا، وتُعبر عن حنكة سياسي ظل لاعباً أساسياً في الحلبة السياسية طوال سني عمره التي تجاوزت الثمانين قضى أغلبها إما وزيراً وسفيراً.

لقد كان الحدث في حد ذاته ـ كما أسلفنا ـ درساً يجب الوقوف عنده طويلاً وتأمله من كل جوانبه التي انتهت إليها التجربة الوليدة في بلد صغير، بنتائج كبيرة تدعو التونسيين إلى الفخر بما جرى عندهم. وهي دعوة لبقية دول المنطقة الأخرى التي تبحث عن مصالح شعوبها ـ أو هذا ما يُفترض فيها ـ لكي تستوعب الدرس، وتقتدي بما جرى في ذلك البلد العربي، بلا فوضى ولا عُنف ولا عناد سياسي تكون الشعوب هي من تحصُد نتائجه السيئة.

فهنيئاً لشعب تونس بهذه التجربة الفريدة، وهنيئاً للمتنافسين اللذين أقرَ كلٌ منهما بحق الآخر في ممارسة رشيدة وناجحة.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..