سُـطوعُ الكهْـرمـان: رسالة إلى الفنان حسين مأمون شريف في ذكراه العاشرة..

(1)
لقد قررتُ أن أراسلك هذه المرّة، أيها الرّاحل العزيز، وأنت في برزخك السّرمدي ، ترانا بروحك الحية ولا نراك بأطرافنا الفانية. تستيقظ فينا شاخصاً كالشمس وساطعاً، فيما نحن في غفوات ظلام الانكسار، وتشقق جدران الوطن. تعتب علينا ولا نعرف كيف تكون إجاباتنا على تساؤلاتك، بعد أن فارقتنا في يناير عام 2005..
لكني اتذكرك اليوم، وأعرف تماماً أنك تنتظر صديقاً قديماً أن يهمس إليك بما قد يتذكره معك. أنت أيّها الراحل مِمّن ظل يمسك بقلبٍ واجف، وطناً عذبك الانتماء إليه، ورحلتَ عنه وقتاً طويلاً. طال ارتحالك قسراً وأنت القمين بالبقاء مقيماً في ديار جدّك الإمام عبدالرحمن المهدي، حتى لحقت ببرزخك من حيث أنت، بعيداً عنه أبدا..
(2)
تسألني عن السينما…
صادف أكتوبر عام 2014 جهداً سويسرياً صادقاً لإخراج قصة الطيب صالح “موسم الهجرة”، فانفتحت الشهية لأن ينعقد مؤتمر الرواية الذي يقيمه مركز عبدالكريم ميرغني سنوياً هذه المرة، تحت عنوان “الرواية والسينما”. جهد الأصدقاء في المركز وفي جماعة الفيلم السوداني، ليكون ساحةً جادةً لإحياء الوجدان السينمائي الذي التبس على أبناء هذا الجيل. أستعيد معك أيها الراحل العزيز، عذاباتك وأنت تستمتع بجولاتك بين أم درمان وسواكن، للتحضير لشريطك المُميز “انتزاع الكهرمان”، وقد كنت معكم في مصلحة الثقافة، نقترب من إبداعكم اقتراباً تشوبه الرهبة وتخالطه المتعة.
عقد المؤتمر الذي أحدثك عنه، بعد عناءٍ ومجاهداتٍ مع السلطات الأمنية لانتزاع ـ ليس الكهرمان ـ ولكن التصديق بإقامة المؤتمر، فتأمل..! تداول المؤتمر في ديسمبر من عام 2014، حول روايات جرى تحويلها إلى شرائط سينمائية، مثل “عشيق الليدي تشاترلي” و”عرس الزين” و”الحب في زمن الكوليرا” و”بركة الشيخ” وغيرهم. تحدث الدارسون في أوراق رصينة عن الأفكار السينمائية والإخراج وتقنيات السينما. في ختام المؤتمر، حظيت أعمال السينمائي الكبير ابراهيم شداد بتكريمٍ خاص.
تركتنا يا صاحب “انتزاع الكهرمان”، ونحن على حالنا السينمائي البائس. لا نكاد نتذكر يوماً زار فيه الخرطوم بدعوة من مدير مؤسسة السينما الأستاذ الراحل على المك، موسيقار يوناني كبير هو “كازانتزاكيس”، لتدشين عرض فيلم “زد” الشهير، وهو الذي وضع موسيقاه. و “زد” هو فيلم روائي مناهض للأنظمة العسكرية والانقلابات. غادرتنا أيها الراحل، ونحن نشخص إلى دور السينما القديمة في كولوزيوم في الخرطوم، وسينما بانت وسينما الوطنية في أم درمان، وسينما الوطنية في مدينة بحري، فنرى أطلالاً آيلة إلى السقوط. أما سينما النيل الأزرق وقد شهدنا على شاشتها ونحن طلاب في جامعة الخرطوم المجاورة لها، أفلاماً يؤرّخ بها، مثل فيلم “رجل لكل المواسم” و “بيكيت”، فقد صارت ويا للحسرة مقراً لإذاعة “أف. إم” القوات المسـلحة، فمــن يحدّث عن “زد” و “زد” هـو حــرف الحرية والحياة..؟
(3 )
تسألني عن الكتابة والكتب.. دعني أحدثك قليلاً عن جهد شبابٍ ناهضٍ متطلع لامتلاك نواصي الإبداع الكتابي، فابتدعوا “أزبكية” في قلب الخرطوم سمّوها “مفروش”، عند باحة “آتينـيه” المحاطة ببنايات أبو العلا. أكيد أنك تعرف تلك البقعة الجميلة في الخرطوم عند بزوغ فجر الاستقلال. يأتي الناس إلى “مفروش” بما فاض عن حاجتهم من كتبٍ ومجلاتٍ قديمة ليتبادلونها في أريحية ومحبة صادقة للكتابة الابداعية والكتب المستعملة النادرة: من كان عنده فضل كتابٍ فليعد به على من لا كتاب له..!
احتفى الناس بالمبادرة الجميلة لتسهيل أمر الحصول على الكتب المطبوعة بطرقٍ تلقائية وعفوية، وانبرتْ أقلام معجبة تمتدحها، بل وفضائيات عربية روّجت للفكرة المبتكرة، في زمانٍ ثقل على الناس اقتناء الكتب وقد استبهظت أثمانها، كما بعُد عن الكتب من أغوته الشبكة العنكبوتية فاستغنى عنها تماماً.. كنت فرحاً حين حلّ يوم الثلاثاء وهو اليوم الراتب لـ”أزبكية” الخرطوم، وفي أول أسبوع في العام الجديد، فوجئت ـ وقد دلفت عصراً إلى الساحة ومعي أكثر من مائتي شخص ـ بأن الكتب غابت في ذلك اليوم. لماذا..؟ حدثني صديقٌ هامساً، أن التصديق بإقامة “الأزبكية” قد سُحب لأسبابٍ أمنية..!
لكَ أنْ تعلم أيّها الرّاحل العزيز، أنّ الخرطوم الرسمية قد احتفتْ في مساء ذات اليوم، بتدشين مائة كتاب جديد صدرتْ برعاية كريمة من وزارة الثقافة في ولاية الخرطوم، ومن سخاء دافعي الضرائب من أبناء وطني. وتبادر إلى ذهني سؤالٌ مُلحّ: الخرطوم التي باتت تكتب وتطبع، هل صار عليها أن لا تقرأ..؟ حاسة الشم الأمنية تشمّمت أن جماعات تتلاقى في “أزبكية آتينيـه” لحاجة سياسية في نفس يعقوب..!
برغم ذلك يظل حلمنا أن نجد طريقاً سلساً لنشر إبداعك الشعري، نزيّنه كتاباً يحدّث عن فنانٍ شامل، ملك الشعر والسينما والتشكيل..
( 4)
ستسألني وسأجيبك قدر استطاعتي، عما أعرف عن فيلمك الذي لم يكتمل انجازه عن “أبي داؤود”.
ها قد مرّ عقد كامل على رحيلك عن دنيانا الفانية، وأنت تعرف أيّها الرّاحل العزيز، أن المادة الخام التي أعددتها وأنجزت أنت تصويرها عن صفيّك الراحل “عبد العزيز داؤود”، هي في حرزٍ أمين عند كريمتك الدكتورة إيمان، وهي الأحرص منا جميعاً على إرثك الإبداعي المميّز. من لم يعرفوا عمق مودتك لـ”أبي داؤود” من أبنائه، لا أحمل عليهم وزر مضايقة حلمك في أن يخرج الفيلم الذي وعدتنا به، توثيقاً شيقاً لرفيق عمرك وصديقك الكبير “عبد العزيز محمد داؤود”. يلجأ الناس للمسكنات من الأدوية، وأنت الذي حين يدندن لك “أبو داؤود” بغنائه العذب، تزول عنك علتك على الفور. حكى صفيُك علي المك وأسهب في ذلك وأوفى.
صديقي الفنان عصام عبد الحفيظ، والذي صار جزءاً من أسرتك الصغيرة وبنى بنصرة صغرى كريماتك، أمسكَ بحلمك البديع، وتشاورنا معاً أن نجد سانحة ثلاثتنا: عصام وإيمان وأنا، ليخرج هذا العمل الكبير إلى الناس. شريط “أبي داؤود”، لن يجيد الإمساك به إلا من أوتيَ حظاً يماثل حظك في النظر مليّاً فيما فعل “أبي داؤود” بفن الغناء والطرب في السودان، وعصام تلميذك أهلٌ لذلك..
لك أن تلومنا في الذي تراه من تقاعس، ولكن لو عرفت ما نحن فيه مما جدّ في الساحات الإبداعية زماننا هذا، ستجد لنا ألف عذر.
(5 )
ليتك تسألني أيّها الراحل العزيز، عن ذكرى صدور مجلتك “21 أكتوبر”.. قليلون الآن من يتذكرون تلك الإصدارة .. !
لقد مرّت الذكرى الخمسين لتلك الانتفاضة الكبرى في 21أكتوبر من عام 2014، ولم يحسّ أكثر الناس بتجاوب نبضهم معها. كان للشهيد الذي أشعل مماته برصاصة غدر قاتلة، جذوة الثورة في الأربعاء الرائعة يوم 21 أكتوبر من عام 1964، ذكر وأيّ ذكر. مجلتك نطقت بصوتك فكان الإبداع يجري في دمك، رسماً وتشكيلاً وشعراً وسينما…
كتبتَ يا حسين لوحات شعرية مبهرة، طرفاً أترجمه عنك هنا، وقد سميت قصيدتك “مرثية لحُمّى ميتة”:
لقد كنتَ أنتَ الزنـابـق
وها هو الليــل
يتسرّب خلالـك
مياهاً داكنة الســواد
كيفَ كنا نحن الاثنان، واحدا
وكان لونـك
لون الذهـبِ
أو لون العسـلِ
أم هو اللهيـب. . ؟
ثم أعثر عليـك
تحت جفنيّ المغمضين
بلا وجـهٍ
في فضـاءٍ فسيــح
يكون أجوفـا
بعد مُنتصف الليــل..
بعد هذا الشعر الجميل، لم نجد أثراً لمجلتك. فات علينا أن نقول إنها الصوت الإبداعي الأول عند بزوغ ربيعنا العربي في السودان منتصف أعوام الستينات. ولكن غاب ذكر الربيع السوداني في 21 أكتوبر، والذي علقه الشعب السوداني تاجاً على رأس كل فرد فيه، فلا تثريب إن ضيعنا ذكر مجلتك الجميلة. بل لا تثريب إن ضيعنا ذلك التمثال للشهيد “القرشي” والذي أنجزته أصابع فنانٍ مبدعٍ، وزيّنا به حديقة المكتبة في جامعة الخرطوم. في حساب بعضهم أنه صنم من أصنام الجاهلية قبل الرسالة..! يكفى أنك أوقفت مجلتك بيديك، وأنت ممسك بقرشاتك وبلوحة ألوانك، فما طالتها مقاصل قضاة الحلاج في نهار يومٍ من عامٍ قفزوا إلينا فيه من حيث لا نعلم، فسحلوا تمثال “القرشي” سحلاً، تململ الشهيد منه في قبره..!
( 6)
أستميحك هذه المرّة، أيّها الراحل العزيز..
إن أم درمان قصيدة في قلب ألوانك، وهي بعض شعر فرشاتك، وتشرّبتَ أنتَ من رحيق أشجارها بأطراف النيل، سعدتْ بك وسعدتَ أنتَ فيها. سأتولى طرح اقتراحٍ بأن يحمل اسمك حديقة غنّاء فيها تسمّى “حديقة حسين شريف”، أو طريقاً مطروقاً يسمّى “شارع حسين شريف”، يليق بذكراك في أحد عظيم أحيائها. أسمع عن أسماء طرقات رسخت في قلب الخرطوم، فقدت معناها زماناً وتخطاها التاريخ. ماذا يعني لك- مثلاً- اسم “البلدية” لشارع هو الرئة في الخرطوم..؟
أعرف أن الخلود يحيط باسمك، من حيث إبداعك قائماً فينا، ولوحاتك التي حدثت بغموضها الأزرق عن جمال روحك عالقة بذاكرتنا. هي سنة استنها الناس لجعل الوفاء لمن بذل، حقاً ثابتاً نُجلّ عبره مبدعين، كانت إطلالتهم على الوجدان ثابتة راسخة…
نم هانئاً أيها العزيز، فلذكرك خلود، ولاسمك رسوخ ولإبداعك بقاء مستدام..
=====
الخرطوم- 14 يناير 2015
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. مسكين بقيت تجتر الزكريات وتتباكى على الماضى ايها العجوز المتصابى
    ليه نسيت تكلمو عن دهنستك لمن كنت عضو ومعين نفسك ناطق رسمى باسم لجنة انتخابات الخج والخمج
    حتى البروف ضاق بيك ذرعا وطردك
    مسكين مسكين يا ابيض اللون

    تكلم تكلم
    انك عاجز عن الكلام مالى ارى اسنانك بيضاء وعظمك ابيض ملتحم كبياض واحد؟
    تلكم تكلم
    مسكين ابيض اللون
    انك مرفوع الراس وكرعيك خاويات كانك فى تانى دور
    مسكين ابيض اللون
    تكلم تكلم
    مسكين مسكين مسكين ابيض اللون

    محى الدين محمد خوجلى الياس “المطرب والشاعر”

  2. مسكين بقيت تجتر الزكريات وتتباكى على الماضى ايها العجوز المتصابى
    ليه نسيت تكلمو عن دهنستك لمن كنت عضو ومعين نفسك ناطق رسمى باسم لجنة انتخابات الخج والخمج
    حتى البروف ضاق بيك ذرعا وطردك
    مسكين مسكين يا ابيض اللون

    تكلم تكلم
    انك عاجز عن الكلام مالى ارى اسنانك بيضاء وعظمك ابيض ملتحم كبياض واحد؟
    تلكم تكلم
    مسكين ابيض اللون
    انك مرفوع الراس وكرعيك خاويات كانك فى تانى دور
    مسكين ابيض اللون
    تكلم تكلم
    مسكين مسكين مسكين ابيض اللون

    محى الدين محمد خوجلى الياس “المطرب والشاعر”

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..