الفنان الشامل!

تستخدم كلمة فنان في الثقافة السودانية لتوصيف المُغني، أي المطرب. وهي ترتبط كذلك بالتشكيلي فيقال “فنان تشكيلي” ويقال “فلان فنان” أي يجيد مهارة معينة أو له موهبة بعينها وهذه تقال في الحديث العام، ولكن قلما وفي الحديث الجاد أن تستخدم في توصيف المبدع في فئات أخرى من أوجه الفن والثقافة. ومن العبارات التي يدرج استخدامها عبارة “الفنان الشامل” التي أرى أنها ساذجة وليست لها أي معنى واضح وإن كان يقصد بها ذلك الذي يجيد كل شيء، ولكن في سياق أيضا وغالبا ما يكون له علاقة بالغناء والدراما والمسرح، وأضيف لها حديثا المونولوج.
دائما ما تشير الاصطلاحات أو المفاهيم المستخدمة في أي مجتمع معين، أو داخل ثقافة ما، إلى الوعي الثقافي والمعرفي، وبقدرها تتكشف حقائق: إما الشعور بالفخر الحقيقي أو على العكس المأساة التي هي أبرز تجسيد لوجه لم يكتمل يكون لنا أن نقابله بالصمت بدلا من أي ألوان أخرى للخديعة المتأتية عن الكلام.
ولعل بيت المصطلحات السودانية أو “السودانوية” مليء بالكثير من العبارات التي هي في خلاصتها وليدة زمانها وإملاءات ما يتحرك في الشارع العام وفي الفضاء الكلي للمجتمع في المرحلة المحددة، تتلون بتلونها وربما سرعان ما تتغير، لكن هناك ما يبقى ولأسباب نوستالجية بحتة. فإلى الآن نجد ثمة من يصر على استخدام عبارات كانت سائدة في فترة ما يعرف بـ “الزمن الجميل” الذي عاد نسيا منسيا، كما أن الاصطلاح نفسه ضلالي وغير مؤسس له، فالنظرة إلى الزمن شأن نسبي وجماله ليس إلا قياس شخصاني بحت وليس لمجموعة معينة أو تيار بعينه.
أعود لفكرة “الفنان الشامل” حيث يظن البعض أنهم قادرون على فعل كل شيء، وأنهم موهوبون في كل شيء تماما باعتبار أنهم كائنات ذات عبقرية فائقة أو هم “فلتات” زمانهم، فهم رسامون وشعراء وممثلون وعازفون ومطربون ولا بأس لاعبو كرة قدم وربما سلة حتى لو قصرت القامة. وهذه النماذج كثيرا ما نجدها في المجتمع، والتي إما تتحول إلى مثار سخرية وهي في النهاية تفقد كل المواهب ولا تعثر على موهبة لتتمسك بها، أو أنها تصبح نجمة في سماء قاحلة حيث يصفق لها ويقاس عليها وبالتالي تتحول إلى أيقونة “ضليلة” يشار إليها. وإذا كان يمكن أن نفهم أن شخصا ما يمكن أن يكون له موهبة أو اثنين او ثلاث لكن من المستحيل أن يكون ذلك الشخص له عشرات المواهب وربما كان ذلك في الصورة الثانية له إذا ما عكسنا الوجه، لنرى الحقيقة، يعبر عن بحث، عن الذات ولكن في محيط مسموع ومشاهد، فثمة من يبحث عن ذاته ولكن في إطار سري حتى يكون قد خرج إلى الناس على أنه صاحب الملَكة المحددة، ولكن هناك من يمارس التجريب ليعلن أنه كل شيء.
إن تحديد مواهب الأجيال والأفراد في المجتمع في سن مبكرة يساعد جدا على أن يكونوا فاعلين في البناء الاجتماعي الإيجابي، وهو أمر مفقود في ثقافتنا، ففي سن معينة فكل أبناء الحي يلعبون كرة القدم لتظن أن كل منهم سوف يصبح نجما عالميا، ولكن لا أحد منهم يصبح لاعبا مرموقا وقليل منهم أساسا له موهبة يمكن الانتباه لها بجد كلاعب. وهنا تتحول كرة القدم مثلا إلى نشاط اجتماعي أكثر من علاقتها بفكرة الموهبة. وفي مرات يكون الجميع ممثلين أو صناع نكات وطرائف أو شعراء أو ما شئت من الأنشطة بما فيها الغناء الذي بات موهبة من لا موهبة له.
والمجتمع في سياقه الكلي من جانب آخر يقع تحت إشكال عميق يتعلق بالفرز والتقييم، فليس ثمة ما يكفي من المساحة الزمنية والوعي الكاف في ظل الضغط الحياتي لأن تأخذ الأشياء مسارات منطقية أو عقلانية في الفرز، فيصعد من يصعد ويهبط من يهبط دون أدنى التزام بالشروط التي من المفترض أن تكون ذات أولوية في تقييم المواهب أو العبقريات. وهذا يعني أن كثيرا من ملتزمي الحياء والحياد سوف يخرجون عن الدرب ليكونوا في خلاصة الأمر مجرد “كومبارس” في سكة الحياة، ولهذا يفرز المجتمع في النهاية وفي ظل نسق السلطة العام الذي لا يحفل بالموهبة أيضا ويحتفي بالغباء أحيانا، أشكالا من الرموز أو الأسماء على شاكلة فنانين شاملين ومواهب نادرة وأفذاذ هم صنيعة الخديعة. مواهب سياسية فاشلة واقتصاديون لا يعرفون كيف يتقاطعون مع الاقتصاديات الحديثة ولا فلسفات التغيير العميق. ومدرسون ليس لهم من قدرات أبدا في مهارات التربية والتعليم، وهكذا يعمم المشهد إلى رجل الشرطة الذي تجده ليس موهوبا في مجاله. فالمفترض أن الموهبة، ونقصد بها الاستعداد الكافي لأن يكون الفرد في موقع معين أو يؤدي عملا معينا أو يمتاز في فن أو نشاط معين، أنها هي عملية منظمة تخضع للمراجعة التي تجعلها مفيدة للحياة الكلية في الدولة والمجتمع بما يخدم عجلة النماء الإنساني ويساهم في رفد المستقبل بالأفضل نحو الآمال المنشودة. لكن ما يحدث هو الخيبة والفشل وتراكم التجهيل والاستخفاف بالعقول، بحيث يمكن القول إننا أصبحنا في مجتمع لا نعرف فيه الحدود الفاصلة بين الأخلاق والبذاءة أو الحياة والموت، كما أن الفرد أصبح يفتقد لحاسة التمييز أو القراءة الواعية التي تمكنه من الحكم على الأشياء وموضعتها في السياقات السليمة لها في صيرورة الحياة الكلية. ونتاج ذلك يصبح مزيدا من التردي العام في الأوضاع الإنسانية وفي التراجع “الشامل” وفي سيادة معايير عامة للفرز ليس لها من قيمة سوى أن صانعها غير عارف وغير مدرب وليس له أبدا ما يؤهله للقول ولا الفصل وهو في النهاية نتيجة هذه الصورة المشروخة التي يكاد الكل يقف أمامها حائرا وهو يكلم نفسه بأن الحال لن ينصلح.
إن فشل المجتمع أو الدولة في إدارة المواهب وتحديد مواقع الناس بشكل سليم وفق قانون الحرية لا التوجيه الملزم، يعني في النهاية تحويل المشهد برمته إلى خارطة للفوضى تتجه بالجميع نحو دمار “شامل” قد لا يشعر به إلا قلة يظل هاجسهم الطرق بقوة على الأذهان بأمل أن يتغير الواقع، ولكن لا حياة لمن تنادي ففي ظل تماهي قانون القمع والتخويف والحكم على المعاني السامية على أنها قشور فاسدة وتمادي “العبط” على أنه معنى جليل فسوف لن نرى أي جديد. علينا أن ننظر بقوة إلى مرآة الواقع وبقوة أشد إلى محيطنا الإنساني والكوني لنكتشف حجم البؤس الذي يسكن شعوبنا، حجم المأساة.. والانسحاب من سلم الحياة الراقية التي هي أمل كل كائن وهي سيرة الإنسان المفترضة ومغزى وجوده الحقيقي وما سواها إلا مشروع لحياة وليس أي شيء آخر. إنها الحقيقة المرة أحيانا. لكن إذا كان العماء يهيمن على المتسلطين وهم درجات لا تحصى ولا تعد فليس من كائن ليرى غير البقعة المعتمة التي يجلس في مركزها “فنان شامل”…!!!
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..