عجباً…

عجباً…
عبد الجبار محمود دوسه

حمّى الثورات التي تغلغلت في المنطقة تتمدد، والتمدد أكثر استحكاماً من الإنتقال، وليس ممكناً بالطبع محاكاتها بزائرة أبي الطيب المتنبيء من الحمّى التي قال فيها:
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
ولكن حمّىَ الثورات من فرط ما فاض بها وبصبرها وبتشبث الحكام بتلابيب السلطة آثرت أن تزورهم نهاراً جهاراً، فما من حاكم في المنطقة إلا وقد بدأ يتحسس تحت قدميه وما حوله، إذ هم لم يعملوا لهذا اليوم ولكن عملت الأيام عليهم. لم تسر بعد الحكمة القائلة ” العاقل من اتعظ بغيره” وبقدرما كانت الحالة في مفهوم “الغير” الواردة في الحكمة مطلقة في مضمون الفعل مبعث العظة بحيث يتّسع الأمر ليعطي الحكمة عمقها الإستيعابي، إلا أنها في حالة حمّى الثورات التي ضربت المنطقة تكد تتطابق في كل شيء بما يمكن الذهاب إلا أن نطلق عليها كلمة استنساخ، ومع كل ذلك ما زال النظام في السودان يتعامى حتى في إعلامه ولعله في دواخله يرتجف من الخوف كما يرتجف الماء في المغلاة من حرارة النار تحتها لكن الإناء يخفي ارتجافها عن الناظرين. قد يقول البعض بأن الشعب التونسي قال بأن نظامه كان قاسياً عليه فقتل بعض الأنفس وعذب أخرى وشرّد المئآت لذلك ثاروا عليه وأسقطوه، وعلى نفس المنوال كان قول الشعب المصري فكان مصير النظام على منوال ما سبقه في تونس.
بلغت الحمّى دولاً أخرى، وينقل الإعلام أن النظام في ليبيا قد بدأ يقصف المدنيين بالطائرات، شاهدنا رد فعل المراقبين والمحللين في الإعلام ووصفهم لفظاعة ذلك، ولعل أبرز أؤلئك الذين استضافتهم قناة تلفزيون “الجزيرة” للتعليق على ما يجري في ليبيا ضمن تغطيتها للأحداث يوم الإثنين 21/2/2011، الشيخ يوسف القرضاوي الذي بلغ حداً من التفاعل ولم يترك وصفاً من أوصاف الإنكار إلا وأصبغه على الحالة هناك، بل إنه أفتى منادياً الجيش الليبي بما معناه أنه يرى أن يقوم أي فرد منه ويطلق رصاصة على الزعيم الليبي معمر القذافي ليريح العباد منه لأنه كما قال، يبيد الناس. هذا مضمون ما ذهب إليه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في وصف الأحوال في ليبيا، وندرك وقد تابعنا تفاعلات الشيخ مع الأحداث في تونس وفي مصر عبر أحاديثه من خلال الإعلام.
لكن العجب الذي دعاني إلى استدعاء الذاكرة حول أحداث دارفور التي ارتكب فيها النظام السوداني الحاكم إبادة جماعية مستخدماً كل صنوف الأسلحة بما في ذلك الطيران وعلى نطاق واسع، فقتل مئات الآلاف وشرّد الملايين ولم يترك جريمة من جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية إلا ارتكبها ضد الأبرياء الذين يقطنون على هامش الحياة وكثير منهم لا يعرف عن السلطة شيء لأنها لم تزره أبداً، وعلى إثر ذلك بات رئيس النظام متهماً ومطلوباً لدى المحكمة الجنائية الدولية بجريمة الإبادة الجماعية، وهي أم الجرائم في كل الشرائع، وفي عذر أقبح من الذنب خرج رئيس النظام واعترف بأن الذين قُتِلوا في دارفور لا يزيدون عن عشرة آلاف!!!
ولمّا بدأ ضمير العالم يتألم على إزهاق ذاك القدر الجماعي من الأرواح وقد حرّم الله جلّ شأنه إزهاق أي روح بغير حق في أي مكان وفي أي زمان، كما أنه سبحانه قد كرّم الإنسان بإطلاق المسمّىَ، أي ليس هناك تخصيص بين بني الإنسان في هذا التكريم، ولعل أحد خصائص ميزة العقل أن يستخدمه في ترجيح الحق على الباطل، والشيخ القرضاوي أعلم منّا بذلك. قلت لما بدأ ضمير العالم يتألم، إنتدب الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين والذي يترأسه الشيخ القرضاوي، انتدب وفداً برئاسته وآخرين للوقوف على حقيقة الأمور في دارفور، ذهب الوفد وقضى خمسة أيام التقى فيها بالحكومة وزار فيها معسكر (أبوشوك) الذي يقطنه ما لا يقل عن 50 ألف نازح ويقع في أطراف مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، وهو أحد عشرات المعسكرات التي ضمّت أكثر من إثنين مليون نازح، وقد سبق أن قلت أن أؤلئك النازحين لم يؤمّوا تلك المعسكرات سياحة وتصييفاً.
عاد الوفد إلى الخرطوم وأصدر بياناً بتاريخ 7/9/2004 يمكن أن نطلق عليه أنه تأدية واجب الضيف على مضيفه، وجاء ضمن البيان استنكار ما يردده الإعلام العالمي من أهوال عما يجري في دارفور، علماً بأن ما جرى وما زال، ليس على يد غازي وإنما على يد الحكومة نفسها، إليكم نصّ ما يمكن أن نسمّيه خلاصة البيان حيث جاء فيه: “إنه على الرغم من قيام حالة إنسانية تقتضي تدخلاً سريعاً من المؤسسات الإسلامية والعربية والأفريقية الإغاثية فإن الإعلام العالمي قد بالغ في تصوير هذه الحالة تصويراً يفوق الأمر الواقع، حيث نُشرت أخبار عن التطهير العرقي، والإبادة الجماعية، والاغتصاب الجماعي تبين الوفد أنها عارية عن الصحة”. هكذا ببساطة يقول الوفد “تبين أنها عارية من الصحّة” أسقط الشيخ القرضاوي ووفده كل تلك الجرائم وبرأ الحكومة وكافأها، حقاً قولة الحق في كل المواقف ودون محاباة ورفض الظلم، ثِقل لا تستطيع حمله إلا الضمائر الحية والعامرة بإنسانيتها، وهنا أترك للشيخ أن يضع نفسه موضعها. وإثر ذلك برز عندي وعند كل مواطن من دارفور سؤال عن موقع إنسان دارفور في مخيلة الشيخ، والحقيقة بقي السؤال قائماً حتى يحكم الله في الأمر.
اليوم بعد مضي سبعه سنوات من زيارة ذلك الوفد، ما زال النظام السوداني يقمع المواطنين الأبرياء، ولعل التقارير الأخيرة تقول أنه بدأ تكرار سلاح الإغتصاب في الخرطوم مع اللائي تم القبض عليهن في المسيرات الأخيرة التي خرجت منادية بإسقاط النظام. وبإسترجاع خلاصة بيان وفد الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين عن أحداث دارفور ومتابعتنا وسماعنا لأقوال رئيسه الشيخ القرضاوي عن الأحداث في تونس ومصر وليبيا والتي تألمنا ونتألم بشأنها رغم أنها بالمقارنة مع ما تم في دارفور ليست سوى قطرة من بحر، أجد أن السؤال ما زال يؤرّقني، وبما أن الشيخ القرضاوي أفتى في شأن العقيد القذافي بما ورد على لسانه في لقائه في قناة الجزيرة في يوم الإثنين 21/2/2011 وهو لم يذهب إلى ليبيا، كما وجّه نداءاً من قبل للجيش التونسي والجيش المصري والآن الجيش الليبي بالإنحياز إلى الثورات لإسقاط حكامهم، قلت ربما أراد الشيخ أن يصحّح تلك الذلّة في شأن دارفور وفي شأن السودان، فكلنا خطآوون وخير الخطائين التوابون، تُرى هلّا تفضّل الشيخ وأفتانا عن البشير ونظامه عما جرى وما زال يجري في دارفور وفي السودان كله من قمع من النظام.
عبد الجبار محمود دوسه
22/2/2011

تعليق واحد

  1. بارك الله فيك أخي عبد الجبار ولكن لا تتعب نفسك كثيرا فان الشيخ القرضاوي ينادي بانظمه في ليبيا ومصر وتونس مثل نظام البشير وهو لا يرى فيه عيبا لان ما قام به في دارفور جهاد في سبيل الله ومحاربه لمخططات الصهيونيه فلماذا نعيب على القرضاوي اذا كان جل الشعب (السوداني) يريد ذلك ويؤيد البشير في افعاله والدليل على ذلك كما تفضلت بالسؤال الاستاذه مريم تكس عام 2005 كل اطفال العالم في مختلف البلدان تبرعوا اكثر من مره بوجبة افطارهم لاخوتهم في الانسانيه بدارفور فماذا قدم اطفال السودان ورجال السودان ونساء السودان وشرفاء السودان لاهل دارفور فقد اتت الاجابه الواضحه والصريحه تأيديهم للبشير ورفض ادعاءات اوكامبو ودعمهم لما يقوم به من كنس لاذيال الصهيونيه الخونه والمارقين وتأمين البلد وان كان على اجساد اهل دارفور او غيرها ممن هم خارج المثلث

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..