أساتذة الجامعات يصطادون حورية البحر ومصطفى سيد أحمد يتخرج من ثانوية بورتسودان طالبا “جامعيا

بورتسودان – عزمي عبد الرازق

منتصف هذا الأسبوع كانت طائرة (تاركو) تحلق بمحاذاة ساحل البحر الأحمر، وهي تقل ما يربو على المئتي عالم من داخل وخارج السودان، جل ثروة البلاد البشرية معلقة بين الأرض والسماء، ما يجعل لقلق المطبات الجوية معنىً أكبر، هنالك مؤتمر دولي لتطوير المناهج سوف تقيمه جامعة البحر الأحمر، هو الأول في السودان، وسيعمل الضيوف المتوجون بالمعارف على مراجعة المناهج واعتمادها، وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي لم تذهب إلى المطار عبر صالة كبار الزوار، كما تفعل الشخصيات الدستورية عادة.. الدكتورة سمية أبو كشورة وجهت سائقها بوضع السيارة على الأسفلت والسفر إلى بورتسودان بالطريق البري، وهى رحلة شاقة على سيدة في ذلك العمر وبذلك النحول البارز، لكن عزيمتها أقوى وأمضى، تهش الطائرة شجر (سنقنيب).. تلوح من الأفق الشعاب الرجانية، وما تبقى من ملك سليمان، ثمة حورية بحر فاتنة تبدو لكنها لا تبين.

ملح ودموع

درجة الحرارة في بورتسودان (27) درجة وهو طقس معتدل إلى حد ما، المدينة من الداخل مدهشة للذين يهبطون فيها لأول مرة، وهادئة ومفرحة للذين يعرفونها عن كثب، وهي على ما يبدو سوف تتحول إلى مقر دائم للمؤتمرات الأكاديمية والملتقيات الاقتصادية عوضاً عن الخرطوم، وأسوة بمراكش في المغرب وشرم الشيخ في مصر، إيلا نفسه الوالي المثير للجدل يعزز تلك الجهود، يعمل بشكل خرافي على أن يصنع مدينة خرافية تسر الناظرين وتخطف الأضواء، فتستحيل المقارنة بينها وبقية مدن السودان، بالطبع هنالك انتقادات كثيفة وحاضرة يتعرض لها الرجل ترقى إلى وصف الحملة، وتأخذ عليه قبضته الحديدية، والشاهد صوره المعلقة في كل مكان، لكنه لا يبالي، عطفاً على ذلك لا يمكن أن تجرد الرجل من محبة يحظى بها وشعبية صنعها بليل الأسى ومر الذكريات، هو قريب من الناس – على كل حال- كان ذلك السمر يدور في تخوم المدينة وتتناثر إزاه حزمة أسئلة قلقة، ما بالها المحليات الأخرى لا تحظى بالعناية، وتتضرع لله أن تغتسل عروس البحر بمياه النيل، بعيد أن كانت تتعرق الملح من أثر الدموع، معظم الذين تحدثهم يقولون بأن محمد طاهر إيلا سيبقى لولاية أخرى، أو هكذا يتمنونه، لقد ارتبط به البحر، وهنالك ما يجعل لبقائه قيمة، وعلى تلك المشروعات النامية والخطط الطموحة بخلاف أن الرجل أفنى أجمل سنوات عمره هنا .

أيام ود المقبول

في جامعة البحر الأحمر تداعب خصلات شعرك النسائم، تنفتح كوة للعلوم يتسرب منها ضوء سامق، يتطلع نحوه الطلاب بعزيمة ثابتة، في الماضي كانت هذه الجامعة عبارة عن مدرسة، ولو أردنا التحديد أكثر فهي مدرسة بورتسودان، ولو أردنا إثارة الشجون فهي المدرسة التي تلقى فيها مصطفى سيد سيد تعليمه، وما أدراك ما مصطفى، مغن استثنائي وملهم شحن الوجدان بالقضايا والأغنيات الكبيرة، تخيلته في تلك اللحظة وهو ينسل من بين الفصل بقميص أبيض وبنطلون (شارلستون) وشعر كثيف وملامح يافعة صبية، تخيلته وهو يؤدي وصلة غنائية في الطابور الصباحي بصوته الفاره، يفترعها بعازة في هواك، أو (سوي الجبنة يا بنية في ضل الضحاوية) أو يغني للحلم الفسيح الذي كان يتمخض وقتها، وينتهي بحزنه المقدس على كل شيء (في الأسى ضاعت سنيني فإذا مُت أذكريني) ليتذكره هذا المكان والناس والكون.. طويلاً طويلاً.

فرقة موسيقية

ثمة ملاحظة يصعب إغفالها هي الهارموني الكبير بين مدير الجامعة عبد الرؤوف أحمد عباس والأساتذة والطلاب وحتى والي الولاية، تشعر كأنهم جميعاً في فرقة موسيقية واحدة يؤدون مقطوعة في تناسق، كما هو التناسق بينهم، البروفيسور عبد الرؤوف ليس له علاقة بالبحر الأحمر، وكان قد هاجر فيما مضى خارج البلاد ليعود ويتسنم هذا الموقع، يبدأ من الأول بطموح وثاب، يفتح قلبه ومكتبه حتى للعمال، يولي المجتمع والبحث العلمي عناية خاصة، لا يترك شاردة ولا واردة إلا وهو آخذ بها، ابتداءً من البيئة التعليمية وتحديث الجامعة بالشبكة الالكترونية وحوسبتها والنشاط الطلابي، وليس انتهاءً بمؤتمر تطوير المناهج الذي تداعى له أكثر من سبعمائة مشارك، من ضمنهم أكثر من عشرين مدير جامعة وعشر دول منها ألمانيا وبولندا والسعودية ومصر والمغرب، المؤتمر الذي شهد جلسته الختامية نائب رئيس الجمهورية الأستاذ حسبو عبد الرحمن، كان قد ناقش (35) ورقة علمية و(9) ورش عمل، وجاء تحت شعار: (مناهج متميزة لجامعة متفردة)، كما أنه تناول أكثر من محور من بينها المناهج وتحديات العولمة والجودة في مناهج التعليم العالي، بالإضافة للتجارب الأخرى في تطور المناهج والمسؤولية الاجتماعية للجامعات، توصيات المؤتمر بلغت نحو (290) توصية، مدير الجامعة أعلن انطلاق العمل بالمناهج الجديدة اعتباراً من العام المقبل، وعلى شرف المناسبة تم وضع حجر الأساس للمدينة الجامعية في (كلانيب) .

طلاب “أون لاين”

فيما يشبه التأمين على تلك التوصيات المهمة، أبدت وزيرة التعليم العالي سعادتها بانعقاد هذا المؤتمر للتقويم والاعتماد، وتحدثت بأن تطويل المناهج خطة شاملة، كما أن المناهج الحالية لم تعد مواكبة للعصر وسوق العمل، وكشفت أبو كشوة عن بداية تدريس الطلاب (أون لاين) في القريب، علاوة على إدخال تكنلوجية (النانو) وريادة الأعمال، مؤكدة في الوقت نفسه دعمها للجهود التي تبذلها الجامعات في الربط الشبكي، وإدخال أنظمة المعلومات والحوسبة، ودعت الجامعات أن تعمل بجد على تطوير قدراتها البحثية وأن تصبح بيوت خبرة معتمدة للقطاع الحكومي والخاص، كما أنها طالبت بانعقاد هذا المؤتمر كل عام في جامعة، وشددت الوزيرة على أن الدولة ماضية في العمل بسياسة التعريب داخل الجامعات على أن يكون الطالب ملما بلغة أخرى، وقالت إن الجامعات السودانية في هذا العام شهدت تحسنا ملحوظا في التصنيف العالمي، بجانب دخول جامعة الخرطوم، السودان وشندي في التصنيف الأفريقي.. والي الولاية صاحبة العرس محمد طاهر إيلا كان سعيدا بنجاح المؤتمر، وعبر عن ذلك بالحفاوة الكبيرة التي أبداها تجاه ضيوفه والتوصيات، وكشف عن سر نهضة ولايته، وهي استشارة المؤسسات التعليمية بما فيها جامعة البحر الأحمر، ورفدها لتجربته بزاخر عطائها، حتى أن كل أستاذ هنا يكاد يكون رئيس لجنة خارجية، مدير الجامعة نفسه هو رئيس لجنة إنشاء حديقة الحيوان، بجانب لجان التشجير والبيئة والمجتمع.. الجامعة التي ارتفع عدد طلابها وأساتذتها بشكل مهول بحسب إيلا، تصب بجهد وافر في ترقية علوم البحار وتنشيط السياحة ودعم الاستثمار، محمد طاهر إيلا الذي منحته الجامعة الدكتوراه الفخرية من قبل وكرمته اليوم طالب أيضاً بتحسين أوضاع أساتدة الجامعات.

بشرى للأساتذة

هناك دكتور آخر سوف يتحدث باسم الضيوف وسيناشد رئاسة الجمهورية العمل بالهيكل الراتبي الجديد لأساتذة الجامعات وتطبيقه أسوة بالقوات المسلحة على ما قاله الدكتور عبد الرحيم السيد كرار، في الحال سوف تستجيب رئاسة الجمهورية لتلك المناشدة التي حفت خلفه أقدام الأساتذة وكانت سبب نزيف العقول والهجرة، بالفعل يصعد نائب الرئيس حسبو عبد الرحمن ويوجه فوراً بتطبيق الهيكل الراتبي، حسبو قال إن ثورة التعليم العالي وجدت الكثير من المعارضة لكنها كانت للنهضة والتطور، ولفت إلى أنهم يريدون أن يتوفر التعليم لكل الناس، كما أبدى عدم انزعاجه لهجرة الأساتذة الجامعيين، ليعود ويؤكد أنها من سنن الكون وهي تتيح فرصة أكبر للمهاجر ليطور نفسه ووضعه ومن ثم يعود، حسبو أيضاً أعلن تبنيه لنظرية المؤشرات الوطنية للنهضة، وهى نظرية تعيد سودنة النظريات العلمية لتتوافق مع الظروف الراهنة، بتطور المتطلبات ومن ثم طالب بتطويع النظريات الغربية لتواكب الأوضاع الداخلية، ووجه بعمل آلية لتوصيات هذا المؤتمر حتى يتم تنزيلها، بجانب حديثه عن مجلس علمي للتقييم الوطني وإعلان الجامعة الأولى كل عام، نائب الرئيس أبدى دهشته للتطور الهائل الذي شهدته الولاية، وفي ختام حديثه القصير أعلن عن تبرعه بعشرة مليارات جنيه لجامعة البحر الأحمر.

افترقنا في سواكن

لم ينته المؤتمر بعد، فالمناسبات هنا لا تنقضي إلا وتبدأ من جديد، المطار ممتلئ بالركاب، تهبط طائرة أخرى عليها رتل من الوزراء المعنيين بالاقتصاد والتجارة، ثمة ملتقى آخر، نصعد إلى السيارة، نمضي مساءً إلى سواكن، هنالك حيث كان الأمير عثمان دقنة يقض مضجع الامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، في هذه القلعة الفتية تتراقص الحكاوي، سواكن القديمة انتصبت على مقربة منها سواكن جديدة يقف عليها الأتراك، ليتعانق الماضي والحاضر قبالة البحر والسفن، تحلق النوارس بعيداً بعيداً، يبتسم أدروب ويحكي لنا كيف تبدو هذه المدينة، وكيف يعشقها السياح، سفن الحرب العالمية مدفونة في الأعماق، يغوص البعض إلى دهاليزها وممراتها المعبقة بالتاريخ، تشتهر سواكن بالقطط والحيوانات الذكية، هم ليسوا نفرا من الجن كما يشاع، ولن يدهشك إذا رأيت (غنماية) تتجرع (البيبسي) وتتجشأ كما يتجشأ البحر، ولربما تدهشك قطة صغيرة وهي تمد لك يد العون لتقودك إلى بر الأمان إذا تعثرت في متاهة، الجدران العتيقة هنا تتحدث، والموج يداعب الشواطئ في غرام طويل، هنا ولد الفنان الكبير المهاجر عبد الكريم الكابلي، نشأ وترعرع وسط هذه البيوت القديمة، كان صوته صغيرا وهو يبكي في حجر أمه وسادة لحلم جميل، آخر مرة زار فيها الكابلي سواكن جلس على البحر وبكى، انهمرت طفولته في الرمال البيضاء، لابد أنه يتذكر كل شيء، لابد أن يشعر بالشجون، ولربما عادت به موجة عاتية من الحنين، ولابد أنه يغني كل ما ضج به الشوق للبحر (وافترقنا وبعيني المنى.. قالها الدمع فما أبصرت شيئاً

اليوم التالي

تعليق واحد

  1. الراحل المقيم مصطفى سيد أحمد كان طالباً في مدرسة بورتسودان الثانوية الحكومية
    (الأكاديمية)…
    كان ضمن الدفعة القدامنا..

    رحمه الله رحمة واسعة ..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..