وصفة لزعامة مفتعلة!

الزعيم ليس مفكرا، إنه خطيب وكفى. ليس خطيبا مفوها بالضرورة، بل عليه فقط أن يحترف الإيماء، فهو رمز.

بقلم: نذير الماجد

جوانية رقابية

وراء الصورة المبهرجة تكمن إرادة مختطفة لحشد ملتذ بخضوعه وتمثله واستلابه. وراء كل زعيق كاريزمي لزعيم يوجد قطيع يمتهن التبعية ضمن علاقة جدلية ترفع “فردا” وتسحق جمهورا بكامله، لتتكثف في بؤرة تتنظم حولها “سيكولوجية الجماهير” كما حللها “غوستاف لوبون” في كتاب شهير يحمل الاسم نفسه.

هناك حاجة غرائزية للزعيم، يشرح غوستاف لوبون، حاجة ملحة للإنخراط في جمهور منقاد لغايات مؤسسة عاطفيا. وحده القائد من يشبع في الحشود حاجتها للخضوع، إنها الرغبة في الانحسار والانسحاب المازوشي اللذيذ أمام هيمنة القائد وسحره. فبين القائد والجمهور علاقة ذات طبيعة عشقية، لكنها تتسم بعملية التصعيد، كما يعلمنا “التحليل النفسي”، والتصعيد تحويل قمعي لايروسية محرفة، إنه “الليبيدو” وقد صار إيمانا، تحول إلى غيب أو قدرة ميثولوجية “أسطورية” تفعل المعجزات. صناعة الزعامة هي صناعة العقل الجماعي، وتأجيج العاطفة الإيمانية.

ولكن الزعيم ليس مفكرا، إنه خطيب وكفى. ليس خطيبا مفوها بالضرورة، بل عليه فقط أن يحترف الإيماء، فهو رمز والرمز في اللغة، لغة الجسد، أو خطاب القناع في مسرح العرائس، زعيمنا لا يلعب الدور الهامشي، إنه البطل الأحادي في مسرحية مونودرامية، عمله الجوهري خطف الأضواء من كل منافس محتمل على خشبة المسرح، الإيماء والصراخ العاطفي هما وقود الهبية وسر المعجزة الخطابية للزعيم الفذ، خذ مثلا: القذافي (ولك أن تختار أي أحد سواه) جولة سريعة على خطاباته التي أذهلت الكثيرين، تثبت ليس فقط صفة الثرثرة وإنما الحكواتية المدعومة بشفافية البساطة والوضوح، فالرجل ومعه كل زعيم هو في الجوهر حكواتي بامتياز، لكن الميزة الأساسية هي البساطة، البساطة هي اللغز، هي المعجزة التي تفسر إلغاء الجمهور لذاته وشطب المتلقي/ الفرد لعقله الخاص لينساق بطواعية كاملة لإملاءات بطل الأمة.

القذافي كان يمزج دائما حديثه مع الحشد بنكاته التي تثير الضحك ضمن دعوة لا شعورية للإفتتان، فهو هنا المشتهى في لقاء أيروسي مصعد: جنوسة خضعت لاغتصاب رمزاني.. إذ الزعيم هو معشوق الأمة.

ثمة هنا سحر، فبرغم البساطة التي هي معمار الخطاب ومادته الأساسية، ورغم الافتتان المعمم والذي لا يفسده قمع، تتجه الزعامة لإحاطة ذاتها بهالة من الغياب، أو بحيز من البعد من شأنه دائما أن يلهب عاطفة العاشق.

في الحب كما في السياسة، الوصال مقبرة العشاق، لذا فعلى الزعامة أن تتجلبب برداء الغموض، الحضور الفاقع يحد منه غياب متعمد، إنه الإيمان الذي يسبق الفهم ويؤثث رؤية الحشد، نحن لا نجل الرمز إلا حين نجهله، الرمز لا يعود كذلك إلا حين يستبطن غيبا، فهو شهود محايث لغيب مرتجى، وكلما أوغل الرمز في الغياب كلما تحول إلى أيقونة، واستحال إلى صورة.

الكلمة شأن المفكر، لكن الصورة هي الوسيلة المفضلة للزعامة المفتعلة، هكذا يُستبدل الجمهور بالصور: اعتمد “ستالين” هذا الأسلوب وعممه كثقافة ووسيلة لتأكيد السطوة.. يقال إن صدام حسين اتخذه قدوة، وكان مخلصا بحق في تأسيه، صور صدام حسين بعدد أنفاس العراقيين، يغيب الجمهور وتحضر الصور: ثمة صورة للرئيس في الوزارة وحتى في غرفة النوم.. البعث منافس شرس في انخراطه الغوتوغرافي، السائح آنذاك (كما في كل مكان شبيه) تدهشه الصور، الرئيس إلى جانب المواطن دائما، الصورة تندس إلى نومه وتؤثث أحلامه وتبلور أمله المستلب. الصورة هي الحضور الذي يلطف حدة الغياب وهي كاريزما ممثل السماء على الأرض.

الاسكندر المقدوني وقيصر والفرعون نماذج لم ينكرها التاريخ، فاستدخال القداسة “الألوهة” في تعريف الكاهن الأكبر حيلة سياسية معروفة وظاهرة زعامية رسخها التاريخ وأعاد تكرارها في عصرنا الحديث عبر نموذج الزعيم المخلص. انتقلت الألوهة من الزعيم الصنم إلى الزعيم الرمز، أما تموجات الزعامة بين الإله ونصف الإله، بين الزعيم التاريخي والزعيم المعاصر فتستمد من مفارقة أساسية بين ادعاء سمج وقداسة مبطنة، لكنهما يشتركان في خصلة الحصانة، كلاهما فوق النقد، فوق المسائلة، وكون الظاهرة اختزال وتجسيد لروح الأمة وجوهر الوطن فإن أي تجاوز نقدي هو بمثابة تمرد يستوجب النفي.

إن الزعيم هو الرقيب الذي يتسلل فيستحيل إلى جوانية رقابية، تفرغ بفعلها ذاتية الفرد من أي محتوى فتصبح مجرد أثر، أو تكرار رقمي لذاتية الزعيم، أو الكاريزما التي تتأكد بفعل التكرار والعدوى، أما الجمهور فهو محض غياب بإزاء الحضور الكلي للبطريرك.

لا تترسخ الأبوية وتتأكد الوصاية إلا حين يكون الجمهور مغيبا، الزعيم هو الابن النجيب لتزاوج الأمية اللغوية والفكرية مع الفقر، فإذا كان القطيع بحاجة إلى الراعي ليشبع فيه هوس العبادة “عبادة الزعيم” فإن الأخير بحاجة إلى قطعان بشرية تشبع فيه جنون العظمة، الحاجة إذن متبادلة بين جمهور سريع الانفعال مزودج العقل وبين زعامة مصاغة ضمن ثالوث التدجين: التأكيد، التكرار، العدوى.. لهذا يبدو الزعيم الناجح هو المجهز بالبروبغندا والشعار، فمخاطبة الجمهور والتأثير عليه يمر قبل كل شيء عبر قناة التهويل اللغوي المرتكز على خاصية التكرار الطقسي، دون الحاجة إلى الفحص الواقعي أو التشريح المعرفي، كل زعيم هو طوباوي بالضرورة وكل عمله هو أن “يرتجل” الوعد، أن يؤسس الشعار باختزال القضايا الملحة والإشكالية إلى تأكيدات مقررة: العلمانية هي الحل.. الإسلام هو الحل.. الطاعة وملازمة الزعيم للفوز بنعيم الدنيا والآخرة.. ثم يؤول الشعار في تجلياته القصوى إلى صيغة أشد نزقا: الزعيم هو الحل.. وليس للجماهير إلا أن تصدق.

ميدل ايست أونلاين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..