هبة

هبة صبية يانعة في عمر الزهور سمراء البشرة طويلة القامة وديعة الملامح ذات ابتسامة ساحرة هي واحدة من تسع بنات لأب يعمل على عربة (كارو) يعيشون في واحدة من ولايات السودان كانت أسرتها فقيرة جداً لذا يسرع والدهم في زواجهن فتزوجت مبكراً قبل أن تكمل تعليمها من رجل في قريتهم يعمل في أحد الأعمال الهامشية وهو أيضاً فقير والقرية فقيرة والولاية ذااااااااته فقيرة.
تزوجته وانتقلت للعيش في منزل الزوجية شيء أقرب إلى الحظيرة منه إلى البيت عاشت فيه، وأنجبت منه ثلاثة أطفال بنتان جميلتان وطفل صبوح كفلقة البدر.
كان مصدر دخلهم من عمل زوجها ضعيفاً للغاية لا يكفي قوت اليوم ناهيك عن احتياجات المرض من طبيب وعلاج.
وفي يوم مرض طفلها الصغير (أسامة) وكانت عاجزة عن توفير دواء له حملت ما يعرف بـ(العنكوليب) وافترشت الأرض في سوق الله أكبر تحت أشعة الشمس، وبجانبها (أسامة) يتقلب من الحمى على خرقة قديمة وضعتها تحته في حين رفعت رأسه بـ(نعليها) في وضع يشبه الوسادة.
كانت تنتظر من يبتاع منها (العنكوليب) لتشتري دواء للصغير ولكن لم تبع الكثير منه وعادت إلى البيت على أمل ان يكون والده قد جمع بعض المال، ولكن زوجها لم يكن يومًا أباً مثالياً، فقد كان يتعاطي الخمر وبانتظام، وما يجمعه من مال ينفقه علي جلب بعض زجاجات الخمر….. وفي ذلك اليوم كانت لديه (جلسة سكر).
وما أن غربت الشمس حتى بدأ أصدقاء السوء يتجمعون في منزلها وبدأ الإعداد لجلسة الشراب بإيقاد بعض الفحم على الأرض وجلب طنجرة كبيرة لإعداد (الحلة)…؟؟
هنا طفح الكيل بـ(هبة) وما كان منها إلا أن صرخت في وجهه ومن معه من الرجال وقذفت محتويات الطنجرة فوق رؤوسهم وحطمت جميع زجاجات الخمر وطردتهم من المنزل فاستشاط غضبًا زوجها،واشتد النقاش بينهما فحملت صغيرها (المحموم) على كتفها وسحبت الصغيرتين من ورائها وغادرت المنزل.
ولكنها لم تذهب إلى منزل والدها فقد كان معروفًا عنه البطش الشديد وخشيت أن يقتل زوجها لو علم أنه يجلب الرجال وجلسات السكر لها في البيت، فآثرت المبيت عند خالة لها ذهبت إليها بعد أن عبرت مساحة واسعة من الجداول والحواشات الموحلة والمظلمة، وعندما وصلت الترعة وضعت الصغير على الأرض وبدأت في حملهم واحداً واحداً والعبور بهم من فوق الترعه.
كان ذلك اليوم ومع كل الأحداث العاصفة فيه بدأية حياة جديدة لزوجها الذي ندم أشد الندم على سوء أفعاله وأقلع منذ ذاك اليوم عن تعاطي الخمر تمامًا ولحق بـ (هبة) في بيت خالتها وقدم اعتذاره بعدها عادت (هبة) إلى بيتها وبدأت حياتها من جديد.
عقب ماحدث جمعت الأسرة كل ما تملك وهاجروا إلى الخرطوم وسكنوا في نصف بيت آيل للسقوط لا يحجب حرارة الشمس ولابرد الشتاء ولا مياه الأمطار، في حي شعبي به غرفة من الطين ملحق بها راكوبة ومرحاض بلدي، عاشت هبة في هذا البيت قرابة السبع سنوات كانوا خلالها يتناولون وجبة واحدة أو وجبتين في اليوم، وإذا فكروا في جلب فاكهة فهذا يعني ضرب ميزانية الأسبوع في مقتل.
رغم كل ذلك كانت هبة امرأة بشوشة ومدبرة وصبورة وطموحة وثقتها في الله لا تحدها حدود وفي إحدى المرات كشفت لجارتها عن قلقها كيف تدفع إيجار الشهر الماضي، وصاحب البيت يطالبهم صباح مساء بعد أن حل الإيجار الجديد.
قالت لها جارتها اسألي الله أن أشتري أنا هذا البيت وأترككم تعيشون فيه من دون مقابل.
فردت عليها هبة أنا أسأل الله والذي ما من بعده من يسأل أن يشتريه في يوم ما أسامة ابني….!!

2

ظل زوج هبة يعمل على( ركشة ) يملكها أحد المواطنين طيلة اليوم لا يتوقف منها إلا لأداء الصلاة، عندها فكرت هبة في شراء ركشة له بدل أن يكون أجيرا فيها، … فاشتركت هبة في مجموعة (صناديق) في الحي وكان شرطها أن تنال (أول صرفة) جمعت قيمة كل الصرفات  واستدانت مبلغا من صديقة ميسورة الحال، ودفعته ثمنا لركشة نصف جديدة.
بعد تلك النقلة تحسن وضع الأسرة رويدا رويدا وقامت بسداد ديونها  بعد أن تعثرت كثيرا في الإيفاء بالتزامات (الصناديق) الشهرية.
كان لتدبير هبة أثر كبير في مسيرة  حياة الأسرة حيث استطاعت وبعد فترة وجيزة  شراء ركشة ثانية أصبح يعمل بها أسامة مساء بعد عودته من الدراسة، وخلال هذه الفترة أنجبت هبة المزيد من الأطفال وأصبح جملة العدد ثلاثة صبيان وثلاث فتيات.
بعد هذا انتقلت الأسرة الى منزل آخر أفضل قليلا من ذلك، حيث تخرجت ابنتيها من الجامعة والتحقت آخر العنقود وشقيقيها الصغيرين بمدارس خاصة لتأهيلهم بصورة أفضل من باقي إخوتهم.
بدأت هبة تعديل المنزل الذي انتقلوا إليه. كانت تتجول بعربة (كارو) لجمع بقايا البلاط والسراميك من المنازل التي بها أعمال صيانة وتشتري الحطام بثمن بخس، كانت خبيرة بالسوق وعماله. تعرف الجيد من الرديء وتفاصل في الأسعار بمهارة وحنكة  واستطاعت أن تؤسس منزلها بأثاث فاخر مستورد بعضه بالأقساط وبعضه مستعمل من بعض الأسر وجلبت أولا ثلاجة وبعدها بوتجاز ثم خلاط ومروحة وجهاز تكييف وغسالة وأخيرا شاشة (LCD)ومبرد مياه.
الآن عادت هبة بعد أداء فريضة الحج على نفقة ابنها أسامة الذي هاجر الى السعودية واشتغل بإحدى شركات المقاولات. ويستعد لشراء المنزل الذي لم يوفقوا يوما في سداد أجرته حينما كان يحين وقتها .
هبة تملك الآن ركشتين ومنزل في السكن الشعبي، تسكن في بيت من أجمل البيوت في الحي. ظلت حريصة على اقتناء الزهور ووضعها في  قناني خاصة من تصميمها.
هبة أحسنت تربية صغارها ونالت رضا زوجها وغيرت تفاصيل حياته وأصبحت صلاة الصبح في جماعة هي بداية يومه.
قابلتني قبل فترة وسألتني عن مدرسة لتعليم قيادة السيارات. هبة ترغب في استخراج رخصة وشراء عربة بالأقساط وقالت إن مشاوير الأسرة أصبحت كثيرة ولاغنى عن السيارة.
لم أستطع منع الدهشة من مغادرة فمي، فقالت لي:
مالك يا سهير الله بدي الجنة.؟
حقا ونعم بالله. الله بدي الجنة.
(هبة)  قصة حقيقية تمشي بيننا وإن اقتضت ضرورة النشر العبث بالأسماء للتمويه وهي   تمثل واحدة من قصص مئات وآلاف النساء هنا وفي العالم يعملن بفقه السترة يربطن الأحزمة ويذقن العلقم ويمضغن الصبر يلتحفن الخوف ويرتدين العوز  من أجل حياة شريفة كريمة يتحملن الصعاب  والأهوال  حفاظا على أزواجهن وأطفالهن، يتحملن الرجال بكل عيوبهم المعلنة والمخفية.  نجاحهم وفشلهم، أهواءهم ومزاجيتهم،  اتزانهم وعبثهم، معاركهم ورعونتهم  وسلمهم، احباطاتهم وضيقهم وتفاؤلهم، غيرتهم ولامبالاتهم، سخطهم وتعجرفهم، سذاجتهم وفراستهم، ذكاءهم وغباءهم، أنانيتهم وبؤسهم، خداعهم ووضوحهم، كذبهم  وصدقهم، حبهم وكرههم.
التحية والإجلال والتقدير لكل نساء بلادي أمهات وشقيقات زوجات وبنات في كل العالم كل عام وأنتن بخير بمناسبة اليوم العالمي للمرأة وكل عام ونون النسوة بخير.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. روعة …. هذا نموذج جميل من اسرة عانت وعاشت فى ظروف قاسية ولكن بالصبر والعزيمة استطاعت هبة ان تعوض كل ما كانت تفقده فهذذه امرأة عظيمة كونت اسرة صالحة بع جلد وصبر شديد وجعلت من زوجها السكرجى رجل صالح فى اسرته وتقى فى دينه فالمرأة فعلا هى اسا س البيت ووراء كل عظيم امرأة . فعلا صلاح المرأة هو صلاح الاسرة والمجتمع وفسادها هو ضياع الاسرة والمجتمع فلا بد أن تدرك حواء ذلك .

  2. تشكري يا أستاذة على هذا الطرح الجميل والأسلوب المموسق… وقصة هبه جديرة بأن توثق وبأسمائها الحقيقية لأنها تحمل بين طياتها كل معاني الحب والاخلاص والتفاني والعزيمة والتضحيات الجسام … انها وسام على صدر كل امرأة سودانية في هذا الزمن العصيب … وعاش كفاح المرأة السودانية من أجل حياة كريمة شريفة …

  3. والتحية والتقدير لك وانت تكتبين بهذه الطريقة الجميلة وأسأل الله لك المزيد من التقدم والنجاحات .. وبالله التوفيق ….

  4. حواء السودانية موجودة ي اختى الفاضلة
    وربنا عوض صبر هذه الانسانة كل خير
    وزي ما قلتي في السودان نساء كثر
    علي هذه الشاكلة والمعاناة
    ربنا يستر علي اخواتنا ونساءنا
    من ظلم الحكام والازواج وظروف المعيشة
    التي اصبحت تشيب الاطفال
    اريد زوجة مستقبل متل هذه
    ولك تقديري

  5. ولكن اين الحلقة الثانية يا جماعة
    كما نزلت في السوداني

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    فردت عليها هبة أنا أسأل الله والذي ما من بعده من يسأل أن يشتريه في يوم ما أسامة ابني….!!

    [COLOR=#FF004D]2[/COLOR]

    ظل زوج هبة يعمل على( ركشة ) يملكها أحد المواطنين طيلة اليوم لا يتوقف منها إلا لأداء الصلاة، عندها .

  6. يالبت الركشة دخلت متين لما ولد هبة كبر وصار راجل وبقى يسةق الركشة

    فعلا الصحافة بقت تأليف من الخيال

  7. الاستاذه سهير تحيه طيبه
    التهنئه الحاره لاسلوبك الجميل في الكتابه حقيقه مؤثر جدا وشيق واختيارك لعرض صور انسانيه بمفردات تجعلني كقارئ في متابعه لصيقه للسرد دون ملل هذا اذا جاز لي التعبير نسال الله لك التوفيق واتوقع لك مستقبلا مشرقا فقط هنالك بعض الهنات والكمال لله في هذا المقال مثلا التسلسل الزمني للاحداث به بعض الخلل هذا رايي الشخصي واتركه لمن يوافقني هذا الراي وله تخصص في النقد الهادف البناء ان يدلو بدلوه في التصويب اذا راى ذلك او حتي في تعلقينا نتمني لك كل التقدم والنجاح

  8. وكل عام وأنت بألف خير وصحة وعافية، ونون النسوة فى بلادى الى الأمام فهن الأمهات والزوجات والبنات والأخوات و و و….الخ..، ولك كل التحايا الصادقة فقد إستمتعنا حقاً بكل كتاباتك الراقية الواعية والهادفة لك الشكر وكثر الله من أمثالك أيتها الرائعة سهير..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..