أساس الفوضى الحلقة رقم 42

بسم الله الرحمن الرحيم
أساس الفوضى الحلقة رقم 42

+++
في رحلة استكشافنا لماهيَّة الفوضى طفنا بالعوامل الدَّاخليَّة للإنسان من تفكيرِ، واتِّخاذ قرارٍ، وطبائع وملكات وحاولنا تشريح كيفيَّة التَّفاعل بينها لنُفسِّر موقف وسلوك الإنسان ودوره في إنتاج الفوضى والنِّظام. وسننتقل إلى تفاعل الإنسان مع البيئة ودورها في إنتاج ثقافته التي تُؤثِّر على طريقة تفكيره وتكوين قيمه التي تضمن له تحقيق أقصي درجات البقاء والنَّماء والعافية كما يراها في سياقه الذي نشأ فيه.
وقد ذكرنا من قبل بأنَّ الإطار الفكري الذي نهتدي به هو دين الإسلام وليس في نيَّتنا أن نُقنع أحداً بصحَّته، ولكن الغرض أن نُشارك النَّاس فهمنا للحياة وظواهرها، ورؤيتنا للوجود حسب حصيلتنا من المعرفة، فليس أنفع للنَّاس من التَّعارف ومبادلة الفهم لتفتيق أكمام الفهم وزيادة ماعون العلم فكلُّ ماعونٍ يضيق بما فيه إلا ماعون العلم.

ودين الإسلام عندما يُورد أو يناقش مفاهيماً ما فإنَّه ينزع نحو ربطها بالواقع العملي لتطبيقها إذ لا يترك الأشياء مُعلَّقةً في الهواء بلا غاية لإيرادها أو مناقشتها، ويفرِّق بين النَّوعين من العلوم فيسمِّي الأوَّل بالعلم النَّافع ويسمِّي الثَّاني العلم الذي لا ينفع ونحن نعلم أنَّ هناك علماً يضرُّ كذلك.

وإذا عرفت غاية الأشياء فقد حدَّدت الهدف من عملك ويجب عليك تحديد المنهج الذي ستتَّبعه، والسُّبل التي ستسلكها، والوسائل والآليَّات للوصول للهدف. إذ أنَّ الفعل بلا غاية هو لهوٌ أو ضلال. ولكن الغاية من الأمر غير جوهره أو ماهيَّته وغير الوسيلة لتحقيقه.

وهناك من يتَّخذ مناهج متسرِّعة تريد الوصول للهدف بلا تبصُّر في لُبِّ الأمور فتُعنى بالقشور وتغرق في تفاهة المعلومات، التي تبدو كماءِ العلوم، ولكنَّها سرابٌ خادع يتركهم منبتِّين لا أرضاً قطعوا ولا ظهراً أبقوا.
فالظاهرة لا تتعدَّى أن تكون ظاهرة في حدود رؤية ظاهرها لـمُبصرها، ولا تُفهم إلا بالتأمُّل العقلي للعقل الواعي بقدراته على إدراك أنَّه لا يُمكننا تبسيط الأشياء لأنَّنا نريد ذلك، ولكن الأشياء التي تبدو بسيطة هي في الواقع مُعقَّدةٌ جدَّاً، ولكن تؤدِّي وظائفها بسلاسة مذهلة خادعة، تصل درجة تعقيدها درجة تجعلها تبدو بسيطة، وذلك لأنَّها تُخفي عمليَّات التَّفاعل الدَّاخليَّة فتبدو أمامنا في نهاياتها كنتيجة واضحة وبسيطة بل وفي بعض الأحيان بديهيَّة. هذا الوعي المُدرك يبصر بصورةٍ متكاملة ما يخفي من جذور الظاهرة وتفاعلها مع العوامل المُحيطة وكيفيَّة انبثاقها.

خذ الوردة مثلاً؛ نراها ونستمتع بمنظرها وطيبها ولا نكلِّف أنفسنا مشقَّة أن نعرف كيف تجمَّعت ذرَّاتها، وتكوَّنت خلاياها، وتخصَّصت موروثاتها في إنتاج شجيرتها بأعضائها المختلفة الشكل والوظيفة، وكيف تكاتفت كلَّ هذه الأجزاء وأدَّت مُهمَّاتها بسلاسة ويسر وكفاءة لتنتج لنا وردة في النِّهاية غاية في النِّظام واللَّطافة تسرُّ النَّاظرين. هذا النِّظام لم يأت من جهلٍ ولكنَّه أتى من علم كلِّ خليَّة بدورها وعدم تجاوزه وأداءه بلا حقدٍ أو حسدٍ أو منٍّ أو أذىً والمكافأة التي ترجو أن يكون ضميرها مرتاحاً لأنَّها لم تهمل في أداء واجبها، وتعاونت مع جاراتها، وأيضاً روح الفلاح الجماعي عندما تنبثق الوردة في بهاء طلعتها وتخطف الأبصار وتستطيع كلُّ خليَّة أن تقول حينذاك أنَّها تملك جزءاً من الوردة.

والسؤال الذي يطرحه المفكرُّون في ديار الإسلام هل يمكن للمفاهيم أن تضمحلُّ وتتحلَّل ثمَّ تموت بمرور الوقت لأنَّها ككلِّ الكائنات يسري عليها قانون الفناء؟ أو لأنَّ طبيعة الإنسان تُغيِّرها أو تتغيَّر الطَّبيعة فلا تلائم المفاهيم؟ أو أنَّ ما يحيط بالإنسان يتغيَّر وبذلك يتعدَّى صلاحية المفاهيم؟
وأهميَّة هذا السؤال أنَّه سيضع خارطة للتَّعامل مع المفاهيم فإن كانت صلاحيَّتها وموثوقيَّتها لا تتغيَّران مهما تطاولت القرون وتغيَّرت الأحوال فذلك يعني أنَّها معزولة عن التأثُّر بالواقع، وليست معزولة عن التَّأثير في الواقع، وأنَّها خالدة وصالحة لكلِّ زمانٍ ومكان. وهذا ما يقول به المسلمون عن مفاهيم دين الإسلام. ولكن يأتي السؤال إذا كان ذلك هو الأمر فلماذا يجدون أنفسهم في قاع الأمم التي لا تدين بالإسلام؟
ومن العادة فالإجابة الدَّائريَّة هي:
“لأنَّ المسلمين لا يطبِّقون الإسلام ولو طبَّقوه حقَّاً لكانوا في قيادة الأمم كما حدث في الماضي”، وذلك يعني أنَّ مفاهيم دين الإسلام احتفظت بنضارتها الأزليَّة ولكن تغيَّر النَّاس أو أنَّ نضارة المفاهيم لا تزال كما هي ولكن النَّاس غيَّروها بإضافة ما ليس فيها وطمروها تحت أكوام البدع بينما غابت أبصارهم عن الأولويَّات والجوهر.
ويجيء السؤال: وما الذي جعل النَّاس يتغيَّرون إذا كانوا مستمسكين بمفاهيم الإسلام في الماضي؟
وهنا يختلف النَّاس؛ فالبعض يقول بأنَّ النَّاس انحرفوا لأنَّ ذلك طبيعة الإنسان، والبعض يلوم فرقةً بعينها للتَّسبُّب في تفريق المسلمين أو تغيير المفاهيم الأصيلة، والبعض الآخر يلوم حالة ترف ملوك المسلمين بينما آخرون يلومون الانشقاقات والطَّبقيَّة أو انعدام الحريَّة أو انعدام الفهم الصحيح للإسلام أو تغيُّر الظروف مثل هجمات المغول وما شابه.
وقد يكون لكلِّ فردٍ منهم نصيب في الحقيقة، ولكن تصير المسألة أصعب على الفهم والإجابة عندما تسأل بأنَّ ثلاث امبراطوريَّات إسلاميَّة كانت تحكم أكثر مناطق العالم حتى القرن الثامن والتاسع عشر ميلادي؛ وهي الخلافة العثمانيَّة والامبراطوريَّة الصَّفويَّة ودولة المغول ومن قبلها دولة الأفغان، وبينما تقدَّم الأوربِّيون صناعياً وتقنيَّاً كانت هذه الامبراطوريَّات تتأخَّر حتى انتصار الغرب المسيحي أو العلماني عليها، فلماذا لم تتقدَّم وهي تدَّعي تطبيق شرع الله أو الفهم الصحيح للإسلام؟

وهنا ينقسم المفكِّرون المسلمون إلى قسمين: الأوَّل يقول بأنَّ هذه الإمبراطوريَّات كانت في حقيقتها ممالك عضوضة ولم تهتم بغير الفتوحات والتَّرف في آخر أيامها، وفارقت الإسلام الصحيح، وتكالب عليها أعداء الإسلام من الدُّول المسيحيَّة والعلمانيين من أبناء المسلمين مثل كمال أتاتورك.

والقسم الثاني يقول بأنَّ المسلمين تخلَّفوا عن ركب الحضارة والحداثة لأنَّهم جمَّدوا فهم الإسلام منذ القرن السادس الهجري ولم ينقدوه ويحرِّروه كما فعل الأوربيُّون بالمفاهيم الدِّينيَّة التي أخضعوها لمبضع جراحة المفكِّرين، فنفضوا عنها هالة القدسيَّة وعاملوها كما تعامل أيِّ نصوص لغويَّة وبذلك عالجوا أزمة التَّخلُّف بتحرير المفاهيم من الأصوليَّة الكنسيَّة وحرَّروا بذلك الإنسان الذي أبدع وخلق الحضارة الحاليَّة.

وعليه فيقول القسم الأوَّل بأنَّ “تجديد” مفاهيم الإسلام لن يتمّ إلا إذا رجع النَّاس لصفاء ونقاء القرن الأوَّل من سلف الصحابة الذين فهموا الإسلام كما ينبغي فهمه لأنَّهم تلقُّوه طازجاً من المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم وطبَّقوه كما ينبغي ولذلك ينبغي أن يهاجر النَّاس من المجتمعات الجاهليَّة وإنشاء مجتمعاتٍ جديدة كما فعل المهاجرون والأنصار في المدينة، أو أن يدعوا النَّاس للإسلام كما فعل المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم في مكَّة قبل الهجرة.

أمَّا القسم الثاني الذي يتبنَّى الحداثة فيقول أنَّ الطَّريق الوحيد للاستيقاظ من حالة السّبات الطَّويلة للمسلمين أن يُخضعوا مفاهيم الإسلام لنفس المنهج التَّحليلي التَّشريحي اللُّغوي، كما فعل المفكِّرون في الغرب، كما يفعل عالم الآثار عندما يُنقِّب في آثار حضارة غابرة، وبذلك تتحرَّر المفاهيم والإنسان ويلحق بركب الحضارة. أو البعض منهم يحاول أن يزاوج بين مفاهيم الحداثة ومفاهيم الإسلام ويُصنَّف كيسار إسلامي مثل الأستاذ حسن حنفي أو محمد عمارة.

ولكن الإشكال أنَّ القسم الأوَّل يدَّعي ملكيَّة “صحَّة مفاهيمه” أكثر من مجموعة سنَّةً كانوا أو شيعة.

والقسم الثَّاني يقوده في النَّظرة الجذريَّة أو كما تُسمَّى الرَّاديكاليَّة البروفسير محمد أركون رحمه الله والدكتور هاشم صالح والأستاذ جورج طرابيشي ولا توجد لغة اتِّصال بين المجموعتين ولا قاعدة مشتركة غير التَّحقير وتبادل الاتِّهامات.

وأساس المسائل تحديد ما هو الحقّ؟ ويتمُّ ذلك بتعريفه أوَّلاً والذي يجب أن يُوضِّح جوهره ومصدره وغايته ووسيلته.
فنظرة القانون للحقِّ مثلاً تختلف عن نظرة الدِّين باختلاف مصدر القانون الفكري.

فقانون “حقوق الإنسان” مثلاً يقوم على فكر التَّنوير الذي يؤسِّس الحقوق على حريَّة الفرد، بينما في دين الإسلام يقوم على أساس عبوديَّة الفرد لله سبحانه وتعالى، ولا يكتسب الفرد حقَّاً إلا بتشريع خالقه وهنا يقع الخلاف بين الذين يدعون لاحتذاء منهج الحداثة ومواكبة العصر ومنهج المسلمين الذين يؤمنون بأنَّ الشارع؛ وهو الله، هو الوحيد الذي يجب أن يُحدِّد الحقوق ويمنحها أو يمنعها.

ولا يمكن فلسفيَّاً أن توفِّق بين حقوق الفرد المطلقة وحقوق الجماعة المطلقة أبداً وإنمَّا غاية الشرع والقانون أن يتوصَّلا إلى وصفة توفيقيَّة عمليَّة بين الفرد والمجتمع لأنَّ الفرد مجتمع غيره والمجتمع مجموعة أفراد.

ولذلك الإيمان هو أساس كلِّ شيء فإذا آمنت بالغيب فلا بُدَّ من أن تجعل مصدر تشريعك الله سبحانه وتعالى، ولذا فأنت مُلزمٌ باتِّباع تعريفاته للحقوق؛ لأنَّها تثبت وتجب عليك، مع أنَّ لك الحقَّ بما أعطاه الله لك من حريَّة أن ترفض مبدأ الإيمان، أو تستخدم وسيلة العصيان في الحياة الدُّنيا حتى يأتي تطبيق القانون عليك في الحياة العليا هذا إذا لم يقرِّر شخص ما على أن يمثِّل سلطة الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة الدُّنيا ويُرغمك على ما يرغمك الله سبحانه وتعالى عليه.

ولكن هذا يعتمد على تعريف أهل الحياة الدُّنيا من القانونيين للحقوق والذي يعتمد على مصدر التَّشريع بغرض توضيح حدود حقوق الفرد وحقوق الجماعة حتى لا يتعدَّى أحدهما على الآخر.

فإذا كان النَّاس يؤمنون بأنَّ مصدر التَّشريع هو الله سبحانه وتعالى فسيقوم الممثِّلون القانونيُّون للمجتمع، وهم من أفراد هذا المجتمع الذين ارتضوا أن يتركوا ذاتيَّتهم جانباً ويُغلِّبوا عليها ذاتيَّة المجتمع الجمعيَّة على أساس أنَّ القوانين مصدرها الله سبحانه وتعالى، وهي أفضل عمليَّة مساومة بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع، والتي ستعود عليهم كأفراد بأفضل ما يمكن تحقيقه من رعاية لحقوقهم.
ويُشترط في هذا الحال حُرِيَّة أفراد المجتمع في الاختيار والتَّنفيذ.

والغريب أنَّ النَّاس تنسى تعريف المجتمع للحقوق وسلطته في تنفيذ قانونه، بينما تُركِّز على تعريف الفرد أو المُشرِّع للحقوق، وبينما يسعى بعض الأفراد لانتزاع حقوقهم بواسطة القانون، فإنَّ ذلك لا يكفيهم، فهم يريدون أيضاً موافقة المجتمع على ما يعتبرونه حقَّاً.

وتنسى ثمن التَّغيير الذي يدفعه المجتمع فلا يُفكِّر في عافية المجتمع وأخلاقه وإنَّما يُركِّز على استيفاء حقوقه المادِّيَّة والمعنويَّة حتى وإن أدَّى ذلك لاضمحلال المجتمع. وأيضاً لا تكترث بالثمن المادِّي للتَّركيز على حريَّة الفرد مثل آثار الخمر من جسديَّة ونفسيَّة واجتماعيَّة لأنَّ همَّها أن توفِّر الحريَّة للفرد ليفعل ما يشاء ثمَّ تأمل أن يتصرَّف بعقل وتوسُّط ولكنَّه عندما يفعل ذلك فلن تعاقبه.

فمثلاً مسألة اختيار شريك الحياة من أكثر ما يمثِّل نزاعاً بين أفراد المجتمع. فالقوانين التي تقوم على مذاهب فلاسفة التَّنوير الأوربِّيين مثلاً تجعل حريَّة الفرد الجوهر ومصدر القانون هو الشعب وهو المُشرِّع مباشرةً أو لأسباب عمليَّة من خلال ممثِّلين له، بينما دين الإسلام يقوم على عبوديَّة الفرد لله سبحانه وتعالى وحرِيَّته من الآخرين ولذلك فقوانينه تبنى على تشريعه المباشر أو على استنباط أحكامه في الأمور التي لم يرد فيها تشريع على أساس رضا الله سبحانه وتعالى.

فالمذاهب الحداثيَّة ابتدأت بتعريف الحقوق التي لا تتعارض مع “مفاهيم المجتمع”، فاعتبرت المثليَّة الجنسيَّة مرضاً يحتاج للعلاج وجريمة تستحقُّ العقاب واستمرَّ الأمر هكذا حتى منتصف القرن المنصرم فأسقط مبدأ التَّجريم واستمرَّ مبدأ المرض حتى نهاية القرن المنصرم. ولكن المجتمع انقسم بين مؤيِّد ومعارض وإن كان عدد المعارضين أكثر ولكن مجلس الشعب أقرَّ القانون لأنَّه المُشرِّع. وجاء هذا نتيجة لنشاط المثليين والفلسفات السائدة الليبراليَّة بالذات بينما لم يُطالب المحكوم عليهم بالإعدام بهذا الحقّ بل تولاه اللبراليُّون. ولم يختلف في ذلك البرجوازيُّون والشيوعيّون.

ولم يتوقَّف المثليُّون عن المطالبة بتغيير القانون لإقرار حقوقهم كمثليين مثل بقيَّة النَّاس وللسماح لهم بالزواج ثمَّ بالتَّبنِّي كحقِّ إنسانيِّ أصيل وانقسمت الشعوب بين مؤيِّدٍ ومعارض ورأت حكوماتها، حسب توجُّه المجتمع وإمكانيَّة الفوز في الانتخابات، بالرَّفض، أو الرّجوع للشعب مباشرة في استفتاء أو الرِّجوع لمجلس الشعب للتَّقرير.

وبرغم تغيير القانون لصالح المثليِّين في بعض الدُّول بالزواج وبالتَّبنِّي إلا أنَّ ذلك لم يكفهم لأنَّهم لم يجدوا القبول المجتمعي ويريدون أن يحظوا باعتراف المجتمع إضافة لاعتراف القانون أي أنَّهم يريدون أن يُغيِّروا نظرة المجتمع ويكسبوا رضاه باعتبار أنَّ اختيارهم شيء طبيعي لا يفترق مع اختيار الآخرين الذين يتَّهمونهم بتبنِّي أفكارهم بناءً على الدِّين وعلى عادة وتأثير المجتمع.

ولكن كانت هناك مجموعة ثالثة تؤمن بالله سبحانه وتعالى وتريد أن تختار المثليَّة الجنسيَّة ممَّا أدَّي لنشوء نزاع بينها وبين نفسها أو بينها وبين مجتمع المؤمنين أو بينها وبين الكنائس ولجأوا لتفسير الكتاب المقدَّس بطريقة تضمن لهم رضا الله سبحانه وتعالى فقالوا مثلاً أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يعاقب قوم لوط لسلوكهم الجنسي ولكن لأنَّهم أرادوا اغتصاب الملكين ولذلك فليس هناك ما يُغضب الله سبحانه وتعالى إذا كانت العلاقة تقوم على الحبِّ وليس فيها إكراه لأنَّ الله هو المحبَّة.

أمَّا دين الإسلام فرأيه واضح في هذه المسألة ويقرِّر بناءً على ذلك عدم حريَّة الفرد لأنَّ المُشرِّع أصدر فيها حكماً واضحاً لا يمكن تغييره ولكن لم يتم الإجماع على أمرين: أوَّلهما صفة العقاب وثانيهما صلة الممارس بالدِّين.

فالقرآن مثلاً يستخدم سلطة وعقاب المجتمع بدلاً من سلطة الحاكم في معالجة هذه المسألة مثلما استخدم نفس السلطة في حالة الثلاثة الذين خُلِّفوا ولكن الخلفاء والفقهاء استخدموا أحكاماً أخري. وعليه فلا مجال لاتِّفاق بين مذاهب الحداثة ومذاهب المسلمين في هذا الأمر مثلاً وإنَّما سيكون الاختلاف في: كيف يتعامل الحاكم والمجتمع معهم؟

وهنا يجيء سؤال المواطنة، فكيف يصحُّ أن نُكره مواطناً غير مسلم على شيء لا يتَّفق معه؟ وكيف نوفِّق بين حقوق المواطن وحقوق الله سبحانه وتعالى؟ وإذا لا يصحُّ الإكراه في الدِّين، وهو اعتقاد الإنسان، فكيف تكرهه على هذا الأمر؟

ولكن ما أتعجَّب له ليس مسألة الحقوق لأنَّ هذه قضيَّة لا يتّفق عليها كلَّ البشر ولو كانوا من أسرة واحدة، ولكن ربط إعطاء “كلَّ الحقوق” في بلاد الغرب وإضعاف دور الكنيسة وبين التَّقدُّم المادِّي والتِّقني؟ فهذه أغلوطة منطقيَّة فلسفيَّة في مسألة السببيَّة، لأنَّ هذا ما يسمَّى “بالارتباط السببي”، أيَّ أنَّ الظاهرة حدثت أثناء أو بعد حدوث تغيير ما، وقد تكون نتيجة لهذا التَّغيير أو لعوامل أخرى مثل توقيت التَّغيير وطبيعة الحكم وما شابه، وليس سبباً مباشراً خطِّيَّاً مثل أن تقول أنَّ سبب موت إنسان هو هبوط القلب لانسداد شرايينه.

وكما قلنا فارتباط التَّقدُّم المادِّي والتِّقني لم يقم نتيجة لما “يفترضه” أصحاب الحداثة، بدليل أنَّ النَّظريَّة الشيوعيَّة قامت على أساس استغلال الإنسان أثناء الثورة الصناعيَّة التي أدَّت للتَّقدُّم المادِّي وأنَّ الحقّ في الحياة والحق في اختيار شريك الحياة لم يتغيَّرا إلا في الثلث الأخير من القرن المنصرم، بل إنَّ القانون لم يتغيَّر حتى اليوم في بعض ولايات أمريكا الشماليَّة التي تُعتبر أيقونة التَّقدُّم الحداثي.

لقد تصادفت عوامل في المجتمع الغربي فحدثت تغييرات فيه وأهمَّها إقامة دولة القانون والحقوق، ولكنَّها طبَّقت هذه الحقوق على بعض مواطنيها ولم تعتبر مواطنين الشعوب الأخرى بشراً، بل اعتبرتهم برابرة متوحِّشين استعمرتهم واستغلَّتهم وبنت مجدها على أكتافهم باستغلال مواردهم البشريَّة والطَّبيعيَّة، خاصَّة فرنسا دار الفلسفة والحداثة وما بعد الحداثة. فقد كانت الأكثر عنفاً واقتلاعاً للجذور الثقافيَّة للبلاد التي استعمرتها وما تاريخ الجزائر منَّا ببعيد.

وكيف نفهم هذه المفاهيم الإنسانيَّة التي يريدون العالم تطبيقها ونحن لا ننتمي لنفس شريحة البشر وهم يدَّعون الاستنارة والإنسانيَّة؟

وما عُرفت بالحقوق الأساسيَّة شملت التَّملُّك والوظيفة مثلاً ولم تشمل حقوقاً أخري مثل حقَّ التَّصويت ولا حقَّ المساواة في الأجور فالنِّساء في فرنسا مهد انطلاق هذه المفاهيم لم يتساوى دخلهنَّ مع الرِّجال إلى هذا اليوم.

فما الذي يمنع أن تتقدَّم دول أهل الإسلام إذا تغيَّر طبع الحكم عندهم مثلاً مثلما حدث على أيَّام الخليفة المأمون بن هارون الرشيد؟ فالحكم لم يكن ديموقراطيَّاً ولكنَّه اتَّخذ منهجاً منفتحاً على العلوم والبحوث نافستها دولة الأندلس الأمويَّة، والتي لم تكن ديموقراطيَّة أيضاً وكانت منارة للعلم في أوروبَّا؟

لا يعني هذا الدَّعوة للملكيَّة أو الديكتاتوريَّة ولكن هذا توضيح للأغلوطات المنطقيَّة التي يتشبَّث بها أهل الحداثة بجعل هجوم فلاسفة التَّنوير على الكنيسة سبباً أو مرادفاً للنَّهضة الماديَّة والتِّقنيَّة في الغرب ولذلك فحجَّتهم أنَّه ليس من الممكن أن نصل لهذه الحداثة إلا باقتفاء آثارهم حذوك النَّعل بالنَّعل.

فهل موقف القرآن يماثل موقف الكتاب المقدَّس؟ نحن نؤمن بأنَّ القرآن كان أوَّل من نقد الكتاب المقدَّس نقداً تاريخيَّاً ومنطقيَّاً وجدَّد مفاهيمه بتصحيح بعضها وتغيير البعض الآخر فهو آخر عمل تنويري من الله سبحانه وتعالى لكافَّة البشر سبقته أعمال تنويريَّة تجديديَّة لأمم مُعيَّنة من البشر.

والقرآن يُقرِّر أنَّه الحقَّ صادر من الحقِّ وبما أنَّ الحقَّ لا يتغيَّر وطبيعته الثبات والوجوب فهذا يعني أن مفاهيمه خالدة لا يصيبها التَّحلُّل ولا تحتاج لتفكيك حتى تُركَّب على صفة أخرى ولكن يحتاج فهمه إلى ذلك لأنَّ أحوال الإنسان تتغيَّر وإن كانت طبيعته ثابتة.

وإذا كان حال الإنسان المسلم التَّخلُّف المادِّي والتِّقني فهل هو متخلِّفٌ أخلاقيَّاً؟ وهل يمكن الجمع بين النِّموِّ المادي والأخلاقي؟ فعصور الإسلام الأولى حتى أيام الخلفاء الراشدين لم تشهد نموَّاً تقنيَّاً وإن شهدت نموَّاً مادِّيَّاً نتيجة الفتوح وليس نتيجة عمل زراعيٍّ أو صناعيٍّ وأخلاقيَّاً نتيجة التزام الخلفاء الراشدين بروح الدِّين بالزهد في الحياة الدُّنيا حتى العهد الأخير من خلافة سيدنا عثمان بن عفَّان رضي الله عنه.

ثمَّ شهدت دار الإسلام تدهوراً أخلاقيَّاً ومادِّيَّاً وغلبت عليها ثقافة التَّرف والاضمحلال الفكري فهل ذلك نتيجة لطبيعة الملك أم لطبيعة الإنسان؟ وأيٌّهما أولى: أن نحتفظ بالأخلاق أم نبادلها بالكسب المادِّي والتِّقني إذا كان ذلك هو الثمن الوحيد؟

وهل الحداثة في دول الغرب ستستمر وهي مُهدَّدة بانهيار خُلقي وهي اقتصاديَّاً في تدهور بينما الصين الشيوعيَّة الديكتاتوريَّة التي لا تُقرُّ بحقوق الإنسان التي اتَّفق عليها العالم تزداد قوَّةً بعد قوَّةٍ بناءً على براغماتيَّة تؤلِّف بين الفكر الشيوعي والرأسمالي؟

وهل الاضمحلال في ديار المسلمين نتيجة جمود الفكر كما يظنُّ الحداثيُّون أو نتيجة عدم تطبيق الفكر كما يقول السلفيُّون؟

وإذا كان السبب هذا أو ذلك فلماذا لم يُجدِّد الحداثيُّون هذا الفكر بعد بصورة تجعله مفهوماً للرَّجل العام لأنَّ الدِّين جاء لعامَّة البشر ولم يأت لشريحة العلماء والمثقفين الذين هم قِلَّةٌ ولم يجعل دور العلماء والمثقفين إلا دوراُ توضيحيَّاً تعليميَّاً لا غير؟ ومن سيقوم بهذا الدَّور الذي يبشِّرون به؟
ولماذا لم تتقدَّم الدُّول التي تدَّعي تطبيق الشريعة الإسلاميَّة إذا كان سبب التَّخلُّف هو عدم التَّطبيق؟
إذا أجبنا على هذه الأسئلة فنجد أنفسنا على شاطئ المعرفة حيث يبدأ النِّظام وتنتهي الفوضى.
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالى
+++
ودمتم لأبي سلمي

د عبدالمنعم عبدالباقي علي
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..