مقالات سياسية

الشمال والجنوب في السودان: دراسة حول التباينات البشرية

الشمال والجنوب في السودان: دراسة حول التباينات البشرية
North and South in the Sudan, a study in human contrast
بروفيسور ك. م. باربور Prof K. M Barbour
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في مقال للبروفيسور البريطاني ك. م. باربور (والذي عمل أستاذا لمادة الجغرافيا في جامعة لندن، وفي جامعة الخرطوم لثمان سنوات متصلة، ثم بجامعة أبادن بنيجيريا) نشر في العدد الرابع والخمسين من مجلة ” Annals of the Association of American Geographersحوليات جمعية الجغرافيين الأمريكية” والصادر في عام 1964. وقام بروفيسور باربور في ورقته العلمية هذه بتحليل نتائج أول إحصاء للسكان أجري في شتاء 1955/ 1956م. ودعمت الورقة باثنين وعشرين شكلا وخريطة عالية الوضوح، وأربعة عشر جدولا لخصت كل المعلومات الواردة في هذا البحث.
وللمؤلف كتاب مشهور عن السودان صدر بعنوان “جمهورية السودان The Republic of the Sudan” صدر ببريطانيا في عام 1961م.
ولا تزال لمثل هذه المقالات القديمة عن “شمال” و”جنوب” السودان في ظني أهمية بحثية وعملية عظيمة رغم الانفصال الذي وقع في التاسع من يوليو عام2011م.

المترجم
**** *********

تتيح المعلومات التي تم الحصول عليها من أول إحصاء حقيقي للسكان بالسودان (وهو منطقة جغرافية شديدة الأهمية) فرصة كبيرة للتحليل، ومعرفة ودراسة توزيع ظواهر اثنوجرافية ethnographic عديدة في مختلف أرجاء البلاد. ولقد استخدم بعض الجغرافيين بالفعل بعض تلك المعلومات، غير أن الكثير منها ما يزال ينتظر البحث والتحليل. وهو أمر يهم بالطبع رجال السياسة والدولة والاقتصاد من المهتمين بالتخطيط للرفاهة والرعاية الاجتماعية لمختلف مناطق السودان.
وتنبع الأهمية السياسية لفروقات وتباينات المناطق المختلفة بالسودان من أن هذا القطر (مثله مثل كثير من الدول الأفريقية الأخرى) يحوي عددا من العناصر المميزة، والتي وجدت في هذه المنطقة مع بعضها البعض، ربما بمحض الصدفة، في القرن التاسع عشر. ومما هو مطلوب الآن أن تسبح كل تلك العناصر المميزة في مياه الاستقلال المتلاطمة الأمواج قبل أن يقوم أفراد البلاد بإكمال حياكة نسيج اجتماعي متماسك، وقبل الاعتراف بحق رأس الدولة في إصدار أوامر إدارية.
ومن أوضح وأبرز التباينات في البلاد هي بلا ريب تلك التي يراها المرء بين المديريات الست في الشمال (والتي يقطنها مسلمون يتحدثون في الغالب باللغة العربية، ويعدون أنفسهم أعضاء طبيعيين في العالم العربي) والمديريات الثلاث في الجنوب (والتي يقطنها أفارقة من زنوج/ زنجانيون negroid people يتحدثون لغات نيلية وسودانية Sudanic ونيلية ? حامية، وبعضهم يدين بالإسلام أو المسيحية، ولكن أغلبهم لا يزالون وثنيين pagans. وتتفاوت نسب المتحدثين بالعربية في المديريات الشمالية، فبلغت نسبتهم في واد مدني مثلا بين 90 ? 100%، و60% في بورتسودان، و20 ? 40% في الأبيض. ولم يشمل الإحصاء ? ربما لحكمة ما- أي سؤال للمواطنين عن ديانتهم. ولا ريب أن ديانة معظم سكان الشمال هي الاسلام، عدا في أجزاء من جبال النوبة.
وعند دراسة التوزيع العرقي للسكان في شطري البلاد، يتضح أن التنوع العرقي بالجنوب أكثر منه في الشمال. وربما يفسر ذلك التنوع العرقي الشديد بالجنوب جزئيا بوجود ذبابة التسي تسي (الناقلة لمرض خطير في الأبقار) في بعض هضاب الجنوب ومستنقعاته، والذي قد يكون قد أعاق الاتصال والتواصل بين القبائل الجنوبية المختلفة، ومنع تكوين وحدات سياسية كبيرة بالجنوب. وبالإضافة إلى ذلك فقد ساهم عرب شمال السودان (بتراثهم المولع بالحرب (warlike، وقطعانهم التي كانت ترعى في سهول جنوب السودان الخضراء في فرضهم لسيطرتهم وعاداتهم.
وكانت لصفات الجنوب المميزة آثارا سياسية عميقة الأثر في غضون سنوات الحكم البريطاني ومباشرة بعد رحيله أيضا. ففي القرن التاسع عشر غزا المصريون شمال ووسط السودان، وشارك بعض الشماليين في تجارة الرقيق بجنوب السودان. ولا شك في أن ذلك كان قد بذرفي نفوس الجنوبيين بذور الكراهية وعدم الثقة في مواطنيهم الشماليين. ولم تقم حكومة العهد الثنائي في كل سنواتها بالكثير لتغيير مشاعر القلق والريبة تلك، بل حَدَّت من حركة الشماليين في الجنوب، وذلك ? بحسب ما زعتهم تلك الحكومة ? جزئيا حماية لهم، وجزئيا لمنعهم من التحريض ضد البريطانيين، حكام البلاد الفعليين. ونص دستور السودان والصادر في عام 1953م صراحة على تمثيل الجنوبيين في مجلس الوزراء، ولم يخص بالذكر أي منطقة أخرى في البلاد. غير أن ذلك النص في الدستور لم يبدد مخاوف الجنوبيين عند تكوين أول حكومة وطنية في عام 1955م، حين تمرد بعض الجنود في الاستوائية بسبب عدم الرضاء عن حكم الشمال للجنوب.
وتوضح بعض الأشكال والجداول الواردة في البحث بعض خصائص التشابه والاختلاف بين مديريات السودان التسع. وأخذت كل المعلومات الواردة في كل تلك الأشكال والجداول من معلومات الإحصاء السكاني الذي أجرى في شتاء 1955- 1956م. وربما كان من المفيد لمسئولي الدولة أن يتابعوا متغيرات الفروقات والتباينات بين الأقاليم والمناطق في أي إحصاء سكاني في المستقبل. ويجب تذكر أنه سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن أي اتجاه لجعل الجنوب أقل شبها بالشمال سيزيل مخاوف وتحفظات الجنوبيين فيما يخص اللغة أو الوظائف، أو مشاكلهم السياسية أو حملتهم من أجل استقلال دولة الجنوب. غير أن معدل زيادة المواليد المرتفع عند دينكا أويل أو الانخفاض المتوقع في أعداد الزاندي سيكون له آثار سياسية مهمة في المستقبل. وسيكون للارتفاع المحتمل في المتحدثين بالعربية في الجنوب، أو الانخفاض في أعداد القادمين من غرب أفريقيا بالقضارف آثارا مشابهة.
ويمكن للخبير الاقتصادي مقارنة التوزان بين شطري السودان في مستوى التنمية والتقدم. فرغم أن السودان (شماله وجنوبه) يعد قطرا متخلفا بالمقاييس العالمية، إلا أن مستوى التنمية والتقدم في مناطقه المختلفة تتباين تباينا كبيرا. وستزداد تلك التباينات بين أقاليم السودان المختلفة لا محالة عند بداية تطبيق أي برنامج لزيادة الدخل القومي وإصلاح أحوال التعليم والتغذية والصحة، وستزيد الفجوة في هيكل المرتبات في مختلف المناطق، وستتغير من معدلات المواليد والوفيات في المناطق الأكثر تقدما وازدهارا في البلاد. ولكن من ناحية عملية لن يحصد مواطنو مديريات مثل دارفور والاستوائية من عمليات التنمية في أواسط السودان إلا قليلا من التحسن التدريجي في الخدمات الاجتماعية مع زيادة غلة الضرائب. ولن يكون التقدم والتنمية في تلك المديريات الطرفية بذات السرعة التي يحظى بها المزارعون في مناطق الوسط كالجزيرة مثلا.
وأثبت الإحصاء السكاني الأول بالسودان أن الكثافة السكانية (عدد الأفراد في كل ميل مربع) ونسبة أعداد الذكور للإناث في المديريات الجنوبية لا تختلف كثيرا عن المتوسط في سائر أرجاء البلاد. غير أن نسبة الوفيات ومعدل الولادات ووفيات المواليد في تلك المديريات الجنوبية كانت أعلى من المتوسط للبلاد (على سبيل المثال بلغت معدلات المواليد في كردفان 50 لكل 1000، بينما بلغت في بحر الغزال 85 لكل 1000). وكانت نسبة الذكور للإناث في الخرطوم والشمالية ودارفور هي 118 و94 و91 (لكل 100 من الإناث) على التوالي. ولا ريب أن هنالك من سيعترض على هذه الأرقام بحجة أنها أرقام تقريبية coarse “تبسط” الأمر، فهي قد أخذت من مساحة واسعة مترامية الأطراف قدرها 200000 ميلا مربعا تقريبا، وهذا يقلل من صدقية وموثوقية هذه الأرقام الكلية لأسباب كثيرة ومتنوعة.
أما في مجال التعليم فقد كانت الاستوائية تحتل مرتبة عالية نسبيا في عدد من أكملوا المدارس الأولية وما فوقها، ربما بسبب كثرة المدارس التبشيرية فيها (لم يذكر الكاتب نسب الطلاب إلى كامل عدد السكان في المديرية المعينة، فقد أورد مثلا أن أعداد من أكملوا التعليم الأولي فما فوق في مديريات الخرطوم والاستوائية وكسلا كانت 68782 و24395 و21606، على التوالي، وقد لا تعني هذه الأرقام شيئا دون ذكر العدد الكلي للسكان في المديرية المعينة، أو عدد من هم في سن التعليم فيها. كذلك تجاهل الإحصاء أعداد المتعلمين الذين درسوا في الخلاوى. المترجم). وقبعت دارفور في أسفل قائمة كل المديريات الشمالية في كل الإحصاءات المتعلقة بالتعليم. ويلاحظ، وبصورة عامة، أن أعداد المتعلمين في السودان قليلة نسبيا مقارنة بعدد سكان البلاد الكلي. ولا غرو، فغالب سكان البلاد من القبائل الرحل والمزارعين الذين لم يتلقوا تعليما نظاميا في المدارس.
وأثبتت نتائج الإحصاء أيضا أن نسب المزارعين والعمال الزراعيين في النيل الأزرق والاستوائية وكسلا والخرطوم على سبيل المثال بلغت 74 و74 و46 و29 % من جملة العاملين، على التوالي. وأوضحت نتائج هذا الاحصاء أيضا أن مساهمة المرأة في دخل العائلة في مديريات مثل الخرطوم والشمالية (حيث لا يحبذ الرجال عادة عمل المرأة خارج البيت) أقل من مديريات أخرى مثل مديريات الجنوب ودارفور. غير أن الواقع يقول بأن المرأة في الريف (في غالب مديريات السودان الشمالية والجنوبية) تعمل في مختلف ضروب المهن من حياكة وزراعة ورعي وغيرها، غير أن أرقام ذلك الاحصاء لا تشمل نسب أعداد النساء اللواتي يعملن في تلك المهن.
ومما يمكن استخلاصه أيضا من نتائج ذلك الإحصاء السكاني الأول في السودان هو أن أعداد مالكي الماشية والرعاة يفوقون المزارعين والعمال الزراعيين في 9 فقط من 84 منطقة ريفية.
لا يختلف السودان عن كثير من الدول الأخرى التي تجابه مشاكل سياسية، فالمشاكل بين شمال وجنوب السودان إن هي إلا حالة حادة / متطرفة من “الصعوبة المجتمعية communal difficulty” التي واجهتها (وحلتها) معظم الدول الإفريقية حديثة العهد بالاستقلال من الحكم الاستعماري. ولعل أول خطوات تطوير الحلول المناسبة لمسألة التباينات بين أجزاء البلاد هي دراسة هذه التباينات بعمق وتجرد ودقة. وأول الأدوات لفعل ذلك هو إجراء إحصاء سكاني دقيق. ويجب أن يوفر أي إحصاء سكاني قادم إمكانية النظر في مدى مقاومة تناقضات الشمال والجنوب للقوى العاملة ? بوعي و غير وعي – من أجل الوحدة، ومعرفة إن كان مرور السنين والعقود قد قرب بين طرفي البلاد، أو زادهما تباعدا.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..