مقالات وآراء

ما بين العنصرية والتصالح الإجتماعى نقلة من صناعة الموت إلى تحقيق السلام الشامل

من الضرورات الوجودية التى يبحث عنها الإنسان هى تحقيق الذات عن طريق صناعة هويته و حمل الآخر على الإعتراف بها , لكن يتميز هذا الجانب باللاّ نمطية المطلقة مما أكسبه تشعّبات و واسائل مختلفة و معقّدة, ومن بين تلك الوسائل ” العنصرية بأنواعها” , أود أن أذكر مثالين لعلّهما يجعلان من هذا الموضوع مادة مقبولة: المثال الأوّل, الشعب الفلبينى هو فى طبيعته يتميّز باللّون البرونزى ( الأصفر الغامق) , فى أساطيره الشعبية يحكون أنّ الإله خلق الإنسان فى ثلاث محاولات, و ذلك عن طريق الحرق , كانت أوّل محاولة ظهر فيها الرجل الأبيض نتيجةً للإستعجال مما أدى ذلك إلى منتوج غير ناضج ( إنسان نّىْ) , أمّا فى المرة الثانية كان الناتج هو الرجل الأسْوّد نسبةً للإفراط فى الحرق كمحاولة لتجاوز تجربة الرجل الأبيض, إذا به أنّ النتيجة (إنسانا محروق), هكذا أكتسب الإله خبرة جيّدة لخلق الإنسان الفليبينى بهذا اللون البرونزى الجميل ( زول نجيط) , تعكس هذه الأسطورة نوع من أنواع العنصرية, وهى عنصرية إنكفائية لا يتضرر منها أحد فقط ظهرت لتمجيد الذات دون المماس بالآخر, المثال الثانى :تخص العنصرية الأيديولوجية , كالتى تميّزت بها ألمانية النازية, كانت فى مسعى عنيف لتحقيق الهوية الوطنية ( العرق الآرى) و إجبار الآخر لقبول هذا التصور كمسلمة لا تقبل الجدال, فمارسوا االظلم ضد الآخر لدرجة القتل و التشريد و الحرق فى الآفران ( الهولوكست), قام يوجين فيشر أستاذ الطب و الأنثروبيولوجيا بجامعة برلين بوضع الشعب الناميبى موضع الفأر للتجارب البيولوجية, فخرجت نتائجه بأنّ هؤلاء لا يرقون إلى مستوى البشر و لا يصلحون إلاّ للتجارب المعملية , عليه تم تعبئة معامل الجامعات الإلمانية بآلاف الجماجم الناميبيّة, هذا الشكل من السلوك أدى إلى تفكيك العلاقات الإلمانية بالعالم المحيط و جعلها فى عزلة تامة قبيل منتصف القرن العشرين, الأمر الذى جعل الدول الكبرى تتحالف ضد ألمانيا و تدميرها فى الحرب العالمية الثانية, أعتمدت الأيديولوجية النازية على العرق الآرى( الحتمية البيولوجية) كمنطلق لفرض سوبرمان الألمانى على العالم .
القرابة البيولوجية ( علاقة الدم و العرق) لم تعد ذات فائدة إجتماعية فى عصرنا الحالى , نتيجة للتطورات التى صاحبت الأنساق الإجتماعية بفعل التوجه العالمى إلى أحادية التمحور الإجتماعى بفضل وسائل الإتصالات, على هذا المنوال حلّت علاقات المواطنة محل القرابة البيولوجية, و صارت المواطنة المثالية عنصراً فاعل فى التماسك الإجتماعى على مستوى الدولة القومية و حتى العالم , لذلك نجد أفراد المجتمع فى الدولة الحديثة هم أقرباء بعض بإنتمائهم إلى الدولة القومية و ليس بالدم أو العرق, فى فترة من الفترات التى مرت بها الصين ليس هناك أشقاء فى الأسرة ( كان مسموح بأنجاب طفل واحد فقط) , بالتالى هناك جيل أو أكثر لم يكن فيه علاقات رحم ” أقرباء دم” لا أخ , لا أخت , لا عمّ ,و لا خال و هكذا , على هذا السياق نجد أنّ القرابة البيولوجية لم يكن لها دور وظيفى فى البناء الإجتماعى إلا على مستوى الأسطورة , و قد أثبتت البحوث العلمية ذلك , مثال ما قام به ريتشارد داوكن (Richard Dawkins) و مينارد ( Maynard) فى حساب “الأبعاد الجينية” فى تحديد مستوى القرابة البيولوجية , بالتالى جدك الخامس و أبنائه لا يُعتبرون من أقرباءك بهذه الحسابات , و لإثبات ذلك حاول أذكر أسم جدك الخامس , أبنائه و أحفاده ( أخوانك بالتماثل), هل تعرفهم , هل هناك تواصل معهم ؟ , الأرجح أنّ أغلبية الناس لا يستطيعون إثبات ذلك. الإعتماد على مثل هذه القرابة فى التواصل الإجتماعى لتحقيق تنمية بشرية و إقتصادية على مستوى الدولة يُعتبر مشروع فاشل و مساعى وهمية , إذن تحقيق التواصل الإجتماعى عن طريق المواطنة الحقيقية تعتبر عملية إنقلاب إيجابى من المستوى الرأسى ( السلالى) إلى الأفقى ( القومى), بالتالى التمسك بالعلاقات العرقية (القرابة السلالية) فى الحراك المجتمعى قد يؤدى إلى مشكلات إثنية و عنصرية, و حقيقة فيما يخص العنصرية على خلفية الجندر, نجد أنّ الرجل هو المسؤول الأوّل عن ممارسة هذه الظاهرة بإعتبار تفوقه الفيزيائى على المراءة .
إبتداءً من الأمومة ( ليست الأنوثة) كمنطلق تعريفى للمراءة , نجد أنّ المراءة لم يُعرف عنها الجنوح العنصرى بالمقارنة مع الرجل و ذلك لتفوقها الوجدانى عليه , بالتالى الخصوصية البيولوجية للمراءة جعلت منها كائناً كوكبياً أكثر منه جهوياً, المراءة من هذه الناحية تحقق ثلاثة أضعاف ما يختص به الرجل: فهى بيولوجياً تساوى (XXX) بينما الرجل فهو فقط (Y) , أما فى عالم المشاهدة فهى تمر بثلاثة حالات عُسر 1- تتحَمُّل عبء الحِمل ( ثقل و تغذية) 2- تتحَمّل ألم المخاض حالة الولادة 3- تحَمّل معاناة الرضاعة, عقدياً ذكر الله تعالى ثلاثة حلات تواجهها المراءة (الأم) ﴿ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ …..﴾ هذه ثلاثة مراحل من الجهد وهن على وهن و رضاعة , و ضاعف الرسول (صلى الله عليه و سلم ) حسن مصاحبة (صحبة) الأم ثلاثة مرات على ما هو للأب ( أمُّك ثم أمُّك ثُمّ أمُّك ثم أبوك) ثلاثة مرات للأمّ , هذه الخصوصية الطبيعية الثلاثية جعلت للمراءة ما يُلهمها الشعور بملكيتها للكون وكائناته الحية , لذلك فهى لا تقتل و لا تسرق لأنها تتماهى مع الكلّ الكونى, وليس هناك ما يجعلها تمارس العنصرية على الأخر الذى تعتبره جزءً منها, و إنْ هى يوماً جاهرت بالعنصرية فعلينا مراجعة المجتمع فإنّه بلغ أوْ كاد أنْ يبلغ مستوى ألمانية النازية, هذا ما شاهدته البلاد فى الآونة الأخيرة .
ظلت الموكنات البشرية السودانية (ما قبل الدولة) منذ القرن الرابع عشر الميلادى تواجه تعقيدات إجتماعية قاسية جعلته يتعرض لعمليات إنشطارية مستمرة حتى بداية القرن العشرين ,ظهر نتاج هذا الحراك التاريخى فى تعدد القبائل حتى بلوغها ما يربو إلى 650 قبيلة فى وقتنا الحالى , لكن فى الفترة ما بين ثلاثينيات القرن العشرين حتى ثمانينياته بدأ المجتمع السودانى فى التعافى النسبى , إذ بدأت تظهر أنساق إجتماعية متماسكة نوعاً ما, إلى أن جاء نظام الجبهة الإسلامية فى الربع الأخير من القرن العشرين, ظل هذا النظام يستخدم نهجاً أيديولوجياً لإعادة برمجة أعضائه حتى يصبحوا أوعية لأفكار تخدم نزوات مجموعة معينة ثم تطبيقها على المجتمع , إذ شكل هذا النظام الأخوانى حاضن دفيىء لمجموعة من القراصنة أن قاموا بإستغلال التبايّن القبلى فى تهييج البعد العنصرى, و الإستعانة بالبسطاء للمجاهرة بالعنصرية و تطبيقها تطبيقا منهجياُ حتى يتمكنوا من السطو على موارد البلاد, و كان ذلك بالنسبة للشعب السودانى بمثابة ضربة فى مقتل .هذه المسارات قادت البلاد فى إتجاه أشبه بحالة ألمانية النازية فى فترة عزلتها العالمية, و ظل المجتمع فى مستوً أحسن ما يقال عنه إنّه غير مستقر إجتماعياً , الدور الإيجابى للقبيلة فى المجتمع هو دور تعاونى ( بنائى) و تعارفى كما ذكر الله عزّ و جلّ ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ …………﴾ الحجرات (13), لكن أحياناً يتم إستخدام القبيلة كمدخل لإثارة النعرات العرقية و التفرقة بين الناس مما يجعلها نتنة كما قال الرسول الله ” دعوها فإنّها منتنة ” فى دعوته للمهاجرين و الأنصار على عدم الإستجابة لدعوات الفتنة بينهما.
الشعب السودانى مقبل على سلام وشيك , إلاّ إنّه فى البدء سيكون سلام مرسوم على ورق إذا تم التوقيع عليه , بالتالى يستوجب علينا ترسيخه فى كل مفاصل المجتمع, حتى يكون جزء من وعينا العام لتحقيق مصالحة إجتماعية عن طريق إزالة خطوط التصدع التى أرستها الإستخدامات السيئة للقبيلة , عندما ننجح فى إرساء تصالح إجتماعى نكون قد حققنا خطوة جريئة لوضع لبنة قوية لمشروع سلام حقيقى دائم, و هو مشروع يتطلب تقويض إمبراطورية القراصنة أوّلاً التى ما زالت تستخدم وسائل العنصرية عبر الوجود القبلى للمجتمع لتعمية الأبصار و طمس البصائر لتسهيل للرجوع إلى عمليات السطو على موارد الدولة أوْ المحافظة على المنهوبات.
إستخدام محترفين إعلاميين عبر الوسائط الإعلامية لإثارة النعرة العنصرية يُعتبر إمتداد إجرائى لبعض الفتن التى حدثت فى جيوب جغرافية الأكثر هشاشة فى البلاد مستفيدين من التبايّن القبلى, كما حدث فى بورتسودان , جنوب كردفان , الجنينة و وادى صالح بدار فور. والهدف من كل هذه الأنشطة هو وضع عراقيل أمام الوصول إلى إتفاقية سلام , و حتى إن تم التوقيع علي إتفاقية سلام فى مثل هذه الظروف , حينها لا يفيد وجود الأمم المتحدة كمراقب و لا الشهود الدوليون, سوف يحدث كما حدث لبروتوكولى المنطقتين فى إتفاقية السلام الشامل2005, بالتالى على المؤسسات المعنية بهذه القضايا الإنتباه و توخى الحذر حتى لا ينفجر الوضع من هذه الناحية , إنَّه أخطر من التدهور الإقتصادى الذى يعانى منه الشعب حالياً .
الصراع فى السودان يُعرف بـ “الصراع الإجتماعى الممتد” (protracted Social Conflict) هكذا يُصنف حسب معاهد الدراسات الإنسانية, عليه هذا الصراع يرجع إلى عوامل إجتماعية ( شفرة الصراع) فلا يمكن حسمه نهائياً ما لم تُعالج القضايا الإجتماعية أوّلاً, و من ثمّ السياسية . من واجب مراكز السلام و التنمية الإقليمية و المحلية تكثيف عملها وسط الشباب و تدريبهم على وسائل بسط تحقيق الدمج الإجتماعى و التعايش السلمى و تدريبهم على الإنذار المبكر لتفويت الفرصة على مجرمى الحرب, و مساعدة الدولة لتأسيس مؤسسة رشيدة تقوم على الرعاية الإجتماعية , و تحقيق سلام شامل حقيقى .
# القومة للسودان#
عبدالرحمن صالح احمد ( ابو عفيف)
[email protected]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..