رثاء الدكتور البروفيسور محمد إدريس صالح جعفر

رثاء الدكتور البروفيسور محمد إدريس صالح جعفر

رحل عنا الدكتور البروفيسور محمد إدريس صالح جعفر بعد صراع مع المرض لم يمهله طويلاً ليقول وداعاً، وهذه إرادة الله الذي لا يكون إلا ما يريد، وإنَّ العين لتدمع والقلب ليحزن وإنَّا لفراقه لمحزونون. معرفتنا بمحمد قديمة إذ التقيناه في أوائل الثمانينات من القرن المنصرم وهو طالب في المدارس الثانوية العليا ثم عاملاً بالمدبغة الحكوميَّة بود مدني، وكنت وقتذاك طالباً بجامعة الجزيرة. المدينة الهادئة الطيب أهلها، والتي فيها تعرَّفت على نفرٍ غير قليل من السُّودانيين بكل مللهم وأهالي جبال النُّوبة الكرماء النبلاء بصفة خاصة، والشباب الذين التقيتهم وتعاملت معهم على وجه الخصوص. ففي لقائي وتعاملي فيما بعد مع البروفيسور محمد كأحد المثقفين المستنيرين، لم أحسن به الظن فقط بل أحسست بالرضا والارتياح الشديدين بوهج العاطفة التي كانت تغمره عندما كنا نتحاور ونتبادل الحديث عن القضايا الاجتماعيَّة والثقافيَّة، والاقتصاديَّة، وبالضرورة السياسيَّة، والفكريَّة والفلسفيَّة التي كانت الشاغل للمجتمع يومذاك. فقد لاحت لنا وقتها قدرات وملكات محمد اللا محدودة في تناول الموضوعات ذات الأهمية القصوى في الحياة السُّودانيَّة عامة وأهالي المدينة، خاصة شريحة النُّوبة كما كان الحال. فقد كان محمد ? كما عرفته – مهموماً بتلك القضايا، وثُّمَ كان كثير التفكير فيها، وكان يثير النقاش ويحرِّض عليه في كيفية تنمية وترقية حياة التعساء من أهل السُّودان وهو ممسكٌ على ما في نفسه من الغيظ إلا ما ظهر خلسة من الشعور بآلام وأوجاع بني جلدته والأقربين. تلك كانت سمته كونه صاحب همة عالية وغايات بعيدة. لِمَ لا، ففي جسمه النحيل بغير ضعفٍ كانت تتجدَّد الحيوية والنشاط اللذان انعكسا في بريق عينيه، إذ كان فتىً ضخم المعالي فحق فيه قول الشاعر:

إذا كان الفتى ضخم المعالي فليس يضره الجسم النحيلُ

وحين اكتشفنا أفق تفكيره الواسع، ومنطقه وأسلوبه الجاذبين للإقناع، وغزارة معرفته الباكرة بالاطلاع على أمور شتى وفي أمهات الكتب وفي مختلف المجالات لإثراء النقاش وتبيين وجهة نظره الثاقبة، تفاءلنا به خيراً. ولسنا بممتنين على محمد إذا قلنا قد أفرغنا له ما كان لدينا من نصحٍ وتشجيعٍ معنوي لمواصلة تعليمه الذي انقطع بسبب عمله ليعول أسرته الصغيرة والكبيرة الممتدَّدة كما جرت العادة في السُّودان! هكذا تحمَّل محمد الذي غاب عنا غياباً أبدياً مسئولياته الأسريَّة والمجتمعيَّة. ولتحقيق أهدافه السامية اجتهد بالتعلُّم والتحصيل ليعلِّم الآخرين لرفع قدرهم وتعزيزه لمحاربة الجهل، والمرض والجوع، وللخروج من الأزمات التي تعيق الإنسان عن الإنجاز. لم يخب محمد ظننا فيه ولا طمحاته أو رغبات أهله، بل استعصم وتعلَّم فالتحق بجامعة الجزيرة وتخرَّج فيها حاصلاً على درجة البكلاريوس من كلية الاقتصاد والتنميَّة الريفيَّة رغم كل الصعاب، فالماجستير بنفس الجامعة، والدكتوراه فمن جامعة الزعيم الأزهري والتي كللها بالعمل في جامعة الدلنج لعدة سنوات وأستاذاً متعاوناً بمؤسسات جامعيَّة سُّودانيَّة أخرى، وأخيراً أستاذاً مشاركاً بجامعة الملك فيصل بالمملكة العربيَّة السعوديَّة حتى وفاته عن عمرٍ لم يتجاوز 52 عاماً. فسيرته الذاتية مليئة بإنجازاته الأكاديميَّة، والعلميَّة، والبحثيَّة والعمليَّة في فترة قصيرة مبرهناً أنَّ سقف التعليم لتحقيق أي شيىء هو السماء. لذا نراه قد قدَّم لشعبه ووطنه، ولكل طلابه من علمٍ نافعٍ في مختلف ضروب العلم (الإدارة، والماليَّة، والإحصاء، والحاسوب، إلخ…) وكان يهدف إلى أكثر من ذلك إلا أنَّ قضاء الله بألا يتم مراده هو الفيصل ونهائي.
قُبيل وأثناء، وبعد انتفاضة السادس من أبريل عام 1985م، رأينا الراحل مناهضاً لنظام القهر الذي مارسته السلطات المايويَّة ضد سكان هامش المدينة خاصة في أحياء “السنيط”، و”موبي”، و” المكي” المطل على النيل الأزرق بطرف حي “جزيرة الفيل” التي يقطنها النُّوبة بصفة خاصة، لتقاعس السلطات آنذاك عن تخطيط وتمليكهم البيوت بحجة أنَّها عشوائيَّة (أي “بانتوستونات” كما كان يسميها الراحل تعبيراً عن عدم رضاه بالحال) بعد أن عاشوا فيها لسنين طويلة، وأنَّها قامت على أرضٍ تتبع لملاك غيرهم. هنا تجدر الإشارة إلى أنَّ محمداً لم يكن عنصريَّاً أو جهوياً، أو مناطقياً لعدم رضاه لما جرى لمواطنين سُّودانيين، بل كان ينادي بالعدالة الاجتماعيَّة والمساواة في تقسيم الاستحقاقات بين المواطنين أيَّاً كانت تلك الحقوق ووجهات تلك الجماعات. فمسيرة الأستاذ الدكتور العمليَّة الأكاديميَّة تكشف بلا مواربة ما كان يتمتَّع به من صفاء النفس وطيب الخُلُق والمعشر والمساواة بين الناس والطلاب ما ينبغي وما تقتضي الأمانة العلميَّة ومهنته كأستاذ جامعي.
رنَّ هاتفي بعد رحيله من ذاك الناقل للخبر، وليته لم يرن. لم يكن محدثي في الطرف الآخر من الهاتف فرحاً وبشوشاً كعادته، فلما اشتدَّ سؤالي وإلحاحي عليه عن السبب، خبَّرني وفي صوته حزن ما لم استطع عليه صبرا فأذرفنا الدموع وبكياً. بكينا حزناً وألماً، لفقد محمد يوم الرحيل عن هذه الدنيا الفانية ملء الجفون مثلما كنا سعداء بمعرفته وبعطائه العظيم وسط مجتمعه. فلترقد روحك الطاهرة يا محمد بين يدي الله في سلام وأمن في رحلتك الأخيرة. فأنت لست غريباً عنه، لأنَّك منه وإليه؛ وأنّك لم تتغرَّب عن أهلك وأصدقائك وطلابك الذين نهلوا من علمك الوفير، ومن تواضعك وعلو همتك ونفسك، وبشاشتك بين الناس أجمعين فهم يحملونك في حداقات عيونهم ولسان حالهم يقول بألم شديد وبقلوب حزينة ما قاله شعراً الإمام محمد بن إدريس الشافعي:

أرحل بنفسك عن أرض تضام بها ولا تكن بفراق الأهل في حرق
لما تغرَّب حاز الفضل أجمعه فصار يُحمل بين الجفـن والحدق

اللهم أرحم محمد إدريس رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانك وألهم زوجه وأبناءه وآله الصبر الجميل. إنا لله وإنَّا إليه راجعون.
قندول إبراهيم قندول
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..