الكلام المباح في ملمات الأفراح والأتراح (1)

من حق المواطن السوداني بأحيائنا الشعبية أن يغلق له الشارع ثلاثة مرات يوم سمايته ويوم عرسه ويوم وفاته، وأذكر ان المرحوم الأستاذ تاجر السر مكي قال ان أحاديث الناس في ملمات الأفراح والأتراع استطلاعات أكثر دقة من استطلاعات الرأى العام التي تجريها المؤسسات الاعلامية الكبرى في أوربا وأميركا، والناس في هذه المناسبات يأتون من مختلف المناطق والشرائح الاجتماعية ويعرفون الكثيرعن الفساد بحكم علاقات الدراسة والعمل والجوار والعلاقات الجهوية والقبلية، وكانت أبواق النظام تصف مجالس الخراطيم بمجالس المرجفين في المدينة، وكانت حكومة الانتفاضة امتدادا مايويا والانقاذ مايو تو، والقاتل لا يفلت من الجنون ان أفلت من القصاص فقد كان نميرى يعاني من هواجس ومخاوف مرضية بدليل ان القصر الجمهورى أصبح قبلة الدجالين والدراويبش وكبيرهم النيل أبو قرون بعد أن كان ملتقي العلماء والخبراء وأساتذة الجامعات فقد كان نميرى كالمريض الذى فقد ثقته في الطب الحديث فلجأ الي الخرافة والشعوذة والدجل، ولولا ذلك لما أصبح لعبة في يد الترابي ومسخرة في يد الدجالين، لكن نميرى علي عكس عمر البشير كان يحس بالندم ووخز الضمير بدليل ان زوجة عبد الخالق محجوب استغلت وجوده في مأتم فاقتحمت صيوان الرجال وهتفت لن ترتاح يا سفاح فقال لها سامحيني يا نعمات، ولم يفكر عمر البشير في طلب العفو من ملايين الضحايا والثكالي والأرامل والأيتام وكان في محادثات الفرقاء في الجنوب كالجمل لا يحس برقبته المعوجة، والاحساس بالذنب هو الحاسة الاخلاقية والحد الفاصل بين النفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء والانسان والحيوان ، وكان التقاء أكثر من ثلاثة أشخاص تجمهرا غير مشروع فقد صنع الأمن المايوى بين السودانيين الحواجز والموانع والسدود وأغلق مقهي يوسف الفكي وجورج مشرقي بامدرمان والزيبق بالخرطوم وكل المقاهي بأسواق الخراطيم، وكانت المقاهي التي انتشرت بالأسواق والأحياء في أوربا في القرن التاسع عشرتقوم بدور الفيس بوك في مقاومة لصوص السلطة الذين سرقوا ثورة الشعوب الأوربية ضد الملوك ورجال الدين والنبلاء ورجال الاقطاع، والتاريخ يكرر نفسه في صور وأماكن مختلفة كما قال محمود محمد طه فقد سرقت الانتفاضة في اكتوبر وأبريل، وكان الناس في مايو يحترمون رجال المباحث المركزية ويحتقرون رجال الأمن بحكم مفاهيمهم الدينية والاجتماعية، وفي عهد الانقاذ أصبحت كلمة أمنجي مفردة جديدة في لغتنا الشعبية بمعني الكراهية والاحتقار، وفي منتصف التسعينيات أدرك الناس ان اللجان الشعبية مؤسسات أمنية تتجسس عليهم وترفع التقارير وتتلقي التعليمات وان الشرطة الشعبية وبيوت الأشباح ذراعها التنفيذى ففقدت صلاحيتها لأى عائد ومردود سياسي، وارتخت القبضة الأمنية تحت الضغوط المتواصلة من الداخل والخارج والصراع علي الغنائم والأسلاب تحت سطح النظام حتي المفاصلة بين الترابي وحيرانه، وأصبح الكيران يصنفون أنفسهم الي مؤتمر وطني ومؤتمر شعبي بعد أن كانوا يصنفون السودانيين الي مسلمين وغير مسلمين وعرب وغير عرب، وظهرت طبقة طفيلية ترعي في حمي السلطة، وعادت اللجان الشعبية بأشخاصها كما كانت في العهد المايوى، واذا فاتك الميرى اتمردق في ترابه، وقال أبو الطيب ان في الناس في كل زمان ومكان أبواق وطبول لكل سلطان، وقديما قالوا ان بلاط السلطان سوق بضاعته الرياء والملق والنفاق، ونحتاج لعبقرى كنجيب محفوظ وأسامة أنور عكاشة لتوثيق وتحليل ثلاثين عاما من القهر والاستبداد وكان حمدنا الله عبد القادر ذلك الرجل لكن الحرية شرط في الابداع، وقال أرسطو ان الحياة الاجتماعية لا تزدهر الا في مناخات الحرية والرخاء والفراغ.

صينية الغداء في ملمات الأفراح والأتراح تجمع مستويات مختلفة من الناس كالغني والفقير والتاجر وسائق الكارو والموظف واستاذ الجامعة والضابط والجندى والشيوعي والأنصارى، فالناس في أحيائنا الشعبية يتفاوتون في أرزاقهم ومستوياتهم الثقافية لكنهم لا يتمايزون ويتعالي بعضهم علي بعض، ولا يعترف أطفالهم بالفوارق الطبقية والاجتماعية منذ صغرهم وفي مراحل التعليم وكثير من المتعلمين يعانون من الأمية الحضارية والاجتماعية، وتتحول الصداقات والعلاقات الحميمية في مرحلة الطفولة والشباب الي علاقات بين الأسرر تتعزز بالمصاهرة، وكذلك علاقات العمل والزمالة بين الموظفين والموظفات بدواوين الحكومة والشركات، والناس في ملمات الأفراح والأتراح يتبادلون الأحاديث أثناء الطعام، وتحولت المناقشة علي صينية الغداء الي ندوة ومناظرة سياسية تحت ظلال أشجار النيم الفيحاء وتواصلت حتي صلاة المغرب، وكان الكيزان من أولاد الحارة حاضرون ولا يزيد عدهم علي عدد أصابع اليد الواحدة لكنهم أصبحوا ظل السلطة في الحارة بعرباتهم الحكومية وبدت عليهم أثار النعمة، وقديما قالوا السلطة كالنار من ابتعد منها لم ينل شيئا من دفئها ومن اقترب منها أحرقته، ولولا شنآن قوم لكانت السلطة عبئا ثقيلا ومسئولية دينية وأخلاقية ووطنية كبرى، لأنها كالراعي حول الحمي يوشك أن يقع في الظلم أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، ورفضها الحسن بن علي بن أبي طالب عندما جاءته تسعي بقدم وساق بوفاة يزيد بن معاوية، وكان عمر بن الخطاب علي فراش الموت عندما اختار جماعية الشورى لاختيار خليفة من بينهم واختار أبو أيوب الأنصار حاجبا ومراقبا عليهم، وكان أبو أيوب يظن أن السلطة كرة من نار وأن كل منهم سيرمي بها في حجر صاحبه وخاب طنه ماعدا عبد الرحمن بن عوف الذى تنازل عن ترشيح نفسه ليكون حكما بين المتنازعين علي السلطة، وأفتي فقهاء السلطة ليزيد بن عبد الملك بأن القلم رفع عنه بمبايعته خليفة لكن القلم كان هاجسا مخيفا ينتاب عمر بن الخطب وكان يقول ليت أم عمر لم تلد عمر، وقال أبو العتاهية اذا جار الأمير وكاتباه وقاضي الأرض داهن في القضاء فويل ثم ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء، وكان ماللك بن ديار يحذر تلاميذ من أكل طعام السلاطين أو قبول هداياهم لما فيها من شبهة الظلم، وسأله موظف حكومي صغير هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال له ان أعوان الظلمة هم الذين يصنعون لهم طعامهم ويغسلون لهم ثيابهم أما أنت فمن الظلمة أنفسهم، والقاعدة الأصولية في الاسلام لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقال الامام الغزالي ان الطلاب في زمانه كانوا يقبلون علي علوم الفقه والحديث لمنافقة السلاطين وأكل أموال اليتامي والمساكين، والطلاب في عصرنا هذا يقبلون علي دراسة الاعلام لمنافقة الحكام وتضخيم الانجازات وتبرير الاخفاقات وتلميع الشخصيات، وليس في الدول العربية اعلاما حرا ولا يختلف الاعلاميون العرب عن الشعراء العرب الذين كانوا في خدمة السلطة والمال والجاه والنفوذ، وينسب لسطان حكيم قوله أسعد مني رجل داره وسيعة وزوجته مطيعة ودابته سريعة لا يحتاج الينا فنزدريه ولا يعرفنا فنؤذيه، وقال عبدالله بن عمر لا أقاتل في الفتنة وأصلي خلف من غلب لكن بعض الناس كانوا يصلون خلف علي ويأكلون عند معاوية، واعتصم سعد بن أبي وقاص خال النبي وبطل القادسية بالبادية لكي لا يشارك في الصراع علي السلطة، واستعان الترابي علي الداخل بأعداء الديموقراطية في الخارج فأمدوه بجنود من ريالات ودولارات بترولية فقد كانت النظم الشمولية في العراق وايران ومصر والنظم الوراثية بدول الخليج تخشي من عدوى الديموقراطية في السودان، وتذكرني هجرة الشباب من كل أسقاع السودان الي الجبهة الاسلامية بهجرتهم الي مناطق تعدين الذهب، فقد رأى الشباب أقرانهم من الفاقد التربوى يرثون المناصب الادارية والمنازل الحكومية وعربات الاندروفر التي ورثها أولاد الجلابة من الاستعمار ويتزوجون العاصميات الفاتنات في الخراطيم وتهملج بهم البرذونات الألمانية واليابانية المكيفة، ولا يحتاج ذلك للاغتراب والشهادات الأكادمية والخبرة العملية وليس المطلوب سوى الطاعة العمياء في المنشط والمكره والسراء والضراء، والأولوية لأولاد الفقراء من الطلاب للصراخ في وجه دعاة الحرية والديموقراطية ودولة المواطنة، فقد كان الكيزان كثيرون بالعوالق والطفليات والصخب والضجيج الاعلامي، لكن ذلك كان كالنباتات الطفيلية التي نطغي علي الزرع وتحجب عنه ضوء الشمس والكائنات الطفيلية التي لا تسطيع القيام بذاتها ولا بد لها من جسم تتسلل اليه وتعيش فيه، فقد كانت الحركة الاسلامية تحمل في أحشائها جراثيمها القاتلة.

من حكاياتنا مايو المعلم الذى اجتاز المعاينة بالسفارة السعودية وفي وزارة التربية تقدم بطلب للحصول علي شهادة خلو طرف لزوم تأشيرة الخروج فقالوا له ان شهادة خلو الطرف مشروطة بنهاية الخدمة، فتقدم باستقللته لكنهم طالبوه بالانذار المنصوص عليه في عقد خدمته المعاشية، فاقتحم مكتب الوكيل غاصبا وهو يقول عذبت امرأة في هرة حبستها حتي ماتت لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل خشاش الأرض، وكان البريطانيون يفتخرون بأنهم خلفوا أقضل نظام مدني خارج بريطانيا فقد كان النظام المؤسسي في السودان استنساخا للتجربة البريطانية العريقة، والي أن استولي الترابيون علي السلطة كان الخريجون يبعثون للتدريب والدرجات العلمية في أرقي الجامعات الأوربية والأمريكية علي نفقة الحكومة تحت اشراف الادارة القومية للتدريب، وكانت المنح والقروض تقدم لمشروعات محددة وتتضمن ارسال مبعوثين للتدريب علي ادارة المشروعات المتفق عليها، وكل العلماء والخبراء بدأت حياتهم العملية بمؤسسات الدولة فقد كان التحضير لدرجة الماجستير مشروطا بممارسة التخصص عمليا لمدة ثلاثة سنين علي الأقل، وأذكر أن وظائف الباحثين بالمجلس القومي للبحوث كوظائف المعيدين بجامعة الخرطوم والمعهد الفني مشروطة بدرجة الشرف من الدرجة الأولي، وكانت جامعة الخرطوم تعرف عالميا بأكسفورد أفريقيا، والسودان يتميز بالعلم والمعرفة علي سائر الدول العربية والأفريقية والدول والمنظمات الدولية والاقليمية تستعير الخبراء من السودان، واستعانت الأمم المتحدة بالخدمة العامة السودانية في تأسيس الدولة المستقلة في جيبوتي والصومال، وأذكر أن السعودية طلبت من وزارة الخدمة العامة والاصلاح الادرى اتتداب موظفين من ادرة الموضفين العموميين لكن الوزارة رفضت الطلب وكذلك رفض طلب لانتداب محاسبين من ديوان الحسابات، لكن ذلك لم يمنع استنزاف مؤسسات الدولة وقامت البني التحتية في دول الخليج العربي علي حساب مؤسسات الدولة في السودان، وكانت البنوك الاسلامية تنتقي أفضل العناصر من مؤسسات الخدمة المدنية، وكان الصالح العام آخر مسمار في نعش الخدمة العامة، وحسن تراب معلم عاد من السعودية ساخطا بصرة من الريالات والدولارات البترولية واشترى قلاب نيسان عشرة طن انتهي الي قلاب كومر أثرى أربعة طن بسبب الضرائب والزكوات وتصاعد تكاليف التشغيل مع تصاعد أسعار الدولار يوما بعد يوم فأصبح يعرف في الحارة بحسن تراب، وعاد حسن تراب ساخطا علي جنس العرب و افتتح الندوة قائلا ان تلاميذه في السعودية ينادونه بعبار يا عبد والأطفال يلتقطون الكلام من أفواه الكبار، وقال حسن تراب من يهن يسهل الهوان عليه فقد اشترانا العرب بدولاراتهم وريالاتهم فأصبحنا نفضل أن نكون عبيدا في بلاد العرب علي أن نكون سأدة في بلادنا، وواصل حديثه قائلا كان العرب في جاهليتهم يتقاتلون علي الماء والكلأ وهم ينفقون أموالهم البترولية اللآن في شراء السلاح والاقتتال علي احتكار السلطة.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..