شارع بيتنا – الحلقة الرابعة

شارع بيتنا
الحلقة الرابعة
1-
ما دار بخلد أهل الشارع في ذلك الصباح الشديد الحرارة, وشيخ الحي يزور بيوتهم وحيشانهم واحداً واحدا, أن هذه الزيارة ستضع نقطة، في آخر سطرٍ من كتاب تاريخ الشارع القديم. وأن الشارع, بحميميته، وترابط أهله، ونسيجه الاجتماعي, سوف يصبح في طي النسيان بعد حين. وسيأتي قوم لا تربطهم به ذكرى، ولا تاريخ, فيسكنوه ويعمروه0
لم يستوعب أهل الشارع للوهلة الأولى، ما كان يرمي إليه شيخ الحي، بحديثه عن عزم الحكومة، إعادة تخطيط الحي، وأن التخطيط بالتالي سيطال هذا الشارع، وأن بعض أهل الشارع سيفقدون بيوتهم, إلا أن الحكومة ستعوضهم عنها في مكان آخر, وأن ذلك فيه مصلحة لهم، حيث ستتمكن الحكومة من إدخال الخدمات إليهم، كالماء والكهرباء وغيرهما، بعد إعادة التخطيط.

كل هذا الكلام عن الحكومة، وماتنوي فعله لما فيه مصلحتهم، كما قال شيخ الحي, لم يجد آذاناً صاغية من أهل الشارع، هاجوا وماجوا، وارتفعت الأصوات احتجاجاً، وقوبل حديث الشيخ بالرفض, باعتبار أن الأرض أرضهم ولا دخل للحكومة فيها 0
في ظل الّلالوبة، والناس تتدافع من حوله, شرح لهم الشيخ بهدوء وصبر, ما خفي عليهم, وما ليس لهم به علم, فالأرض ملك الحكومة, ومن كان لديه وثيقة تثبت ملكيته للأرض فليبرزها، لينال حقه, وإلا فأن الحكومة هي التي ستتصرف في الأرض، ثم ختم حديثه بقوله:
– أمامكم البلدية والمديرية، اذهبوا إليهم، وأخبروهم برفضكم هذا
تعالت الهمهمات الغاضبة قليلاً, ثم خفتت, ثم أذعن القوم وقلوبهم واجفة.
بعد أيام, جاء شيخ الحي، ومعه موظف من البلدية، وآخر من المساحة, ووزّعت على أهل الشارع أوراقاً ليضعوا عليها بياناتهم. ثم عادوا مرة أخرى بعد عدة أيام، ومعهم العمال، ورجال الشرطة, والآت الحفر. فعاثوا في الشارع حفراً وتمتيراً وإزالة لما يعترض عملهم من حيشان. ثم غرزوا أوتاداً, حذروا أهل الشارع من المساس بها أو تحريكها0
المرة الأخيرة، أتوا ليعلنوا من هم الملاك الجدد حسب التخطيط, وتمّ توزيع القطع عليهم, وتعرّف كل منهم على حدود قطعته, ثم طلبوا منهم الشروع في البناء فوراً, وبالمواد الثابتة حسب التخطيط, ومن يتوانى ستنزع منه القطعة0
شاميت وسعيدة الداية, خسِرتا بيتهما. إذ اُستحدِث شارعٌ في مكانه, وتم تعويضهما بقطعتين في حي جديد شرق المدينة, فرحلتا إليه. حوش درير, تقلّص ليصبح قطعةٌ تعادل مساحتها ربع الحوش القديم. الذين كانوا يسكنون الحيشان الصغيرة حول حوش علي درير, خسروا كل شيء، وغادروا دون تعويض. أبو حوه احتفظ بقطعته. خديجة الممرضة لم تخسر شيئاً. وتراجع بيت بنات رزق الله إلى الشارع الخلفي, حيث التهم شارع جديد جزءاً كبيراً من حوشهم القديم. العجوز الغامضة ظلت في مكانها. الرابح الأكبر، كانت ( حاجة سعاد )، فبالإضافة إلى بيتها، تمكنت من الاستحواذ على قطعتين، مقابل بيتها من جهة الشرق، عبر الزقاق، بمساعدة من أزواجها السابقين، الذين استنجدت بهم فأعانوها0 وما زالت العجوز أم النور تجاورها0
وقُطعت شجرة الّلالوب الضخمة. يبدو أن القدر ربط مصير بعض أهل الشارع بها, فبعد اجتثاثها, وقبل أن تتضح معالم الشارع الجديد, توفي عبد الفضيل ( فتّال الحِبال )، ولحقت به مدينة العمياء, تبعتهما أم النور, ثم أبو حوه, فالنور ود أم النور، وآخرهم كانت العجوز الغامضة, وماعاد السمبر يأتي.

2-
انتظمت الشارع حركة نشطة، تبدأ من غبش الفجر. لوريات التراب تفرغ حمولتها أمام البيوت التي تسورت في شكلها النهائي بأسوار من قصب, انتظارا للفراغ من بناء الأسوار الطينية. عمال البناء بهمة ونشاط، يحفرون الأساسات، و(مداميك) الطين ترتفع رويداً رويدا. وأينما وليت وجهك في الشارع، تطالعك أكوام التراب والرمل و( الزبالة).
هذا باب رزق انفتح لبعض الناس. (علي الورّي), السقاء اليماني, يعيش عصره الذهبي, فبالإضافة إلى حماره المعهود, اكترى عدداً من الحمير، واستأجر عمالاً ليلاحق الطلب على الماء, عربات الكارو رائحة غادية تفرغ حمولتها من جذوع الدوم والشقيق والجريد. المليسون والزبالون والنجارون,والسمكرية, الكل يعمل بهمة ونشاط. حتى خضرة، شقيقة خديجة الممرضة، دخلت هذا المعترك، بتجهيزها لوجبتي الإفطار والغداء، وبيعهما للعمال. موسم, ربما لن يتكرر بهذا الزخم في المستقبل المنظور. ثم بدأ شكل الشارع الجديد يتضح شيئاً فشيئا. الداخل إليه من جهة الغرب، على اليسار منزلان, ثم شارع جديد, ثم منزلان، ومن الجهة الجنوبية، يمبن الداخل, منزل, ثم شارع جديد. يليه ثلاثة منازل, فمنتزه ضلعه الجنوبي، بيت الحاجة سعاد. مقابل المنتزه شرقاً، عبر الزقاق الضيق الممتد شمالاً وجنوباً، بيتا الحاجة سعاد الجديدان.
اتضح جلياً لأهل الشارع، أن هنالك تجاوزات قد حدثت في توزيع القطع, وأن أفراداً من خارج الشارع مٌنحت لهم منازل، ربما بقوة النفوذ أو الواسطة, أو المال, أو كل ذلك مجتمعاً, والله أعلم.حيث لا يعقل كمثال أن تتقلص مساحة حوش بنات رزق الله إلى مجرد قطعة واحدة تخصص لهم، ويوزع بقية الحوش لغيرهم من خارج الشارع والحي، قس على ذلك حوش آل درير، وحوش شاميت البارياوية.
أول منزل على يسار الداخل امتلكه تاجر من حي بعيد, بناه بالطوب والحجر, ثم قام بتأجيره لمصلحة حكومية, المنزل الذي يليه، في مكان بيت شاميت، امتلكه أيضا تاجر بناه وعرضه للإيجار, يليه عبر الشارع الجديد, بيت خديجة الممرضة, ثم بيت العجوز الغامضة، الذي باعه ورثتها. من المدهش أن المرأة ظهر لها أقرباء وورثة لا يعلم أهل الشارع عنهم شيئاً، لكنهم أثبتوا بالوثائق والشهود صلتهم بها.
يمين الداخل منزل منفرد, اشتراه أيضا تاجر وأسكن فيه زوجته الثانية, ثم الشارع الجديد، عبره شرقاً، منزل هو في الأصل جزء من حوش آل درير، امتلكه شيخ, قيل أنه إمام مسجد أو شيء من هذا القبيل. يليه بيت تكدس فيه (آل درير) وهو كل ماتبقى لهم من حوشهم الكبير، ثم بيت أبو حوه، فالمنتزه.
صدقت وعود الحكومة هذه المرة, فبعد اكتمال المباني, جاء العمال، فحفروا بطول الشارع، ومددوا مواسير المياه إلى البيوت, ثم أتى آخرون نصبوا أعمدة الكهرباء, ومن ثم قامت البلدية بإغلاق بئر الحاجة سعاد, وفقد السقا (على الورّي) اليماني مصدر رزقه, فباع الحمير والبيت، وحمل متاعه وغادر. ليس المدينة فحسب, بل البلد بأكملها.

يتبع….

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..