صرخات شاعر الزنجية محمد الفيتوري بتمارة المغربية

سلام عليك يا راعي إفريقيا، سلام عليك يا من علمتنا أن الشاعر الحقيقي يظل شامخا حتى في أقصى لحظات الضعف، وغياب الذاكرة.

الرباط ـ من محمد العناز

وحدها كانت القصيدة الفيتورية تصنع ثورة ربيعية

لحظات استتنائية تفاعل معها الحضور الكثيف والنوعي الذي ملأ قاعة الندوات بفندق كلوب الياسمين بالهرهورة، وهم يرون جوهرة إفريقيا الشاعر السوداني محمد الفيتوري وهو يجدد حضوره رغم ما يعانيه من آلام ليقول للعالم إنه لا يزال على قيد الحياة رغم الداء والأعداء.

وقد ألهبت الجلسة التكريمية التي أدارها الناقد والمسرحي د. أنور المرتجي بإبداعية لا ترتكن أبداً إلى الكلمات المسكوكة. بل تجترح لغة تجعل الجمهور يندغم في حميمية خالصة مذكرا بمسارت هذا الرجل الذي كتب أكثر من ثماني وعشرين مجموعة شعرية.

إلا أن كلمات الاحتفاء التي قدمها ثلة من النقاد والأكاديميين والمبدعين جعلته يصرخ صرخات مدوية في القاعة التي دخلت في جلبات صوفية أيقظت الصمت الذي عم جدران القاعة التي زينت بلوحات التشكيلية المغربية فاطمة بنكيران، وانسابت مع دهشة الصوت في لحظة مفعمة بحوارية رفيعة للمشاعر والأحاسيس التي دفعت العجلات المتحركة إلى الصعود عاليا في سماوات غير آبهة بما تفرضه عادة هذه اللقاءات من حسابات ملمترية للكلمات.

إنه جنون الشاعر، وجنون اللحظة، وجنون الإبداع الذي لا نستطيع إدراكه إلا عندما نصير أسرى وممسوسين بلوثة الشعر. وسلام عليك يا راعي إفريقيا، سلام عليك يا من علمتنا أن الشاعر الحقيقي يظل شامخا حتى في أقصى لحظات الضعف، وغياب الذاكرة. خفق قلبك، وتدفقت كثبان خيوطك الساحرة، ودوّت مجدداً في قارة الشعر.

توالت الكلمات، وافتتح اللقاء بكلمة رفيق درب المحتفى به الصحافي السوداني طلحة جبريل الذي بعث برسائل الامتنان للذين جعلوا من هذا اللقاء ممكناً. شاكراً أعضاء اتحاد كتاب المغرب على مبادرتهم، وأريحتهم من أجل أن نلتقي هنا قرب البحر، بكل إيحاءاته مكاناً وزماناً معتبراً أن الاحتفاء بمحمد الفيتوري هو احتفاء بشاعر كبير، من شعراء هذه الأمة من الماء الى الماء. بل هو شاعر قارة، انتمى اليها ورسَخت في دواخله حكايات وصور، مواقف ومبادئ ? يضيف جبريل – إن السودانيين لا يقرؤون محمد الفيتوري ويتذوقونه فحسب، لكنهم يتغنوا بأشعاره. إنه شاعرهم الذي يحبونه. كتب عن قضايا حيوية ومهمة لحياة الإنسان المعاصر، مشاكله ومعاناته. كتب عن الإنسان الأسود وظروفه المأساوية، كتب عن القضية العربية وتفاعلاتها في مختلف الساحات.

حين كان الشعراء ينزفون منطوين على جراحاتهم الصغيرة، كان الفيتوري ? بحسب جبريل – يصيح شعراً “استيقظي يا إفريقيا” سخر منه كثيرون. لأنه كان يهتف “يا أفريقيا أنا زنجي، وكنت أتعمد ذلك لأنني كنت أنادي عمقاً نفسياً لا يمكن أن يدركوه”.

أما شهادة الناقد الأدبي د. نجيب العوفي فقد وسمها بـ “محمد الفيتوري الدرويش المتحول في الشعر والوطن” منطلقا من تداعي معزوفة لدرويش متجولا في الرحلة الشعرية، وعزفها الشهي على قيثارة الشعر. معتبرا أن الفيتوري آذن بربيع شعري جديد. إنه ينتمي إلى كورال الأسماء الشعرية (السياب، أمل دنقل، صلاح عبد الصبور، نازك الملائكة، خليل حاوي..). إنه صوت عربي دافئ طافح بأشواق وهموم إفريقيا المتماوج بين الماء والماء – بتعبير العوفي – أضاف لحنا إفريقيا إلى هذه المعزوفة آسيا وأميركا اللاتينية، وأدخله بـ “ضَرْبَةِ مْعَلَّمْ”. ليطلع الفيتوري شاعراً حداثيا ملتزما لا يأبه للدونكيشوتية التي كانت سائدة آنذاك، لأنه اكتفى بارتداء أوجاعه من الماء إلى الماء “كان يتنطس مهموم وشجون الوطن العربي، ويدهس بالبروق نداء الفيتوري البهي في الستينيات.

ليخلص في الأخير العوفي إلى أن الدرويش المتجول الذي جال في دروب الشعر، ينتهي إلى رؤيا رمادية. أما الناقد والمترجم د. بنعيسى بوحمالة المتخصص في الزنجية في الشعر العربي، فقد عبر عن قوة اللحظة الرمزية اتجاه قامة من قامات الشعر العربي المعاصر معتبراً أن الحديث عن الفيتوري هو حديث عن ذاته، معرجا على بداياته مع هذه النزعة الزنجية التي ارتبطت بذوقه في مرحلة من الماضي البعيد نسبياً، وغرامه بموسيقى أميركا السوداء، وتأثره بما كان يقرؤه من عيون الأدب الزنجي الأميركي، كرواية “كوخ العم توم” وبعض أشعار لانغستون هيوز وستيرلينغ براون..؛ ليكتشف، بعد ذلك، محمد الفيتوري، ضمن الأفق العام للشعرية العربية المعاصرة، والذي كانت لاسمه سطوته النقدية والإعلامية في تلك الأثناء ? يضيف بوحمالة” فلكأنني عثرت على التحقق الكتابي، في اللغة العربية، لجروح الذات السوداء المناظر لما أنجزه الشعراء السود في هذا المضمار، لا في إفريقيا ولا في الشتات، توسطا باللغات الأروبية، فحدث، وأنا أقرأ ما كتبه هؤلاء مقارنا بينهم وبين شاعر عربي، أن انجررت تلقائيا إلى قلب الثقافة السوداء، في تعبيراتها الجمالية المختلفة، إلى تاريخ إفريقيا وتقاليدها، أي إلى كل ما يمثل الأرضية الصلبة لفكرة، أو إيديولوجيا، الزنجية. مؤكدا في هذا السياق أن الزنجية مبدأ وتصوّر للعالم، وتمثل للهوية الجمعية، وموقف من الحضارة الغربية، مثلما تجلت مقدماتها الفكرية والنظرية في كتابات الفيلسوف آمو غينيا ? أفير (القرن 18)، أول فيلسوف إفريقي، مرورا بأقطاب آخرين كإدوارد ويلمت بلايدن وويليام دي بوا، وانتهاء إلى الثالوث الشعري الذّائع الصيت: السينغالي ليوبولد سيدار سنغور، المارتينيكي إيمي سيزير، والغوياني ليون غونتراس داماس.

لينتقل بعد ذلك للحديث عن شعرية الفيتوري التي فاجأته مغايرتها الجذرية، سواء في دواوينه الإفريقية التي دشّن بها مشواره الشعري، لزملائه فيما يخص الموضوع الشعري. هذه التجربة الفيتورية ستقوده إلى المدار الأوسع للشعر السوداني الحديث والمعاصر، بكافة أجياله، ثمّ إلى رحاب السرد والمسرح السودانيين، فتاريخ البلد وتقاليده، ليتعمّق أكثر في هذه المغايرة؛ ليخلص في الأخير إلى تقاطعات شتى على مستوى التعبير والرؤيا ممّا خوّل للّغة العربية الاندراج، وعن كفاءة، في المدوّنة اللغوية العالمية التي اقترنت بالزنجية.

في حين انطلقت مداخلة الشاعر والناقد صلاح بوسريف من أن الشاعر لحظة استثنائية في الوجود، عطب الشاعر هو عطب في صيرورة هذا الوجود، خلل في تكوينه وكينونته، نافيا أن يكون الأهم هو الإنصات لنبض الشعر والشاعر ولتشققات الروح في شعره – يضيف بوسريف – أنا أوجد في سياق شعري جر الشعر العربي إلى لحظة أخرى، وإلى أفق آخر، وليس هو أفق الفيتوري، شاعر عاش في مرحلة مفصلية في تاريخ الشعر المعاصر، ليس من الرواد، وليس بعيداً عنهم، شاعر خرج من الهامش ليعيش ويحيى في اللامكان، مؤكدا على أنه ليس من السهل أن تأتي من الهامش لتكون صوتا شعريا – وخصوصا في أوج التحولات (السياب -صلاح عبد الصبور- أمل دنقل – أدونيس..) الأعمدة التي ستتأسس عليها الشعرية العربية. مبرزا أهمية الفيتوري الذي اعتبره واحدا من الذين هذبوا اللغة العربية، وخرجوا بها من لغة حافظ وشوقي لتقول ذاتها، وليس أن تكون صوتا آخر؛ لأنه اختار أن يكتب حريته خارج نظام القصيدة التقليدية، والقصيدة القديمة. منبها في ذات الآن إلى تقصير النقاد في النفاذ إلى تجربته الصوفية التي تخلص فيها من الزوائد التي كان تلازمه. وينتهي بوسريف إلى أن الزنوجة في شعر الفيتوري امتيازٌ، وليس انتفاضة، وإضافة إلى الوجود، لأنه يعيش في كل الأمكنة؛ لكنه خارج اللامكان.

أما الأكاديمي السيميائي الناقد د. سعيد بنكراد، فقد اعترف أن الشعر هو أقرب الأشكال إلى روحه. معتبرا أن محمد الفيتوري من “الأصوات التي كنا ننصت إليها، ونحن نناضل من أجل بناء دولة الفقراء” منبها إلى مفارقة غريبة في ثقافتنا إلى وجود انتمائي جغرافي الكثير منا لا يحس أنه ينتمي إليه. فالفيتوري – حسب بنكراد – استنبت الوجدان الثقافي العربي في قارة إفريقيا، وأعادنا إليها.

أما الناقد د. محمد البكري فقد انطلق في مداخلته من قوة شاعرية الفيتوري التي كشفت عن تناقضات الإنسان الأسود، وكسرت معادلة الأبيض والأسود، معتبرا تجربته من أغنى التجارب في حركة الشعر الحداثي، وطاقته الهائلة التي تغني الروح، معرجا على بعض من أقوال النقاد الذين واكبوا قصيدة الفيتوري كغالي شكري، ومحيي الدين صبحي.

وتختتم الجلسة الاحتفائية بمداخلة الشاعر والمترجم إدريس الملياني الذي عبّر عن أن الألف تنحرف من شدة الولع الفيتوري واسما ورقته العاشقة بـ “زهرة تصنع ثورة ربيع” مفتتحا بقصيدة للمحتفى به “تحت الأمطار” أيها السائق رفقا بالخيول المتعبة… التي يحفظها في قلبه، وجعلها من مختاراته الشعرية التي كان يفتتح بها مواسمه الدراسية وعقول تلامذته وطلابه، وكان يكتبها على شكل قصيدة تفعيلة، وأيضا على شكل قصيدة عمودية. فالقصيدة – بحسب الملياني -كانت تخرج من الأمطار والأبصار واقعية جمالية تداولية ماركسية تارة، ونفسية تارة أخرى.

لم تكن الأعين تحتاج إلى سماع صوت الموت؛ ذلك أن السائق يرهق الخيول، ويزهق أرواحها. فالحياة الرهيبة التي كانت تعانيها. كانت صورة الخيول مأساوية بسبب ضربها بالسياط. فالسائق مفرد بصيغة منتهى الظلم. لينتهي إلى أن هذه القصيدة تحقق أهدافها التربوية للشعر المنفتح على محيطه الإفريقي، وأفقه الكوني “وحدها كانت القصيدة الفيتورية تصنع ثورة ربيعية”.

أما الجلسة الشعرية التي نشطها أحمد العاقد بروح تخفق بالوصال الحقيقي مع جوهر الشعر وإنسانيته المفرطة، ارتباطا بقصائد الشاعرة إكرام عبدي والشعراء: أحمد العمراوي، وعبدالحق ميفراني، ومحمد العناز، وعبدالسلام دخان، وإدريس الملياني. قصائد حملت وصفات للإفراط في الحب إخلاصا لنداء الحياة.

ميدل ايست أونلاين

تعليق واحد

  1. أيها العملاق حقاً أنت لإفريقيا ضياء
    فقدأرضعتك السمراء بأرضها أدباً
    وسقاك النيل من كرمه السخاء
    فكان شعرك قارة وكنت أهل للثناء
    أيها المجروحُ ألما نوائب الدهر ما لهامن بقاء
    علها بلية من كريم ثم شفاءٍ وعفو ورضاء
    والصبر ترياق لكلٍ وما أعظمه عند البلاء
    وإذا تاهت بينناالخطى فليكُن جـسرنا الدعاء
    مادام شِعرُك وصل بيننا ودمت رمزاً للوفاء

  2. اي نوعا من الحديث هذا يستطيع ان يوفي حقا للشاعر القضية ويعطية القدر المستحق له حقا تعجذ الكلمات والتعبير للحديث في رجل بحجم قارة افريقيا وكيف لا وهو الذي نطق الصمت الخرافه داخل دهاليذ غابات افريقيا في عهد كان ينظر لتلك الغابة وانسانة با الدونية المفرطة غنا لها تاوه من اعماق قلبه لها وقف في اكثر من محفل يجاهر ويعتذ بانتماءه لها شجع اجناسها بان ينادوا باعلاء صوتهم ويسمعوا العالم انا ذاك الذنجي الذي اقبع هنا في هذه الغابة انا افريقي لاكذب انا حر نفسي ولاعجب ويقول للعالم افريقيا كان لها نصيب من الظلم صرخ صرخة مدوية لشعوبها ان انهضوا هيا تحرروا فكوا الاغلال با يديكم اسفرت هذه الصرخات حركات تحرر وطنية للانفكاك من ربقة المستعمر بشقيه الاجنبي والوطني فكان شعره ملهمة للثورات تغني بشعرة اجيال واجيال هذه المفخرة السودانية لم نحسن التعامل معها بما يجب فشعرة تجاوز حدود الامكنة لتطوف القارة باكملها لتهتف اصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باقي لك الف سلامة وشفاء شاعرنا وملهم الذنجية قاطبة لله درك ايها الانسان لله درك ايها الشعر الباقي نسال الله لك بعاجل الشفاء فافريقيا تناديك

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..