مقالات وآراء

العدالة عاجزة يا سعادة رئيس القضاء و سعادة النائب العام..!

عثمان محمد حسن

* جميل جداً أن تمَّ تعيين رئيس القضاء و النائب العام.. و يكون الأجمل إذا بذلوا كل طاقتهم و معرفتهم القانونية لإعادة هيكلة النظام القضائي كله من الأساس كي تأخذ العدالة المراد منها مجتماعياً و سياسياً و اقتصادياً..

* فالعدالة منبوذة طوال سنوات النظام البائد.. و لا تزال عرجاء حتى الآن.. و إجراءات التقاضي تجربة يعاني خلالها المتقاضون الأمرين..
* مررت بتجربة مريرة مع تلك الإجراءات ما بين محكمة العمل و وزارة العدل و محكمة الاستئناف و المحكمة العليا.. تجربةً أنتجت مقالاً بعنوان (العدالة العاجزة.. و الحكومة خصم غير نزيه) في ديسمبر عام ٢٠١٤..

* تطرق المقال إلى العدالة في أمريكا حيث تأتيك العدالة بحقوقك كاملة حتى بيتك بينما أنت لا تدري أن لك حقاً.. فالعدالة متيقظة دائما (داخل) أمريكا..

* و حين عدتُ إلى السودان، بعد تسع سنوات و نيف من الحياة في كنف المؤسسية و العدالة في أمريكا، فوجئتُ بغياب العدالة عندما طرقت أبوابها لأول مرة.. إذ وجدتها خرجت لتخدم الحكام و الحكومة و الموالين لها.. و اصطدمتُ بمتاريس مهولة في طريق البحث عنها.. و حيثما توجهتُ شاهدتها، من بعيد، و هي تبكي عجزها في مواجهة ( سونامي) الظلم المتجبر و الفساد المترهل داخل السودان..

* بدأت القصة يوم تعاقدتُ مع وزارة الاستثمار تعاقداً ( خاصاً).. بمعنى أن عملي بالوزارة خارج نطاق (الخدمة المدنية) من الناحية القانونية.. و كان المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى السودان من كل بقاع الأرض.. يطاردهم السماسرة المتحلقون حول ستات الشاي.. و كانت الرِشَى تمشي، في البداية، على استحياء بين مبنى الوزارة و أشجار النيم و اللَبَخ أمام الوزارة حيث يتجمع السماسرة و (الجوكية).. و كان من يدير الفساد من بعيد هو وكيل الوزارة شخصياً، ذاك الوكيل الذي تم إيقافه قبل ذلك لأسباب تتعلق بتجاوزات كبيرة في إبرام عقد من العقود.. ثم أعيد إلى العمل بعد تدخلات سياسية عليا..

* و كان الوزير ( طيباً) و لا يعلم شيئاً عما يجري.. فكل المعاملات تتم بانتهازية لئيمة بعيدة عنه.. لكن مع مجيئ وزير جديد فهلوي شديد النهم للثراء، تشكلت ( عصابة) رباعية قوامها الوكيل و مدير مكتب الوزير.. و كبير كتبة مكتب الوزير.. و
صار الوزير الجديد نفسه رئيساً للعصابة غير عابئ بالهمس و اللمز المنتشرين بين العاملين..

* بدلاً عن سير الرشاوي داخل الوزارة على استحياء، كما كانت، أضحت ترقص عارية على إيقاعات دُّفِ ربِّ الوزارة.. بل و تتبختر في فجور تحت أشجار النيم و اللبخ.. ما دعاني لإرسال مقال من ثلاث حلقات عن الفساد و تأثير المضاعِف السلبي للفساد على الاستثمار (Negative multiplier effect on Investment) لصحيفة الانتباهة الورقية.. نشرت الصحيفة الحلقة الأولى يوم 4\4\2011 .. و عقب النشر، و فوراً، تسلمتُ خطاب إيقافي عن العمل في الوزارة، أي صباح 4\4\2011..

* و تم نشر الحلقة الثانية في الصحيفة.. أما الحلقة الثالثة فلم يتم نشرها في الجريدة لأسباب لا تخفى عليكم..

* تم فصلي من العمل.. و أنكروا وجود أي حقوق لي عليهم.. فكان لا بد لي من البحث عن تلك الحقوق عبر ( القانون) في رحلة محفوفة بالألم داخل السودان المُوَرَّط في متاهات فساد نظام ( الإنقاذ) المشئوم..

* لم أكن أعلم أن البحث عن ( الحق) يزيد تعاسة المرء إذا انبرى لمقاضاة الحكومة التي – على شموليتها- تتوخى كسر إنسانية الانسان السوداني بأي صورة تبعده عن تحديها.. و قد جيَّرت الحكومةُ القانونَ و إجراءات التقاضي لمصلحتها.. بل و صار الدستور – أبو القوانين- لعبة بيديها.. طالما ( سدنة) التشريعات ( عصبة) ضمن عصابتها.. و بيدها كل الأدوات الكفيلة بتحقيق مصالح النظام حتى و إن أدى إلى الإضرار بالمجتمع السوداني كله..

* و القاضي- مثل سائق قطار ماهر- لا يستطيع الخروج من الخط حتى و إن كان الخط تعيساً تعاسة تتجاوز المنطق و المعقول.. و ليس أمامه سوى المضي لإنفاذ القانون حيث حصِّنت السلطةُ التشريعيةُ السلطةَ التنفيذيةَ حصانةً شبه مطلقة، و ما على السلطة القضائية إلا الانصياع (دون مقاومة) للتعديات التي تُلحق بالدستور لوأد العدالة نصاً و روحاً..

* وجدتُني في معمعة غير متكافئة مع ( الدولة) السودانية.. بعد أن صارت (الحكومة) هي الدولة، يموت فيها المظلوم غُبناً و هو يبحث عن العدالة
السجينة داخل لوائح و إجراءات تبعدها عنه كلما اقترب منها.. و متاريس مهولة تحول دونه و حقه المسلوب قسراً..

* حين تقدمتُ إلى مكتب العمل لمقاضاة وزارة الاستثمار، وجدت المكتب كله نشاط و حيوية و أداء متميز.. و كانوا يسألونني ويرشدونني كي أكون على بينة من الأمر الذي كنت مقبلاً للدخول فيه.. فشعرتُ بالرضا التام.. و اعتقدت أن الحكومة خصم نزيه جداً..

* و للحقيقة، فإن المستشارين القانونيين بمكتب العمل يمثلون العدالة الناجزة خير تمثيل.. فبعد التأكد من سلامة موقفي، تولوا القيام بإعلان وزارة الإستثمار لحضور جلسة في تاريخ و ساعة معينين لمعرفة وجهة نظر الوزارة في موضوع الشكوى.. و أخذتُ الإعلان بنفسي إلى الوزارة، و تسلمه المعنيون.. لكن لم يأتِ مندوب الوزارة إلى مكتب العمل في اليوم و الزمن المحددين.. ما اضطر المكتب أن يعلن الوزارة مرة أخرى.. و لم يأتِ مندوب الوزارة كذلك..

* طلب مني مكتب العمل تقديم طلب (إذن مقاضاة) إلى وزارة العدل لأن اللوائح تنص على عدم مقاضاة أي وحدة حكومية دون أخذ الإذن من وزارة العدل..!

* القضاء مكبل بنصوص و لوائح و إجراءات طويلة رغم بساطة و وضوح بعض القضايا ذات الصلة بالوحدات الحكومية، كما هو الحال بالنسبة لقضيتي، حيث كان النزاع بيني و بين وزارة الإستثمار يحكمه العقد المبرم بيني و بين الوزارة بتوقيع المستشار و ختم وزارة العدل..

* لكنهم ظلوا يعَقِّدُون القضية بإجراءات تحتقر المنطق و العدالة.. و بتسويفات مملة
تغضب حتى القضاة أنفسهم.. و قد أظهر أحدهم من الضيق ما جعله يتجاوز المماطلات التي كانت تحدث من مستشارية وزارة الإستثمار و يصدر الحكم النهائي في تحدٍّ للنظام كله..

* و ما يثير الأوجاع في كثير من الحالات أن القاضي يعرف أن ثمة خللاً ما في الإجراءات لكنه لا يستطيع الخروج عن النص.. و محامي الإدعاء يعرف الخلل و يحاول إيجاد مخارج من بين سطور النص.. و مستشار الوزارة يعرف الخلل و يسعى لتدعيم عدم المنطق الموجود في النص.. و أنا أعرف أن كل أهل القانون يعرفون أن ثمة ( عوار) في الاجراءات جدير بالمعالجة بما يمنع التسويف و إطالة أمد التقاضي.. و تعطيل العدالة الناجزة.. و هل من تعطيل للعدالة أكبر من فرض أخذ ( إذن مقاضاة) الوحدات الحكومية
قبل رفع الدعوى في المحكمة طالما أن المستشارين القانونيين بمكتب العمل قد قاموا بفحص
الشكوى و تدقيقها و التأكد من سلامتها.. و طالما هنالك مستشار قانوني يمثل وزارة العدل في كل وحدة حكومية للتصدي للمهام القانونية ذات الصلة
بالوحدة المعنية..؟

* ثم لماذا يستغرق إصدار إذن المقاضاة فترة تتراوح ما بين ٣ – ٤ أشهر.. و ما جدوى وجود مستشارين قانونيين في الوحدات الحكومية إذا كانت وزارة العدل هي التي تتولى أمر مقاضاة تلك الوحدات..؟

* لا تنتهي معاناة المتقاضي عند الفصل في قضيته لصالحه بإصدار قرار بالحكم ضد الوحدة الحكومية، بل تبدأ مشكلة أخرى حيث ينص القانون على قيام القاضي بإخطار المحكمة العليا كي تبعث بإخطار إلى محكمة
العمل لتنفيذ الحكم.. شريطة (عدم تنفيذ الحكم إلا بعد مضي 3-4 أشهر، طالما أن المحكوم عليه هو وحدة حكومية..)

* لماذا تأجيل التنفيذ حتى مرور تلك المدة؟

* هذا، و في تجربتي، إمتدت مدة أخذ (إذن المقاضاة) حوالي خمسة أشهر و نيف، و ليس ما بين ٣ – ٤ أشهر كما هو المعتاد؛ بينما أخذ التصديق ب( إذن تنفيذ الحكم) حوالي الخمسة أشهر، أي نفس المدة تقريباً

* تسويف و مضيعة لزمن المتقاضي المظلوم.. تسويف متعمد لتعطيل تسريع إحقاق
الحقوق..

* إن العدالة في السودان عدالة عاجزة تماماً خاصة إذا تعلق الأمر بمقاضاة إحدى الوحدات الحكومية.. و هذا ما يدفع بعض موظفي الدولة إلى مماطلة طالبي الخدمات و التطاول عليهم في المكاتب الحكومية قائلين:-
” كان ما عجبك، أمشي إشتكي”! و هو متأكد من أن طالب الخدمة لن يشتكيه مخفةَ (جرجرة المحاكم)

* و الجرجرة في المحاكم تبدأ دائماً مع أول جلسة.. حيث يطلب مستشارالوحدة الحكومية من المحكمة أن تمنحه جلسة أخرى لدراسة ملف القضية، مع أن الملف قد تم ارساله إليه قبل حوالي أسبوعين من بدء الجلسة.. فيُمنح الاذن لجلسة
يُتفق على أن تكون بعد ثلاثة أسابيع.. و تمر الأسابيع لتبدأ الجلسة بتقديم الدفوع.. تذهب أنت و محاميك لحضور الجلسة و لا يأتي المستشار.. فيتم اعلانه
بالحضور لجلسة بعد أسابيع أخرى.. يأتي و يتم تأجيل آخر لجلسة أخرى بعد أسابيع.. و يأتي مستشار حديث عهد بالوزارة المعنية.. يطالب بتأجيل الجلسة ريثما يقوم بدراسة القضية.. و يتم تأجيل الجلسة لمدة اسبوعين أو ثلاثة..
فتحضر للجلسة فتكتشف أن القاضي قد ذهب في إجازته السنوية.. و أن القضية تم
تحويلها إلى قاضٍ آخر.. و دولاب القاضي الآخر ينوء بالقضايا خاصته و أخرى تتبع للقاضي الذي ذهب في إجازة.. و لا يملك القاضي البديل إلا أن يؤجل
القضية إلى حين عودة القاضي الأساسي.. و حين يعود القاضي الأساسي، يتم نقله إلى محكمة أخرى.. و يُعَيِّن مكانه قاضٍ جديد.. و القاضي الجديد يحتاج إلى دراسة القضايا التي ورثها عن سابقه.. !

* أحلف لكم بالله العظيم و كتابه الكريم، هذا حدث لي و أكثر.. و قد مرت أوراق قضيتي ضد وزارة الاستثمار على سبعة قضاة، و دافع عن وزارة
الاستثمار ستة من مستشاري الوازرة التابعين لوزارة العدل.. و مثلني محاميان.. يئس الأول من طول المماطلات فهجرها.. و كلفتُ محامية محله..

* و من شدة التوتر في انتظار أي جلسة من الجلسات، يتولد لديك إحساس بتخثرِ ما في الجو العام و تحجر في البيئة المحيطة بك.. فتتحرك إلى عريشة (ستات الشاي)، و روادها إما مظاليم الحكومة أو مظاليم شركات محاسيب المؤتمر الوطني.. و هناك محامون يتناقشون تحت
العريشة.. و أناس لا تعرف ماذا أتى بهم إلى العريشة.. و الكل
يحتسي ما يحتسي.. و يقرأ جريدة ما أو يدخن.. و فجأة تسمع صوت أحد المظاليم:- ” ديل ما بخافوا الله.. يا جماعة، سنة و زيادة و أنا في جنس الحالة دي؟!”.. كانت تلك الجملة كفيلة بمسح شيئٍ من الألم عنك كونها وضعت الظَلَمة في مواجهة مع الله!

* قالت لي إحدى مظلومات الحكومة أنها ( تعبت) من البهدلة التي لا نهاية لها.. و آن لها أن
تقبل تسوية قدمها لها مستشار الوحدة الحكومية بما يعادل ثلث استحقاقها (القانوني)..

* و مهندس سوداني يقاضي إحدى شركات البترول ذائعة الصيت.. كان يعمل مع الشركة
بعقد نصَّ على دفع راتبه بالجنيه السوداني ( مقيَّماً) بالدولار.. و تم
فصله بعد عام بينما كان لا يزال يعمل في الحقل.. و طُلب منه توقيع عقد عمل جديد أقل امتيازاً.. و أثناء إحدى الجلسات، ظل محامي الدفاع يستخدم
كل الأسلحة الخبيثة لإبادة تجهيزات دفاع المهندس و من ثم الاجهاز عليه، لم أفهم ماهية الأسلحة لكن القاضي اللمّاح فهمها و أبطل مفعولها بذكاء.. جعلني أكاد أصفق استحساناً لموقفه، لولا جلال القاعة..

* إن هناك قضاة يجبرون المتقاضين على احترام القضاء السوداني رغم كل شيئ..!

* فيا سعادة رئيس القضاء و يا سعادة النائب العام، الشعب يريد إعادة هيكلة النظام القضائي برمته دون أدني تأخير.. فاعملا على تحقيق مطالب الشعب..

* و نتمنى لكما التوفيق في ما أنتما مقبلان عليه من مهمة صعبة.. صعبة جداً..

عثمان محمد حسن

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..