عن دولة الجبابة: فِعل الِهر

عن دولة الجبابة: فِعل الِهر

(من أرشيف الدولة الضرائبية وعن أصل المسألة)

1-فعل الهر

أسعدتني التفاتة الاستاذ علي يسين لحملتي الانتخابية (لرئاسة الجمهورية) وهي في أصيلها. فقد كتب في الانتباهة (31 يناير 2010) عن خطتي لإنهاء دولة الجباية التي أثقلت على الناس جميعاً. وأخشى أنني ربما لم أوضح هذه الخطة بكفاية في حديث صحفي عابر حتى اختلط أمرها على علي يسن. فهو يصفها بحق بأنها ستدمر “تراث الدولة الجابية”. وهذه نيتي. ولكنه يعود في موضع لآخر ليقول بأن الخطة ترمي إلى إلغاء الجبايات الحالية واستنباط موارد مبتكرة تحل محلها. وهذا ما لم يرد على بالي. فالجباية مورد لا غنى عنه للدولة ولم نر بلداً استغنى عنها إلا بعض الجزر الماكرة التي يقوم اقتصادها على إيواء الأغنياء الهاربين من ضرائب وطنهم. وقد أغناني الناظر بابو نمر عن المزيد في هذا الأمر بقوله مرة يؤاخذ بعض نواب أحد مجالس نميري النيابية الذين رفضوا التصويت على ضريبة ما:”إنتو عاوزين الحكومة تفتح . . . واللاشنو”.

ما كنت أطمع في عمله متى صرت رئيساً للجمهورية أن أحطم تراث الدولة الضرائبية. وهي الدولة التي سماها دوقلاس جونسون في كتابه “حروب السودان الأهلية” ب”الدولة السودانيك sudanic ” وقال إنها مؤسسة سودانية سبقت الإنجليز. ومقومات هذه الدولة كما يلي:

1) يدها مطلقة في فرض الضرائب كيف شاءت لا معقب لها من برلمان أو صحافة. وتدججت بالقوانين الجائرة التي تحميها من المساءلة وباللعب على الذقون. فالذين تفاءلوا قبل أيام بتخفيض رسوم تسجيل الأراضي في القضائية بإعفائهم من المتأخرات وجدوا أن ما أعطت الدولة باليمين أخذته بالشمال. فقد زادت رسوم التسجيل في مصلحة الأراضي ورسوم تمرير الخرط. وجمعت دولة الجباية هذه الضرائب بالقوة القهرية. فكان الأتراك يربطون القط في سروال من عجز عن دفع الضريبة. وسماها الشيخ عبد المحمود نور الدائم ب “فعل الهر” في قصيدته التي عارض فيها مهدية محمد أحمد المهدي. ورأينا كيف نشأت عندنا نيابات للشركات المختلفة بل ومحاكم لأخذ مَدينها بالشدة والحزم. وأصبح معروفاً أن من حق موظف الضرائب الآن تشميع المحل الذي لم يسدد الضريبة. لا محكمة ولا يحزنون.

2) االإنفاق البذخي من الحصيلة الضريبية على طبقة حاكمة تامة الامتيازات. فمنذ عهد الفونج نمَّت هذه الطبقة ذوقاً شرهاً للكماليات. فقد انفتحت شهيتها للبهارات الهندية والمنسوجات الفاخرة والمكيفات الجديدة من بن وتنباك وتبغ. ويكفي عن الإنجليز ما رأيناه من عيشهم الخصيب في جزرهم المعزولة: الحي الإنجليزي. وحدّث عن محميات لوردات الإنقاذ ولا حرج. يكفي أن الصرف على إنارة الفلل الرئاسية في 2005 فاق ما تم تخصيصه لتنمية المرعي التي يعيش عليها 58% من السكان وهي بيت القطيع القومي.

3) بنبه جونسون إل خصيصة في الدولة الضرائبية لم تجد منا الاعتبار في ما سبق. فمن رأيه أن هذه الدولة مسؤولة عن تسوئة العلاقات بين المركز والهامش. فقال إنها ترهق أهل الشمال بالجباية حتى أنهم تركوا حقولهم وضربوا في الصعيد طلباً لرزق مختلف. ولذا قيل “السافل يلد والصعيد يربي”. ومن هؤلاء من توغل في الجنوب والنيل الأزرق وجبال النوبة واشتغلوا بتجارة الرقيق. وما ترتب على هذه النخاسة طبع علاقة الشمال بالهامش بما ظل يؤذي البلد حتى يومنا الراهن.

إنني أدعو إلى إنهاء تراث دولة الجبايات. أما الجبايات، متى أجازها برلمان حاق الاسم، فلا ضرر ولا ضرار.

2-ما ليك عليَّ سِبلة

كنت إذا قلت منذ أعوام:” يا خي إنت ما عندك عليّ سِبلة” فهم السامع أن المخاطب لا أمراً له عليك ولا نهي. ولا أعرف إن كانت العبارة ما تزال شائعة أو حتى مستخدمة. ولا أدري أيضاً إن كان حتى من يقولونها قد عرفوا معنى “سِبلة” الذي هو مدار العبارة. ولم تقع لي العبارة إلا بعد إلمامي بشيء من نظم الضرائب في الممالك السودانية القديمة مثل سلطنة الفونج.

قلت في كلمة يوم الإثنين الماضي (في الكلمة الأولى) أن شكوى اتحاد الغرف الصناعية من الجبايات المفروضة على منتوجات مصانعه مزعجة ومهينة. فعلى الصناعة رسوم محلية بلغت 15 رسماً: عليها رسوم ولائية بلغت سبعاَ. وعليها رسوم اتحادية بلغت ثلاثاً. وأعادني هذا الإسراف في الضريبة إلى ما قرأته عن رسوم دولة الفونج والفور.

فالشطط في المكوس أصل في الدولة السودانية الوطنية وتلك التي نشأت في ظل الاستعمار. فالدولة عندنا سلطانية الحكم فيها من أجل الحكم. وزادت دولة الأتراك والإنجليز الطين بلة بأن أصبح السلطان فينا أجنبياً خادماً لحاجيات من هم خارج حدودنا. فالدولة هي الكلمة الرديفة للطٌلبة أي الضريبة. فعن طريق هذه الضرائب تستأثر هذه الدولة بالفائض الاقتصادي لإشباع طرائقها في التنعم والراحة. فليس بغير دلالة أن تترافق مع شكوى الجمهرة من الجبايات في الأسابيع الماضية انكشاف أننا بتلك الضرائب نتكفل بوضع 4 سيارات تحت خدمة شاغلي المناصب الدستورية وهلمجرا وندفع لهم 20 مليوناً للإجازة السنوية مع التذاكر له وللإسرة. وما خفي أعظم. وكنت كل ما قرأت ما استورده الفونج والفور وغيرهم من مصر بالقوافل استغربت لغلبة بضائع الترفية التفاخرية بينها. وهي بضائع ندفع لها بتصدير الرقيق والعاج وريش النعام. ما تغير شيء.

نعود إلى “سبلة” التي بقيت فينا ذكرى من إسراف الجباية عند الفونج. وعثرت على المصطلح في وثائق الأرض والفونج التي نشرها المحقق المؤرق أستاذنا محمد إبراهيم أبو سليم في الستينات. ومعظم هذه الوثائق عن إقطاع سلاطين الفونج الديار للعلماء والوجهاء. ومن لوازم إنعام الملك لهم بهذه الأراضي أن يعفيهم من الضرائب المفروضة على عامة الناس. وتعترف وثائق الإقطاع هذه بثقل هذه الضرائب فتقول إن السلطان أعفى الوجيه أو العالم من “جميع الشرور والسُبل والمضار”. وقرأت في وثيقة منها أمثلة على هذا الإعفاء الذي طلب السلطان به أن يكف أهل دولته من منازعة المستفيد من جزيرة أقطعها له بقوله: “لا ينازعهم في صدقات هذه الجزيرة منازع ولا يتعرض لهم فيها متعرض سالمة مسلمة من جميع الشرور والسبل والمضار لا عليها (هذه الجزيرة) جسارة ولا خسارة ولا ضيافة ولا علوق ولا كليقة ولا عادة و لا قِله ولا جُل ولاشيء من السُبل العادية”. وأقطاع السلطان للوجيه متوراث في أجياله حتى قيام الساعة لا يتعرض لذريتهم متعرض وإلا عرض نفسه للهلاك “والحذر ثم الحذر من المخالفة والمخالف لا يلوم إلا نفسه”.

وأشرح هنا مقاصد هذه الجبابات التي وردت كما جاءت عند أبو سليم. فالضيافة معروفة وهي استضافة السلطان وكل من يأتي من عنده من الحاشية والعمال. والعلوق هي عليقة دواب الحاكم وأعوانه. والكليقة عبارة عن حزمة من القش تعطى لدواب الحاكم وأعوانه. أما العادة فهي الإعانة المالية تقدم للحاكم في المناسبات السعيدة كالختان والأفراح. أما القله فهي عيش يؤخذ من الناس بالبرمة والبرمة تسع ربعاً. وكانت هناك ضرائب أخرى لم ترد في هذه الوثيقة بالذات. منها النزول وهو الضيافة نفسها بإكرام الحاكم وأعوانه متى حل بين ظهرانيهم. والعانة هي الإعانة أي مساعدة الحاكم ومعاونته في الأعمال وتعرف بالخدمة ايضاً. (وبالمناسبة من واجب الإدارة الأهلية حسب وضع الإنجليز لها أن تتكفل براحة موظفي الدولة وعمالها متى جاءوا إلى دار القبيلة لغرضهم وأن تحمل الأهالي لبناء الاستراحات المؤقتة لهم). وهناك “السنسنة” أو الكسرة وهي إطعام الحاكم وأعوانه لدي غشيانهم الدار. أما “المُخلا أو المُخلة” (كيس من الشعر لحمل الأشياء) كناية عن الزاد أي ما يُطعم منه الحاكم وأهله. وترد أيضاً “الجباية” وهي العوائد التي تدفع عن الأرض. وترد كذلك “تورات” ومن معانيها ضريبة تدفع أول حرث الأرض للزراعة وقد تعني تسخير الناس لإشغال الحاكم أو التكفل بتسمين سعية الحاكم التي تودع بطرفهم. أوهي غرامة معينة يدفعها الرجل للحاكم امتثالاً وأدبة.

أما السبلة موضوعنا فهي الإعانة التي تقدم للحاكم عندما يقيم مأتماً. فتأمل.

إن ما أفسد قضية التغيير في بلدنا أن المعارضين انشغلوا بإزاحة الحاكم الديكتاتور (أو الديمقراطي حتى) وأسرفوا في أدب إزالته وطقوسه دون تعمق البنيات الاجتماعية والاقتصادية التي ظلت تفرخهم الواحد بعد الآخر. وهو أدب معارضاتي سطحي فوجئوا بفساده حين خرجت الجموع من قريب تشيع مستبداً ظنوا أنهم قد رموه في مزبلة التاريخ. فلدولة السِبلة رؤوس مثل الغول. تقطع واحداً منهم فينبت رأس في محله. ومن انشغل بالرأس دون بنية الجسد كله ضلَّ ضلالاَ بعيداً.
أنظروا دولة السبلة بأكثر مما تنظروا جابي السبلة تجعلوا لشعبكم مخرجا يا أولي الألباب.

عبد الله علي إبراهيم
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. إقتباس: “علي يسن. فهو يصفها بحق بأنها ستدمر “تراث الدولة الجابية”. وهذه نيتي.” عبد الله واصفاً تعليق على برنامجه الإنتخابي لرئاسة الجمهورية. لاحظ أنه أكد أنه بدأ حملته للترشح و ليس للمنافسة- حيث أنه لم يترشح أصلاً- بدا عبد الله حملته لل(ترشُّح) بأكبر حملة “جِـبــايــة” و ذلك حينما طلب من الحضور “التَــبَــرُّع” حتى يتمكن من ترشيح نفسه!! تأمل في مُرشح يبدأ بالجباية قبل أن يطرح نفسه للترشح!!

  2. إقتباس: “علي يسن. فهو يصفها بحق بأنها ستدمر “تراث الدولة الجابية”. وهذه نيتي.” عبد الله واصفاً تعليق على برنامجه الإنتخابي لرئاسة الجمهورية. لاحظ أنه أكد أنه بدأ حملته للترشح و ليس للمنافسة- حيث أنه لم يترشح أصلاً- بدا عبد الله حملته لل(ترشُّح) بأكبر حملة “جِـبــايــة” و ذلك حينما طلب من الحضور “التَــبَــرُّع” حتى يتمكن من ترشيح نفسه!! تأمل في مُرشح يبدأ بالجباية قبل أن يطرح نفسه للترشح!!

  3. نعم د عبد الله على إبراهيم الاستهانة عميقة بسؤال البديل. ونعم في ناس تسال سؤال البديل لنخلص الى ان ليس هناك ما هو افضل مما هو كائن.
    لكن الاحجام عن سؤال : ماهو البديل سينتهي بالناس للفراغ والفشل.
    بعد ان يتغير النظام. وتكون كارثة.

    ليت المعارضة الواثقة من سقوط النظام تأتمر مرارا حول البديل. والفرصة متاحة بوسائل التواصل الالكترونية. والاسئلة كثيرة متشعبة جدا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..