مقالات وآراء

حكاية تلفاز : الحلقة الأولى 

الياس الغائب

تقول الحكاية إنى حين قدمت إلى الدنمارك فى الثانى من يناير 1991م فى منحة دراسية من وكالة التنمية الدولية الدنماركية (دانيدا) ولحقت بى زوجتى بعد شهرٍ ونصف أى فى الأسبوع الأخير من فبراير ، فكرت فى إقتناء تلفاز يؤنس وحشتها فى أوقات غيابى الطويلة ، حيث كنت يومئذٍ أخرج يومياً من البيت من الساعة السادسة صباحاً إلى الخامسة مساءً ، عدا عطلة نهاية الأسبوع .

وقد نصحنى بعض الإخوة أن الأفضل لى أن أستأجر تلفازاً بدلاً عن شرائه وكان منطقهم فى ذلك أن فترة بقائى بالدنمارك ليست بالطويلة وعليه فلست فى حاجة إلى تبديد المال فى شىء لا أحتاجه لفترة طويلة وقد صادف منطقهم هوىً فى نفسى فاقنتنعت.

أصطحبت صديقاً دنماركياً إلى محل تجارى لبيع التلفزيونات واستئجارها. فوقع إختيارنا على تلفاز مستعمل تقول ديباجته التعريفية ، الماركة فليبس ، الشاشة أربعة وعشرون بوصة ، الصناعة هولندية. قال لنا صاحب المحل يمكن إستئجاره بمئتين كرونة دنماركية فى الشهر وحين حسبنا التكلفة لمدة سنة أى إثنى عشر شهراً وجدناها ألفين وأربعمائة كرونة وحين سألناه عن سعره فى حال شرائه قال سبعمائة كرونة ليس غير. فرأيت أن أشتريه ، نستمتع به فترة مكوثنا بالبلد ونتركه وراءنا حين نتركها ، وهذا الذى لم يحدث . لم نتركه حين غادرنا الدنمارك ، ألحّت زوجتى أن يرافقها إلى السودان وأكثرت فى الإلحاح ، ولأنّها سوف تسافر وحيدة برفقة إبنتنا الصغيرة التى لم تبلغ شهرها الرابع ، رضخت لرغبتها وأستجبت لإلحاحها. وغادر التلفاز مدينته كوبنهاجن  وطارنا  إلى الخرطوم ومنها إلى كسلا . وحين سافرنا إلى الفاشر سافر معنا.
في الفاشر أبو زكريا حط رحالنا وقد كان ذلك في العام  1992م. هذه  المدينة قيل أن أصل اسمها يعود إلى الباحة أو القصر السلطانى وقيل أيضاً أنه يعود لثور أو للوادى الذى قامت على جانبيه و لكنها إشتهرت باسم (الفاشر أبوزكريا). وزكريا هذا هو والد السلطان على دينار آخر سلاطين دارفور .

والفاشر منطقة ذات تباين طبوغرافى من صحراء إلى شبه صحراء ، تتخللها تلال منخفضة وكثبان رملية تسمى بالقيزان (جمع قوز) وتلال ذات صخور وأودية وخيران تمتلئ في الخريف بمياه الأمطار. وهناك بحيرة الفاشر ووادى قولو الذى يشكل أهم مصادر المياه. وتمتاز المدينة بالطبيعة الخلابة والمناظر الجميلة وبأهلها المتدينين الطيبين الذين يشكلون نسيجاً إجتماعياً متماسكًا ومترابطاً.
كان الوالى يومئذٍ الطيب محمد خير(سيخة) وكان الأقليم كله ولاية واحدة (ولاية دارفور الكبرى) لم يقسم ، لأن تقسيمه إلى أربع ولايات ثم إلى خمس  جاء لاحقاً. جئنا بعد حملة داؤود يحى بولاد ومقتله بعد أن تعرض لتعذيب مروّع . طريقة قتله كان فيها كثير من  التشفي والإنتقام تكتم عليها نظام الإنقاذ أما الشاهد الأكبر الذى يعرف كل تفاصيلها هوالطيب سيخة. جاء الطيب سيخة إلى دارفور وقيل أنه جئ به لحسم الصراع والتمرد وبسط الأمن في الولاية ويبدو أنه جاء بصلاحيات واسعة وبدعم كبير من المركز فكان يصول ويجول ويلوح بقبضتة الحديدية حتى ليتراءى للكل أنه الكل . ما أريكم إلّا ما أرى وما أهديكم إلّا سبيل الرشاد . كان فرعون زمانه ، الآمر الناهى.
الصراع القبلي في دارفور قديم قدم القبيلة نفسها الا أن هناك عوامل أدت لتعقيد الصراع وتفاقم الأوضاع ، منها الكوارث الطبيعية المتمثلة في موجات الجفاف والتصحر ولا سيما في شمال الإقليم وغربه وشرقه كما أن الحدود المفتوحة للإقليم بالإضافة إلى مساحته الشاسعة ووجود قبائل عديدة لها إمتدادات داخل دول إفريقية أخرى ، جعلت منه منطقة صراع مستمر . فهناك الصراع التشادى التشادى والتشادى الليبى حول شريط أوزو الحدودى والصراعات الداخلية لأفريقيا الوسطى ، فراجت في الإقليم تجارة السلاح وانتشر النهب المسلح بالإضافة إلى العوامل السياسية التي وظفت كل هذه المتناقضات المختلفة ، وفشل كل الحكومات المتعاقبة مع غياب التنمية المتوازية.
لم يكن الطيب سيخة مهاباً من قبل إنسان دارفور ولم يكن يعره الجميع إنتباهاً وإنما كبار رجالات الدولة والإداريون هم من كانوا يهابونه وهم من كانوا يحرصون كل الحرص على الظهور أمام ناظريه يوم الجمعة من كل أسبوع ويتزاحمون أمام الجامع الكبير لملاقاته. كان يفاجئنا بالزيارات المفاجئة ، كان يزور الجامعة دون إخطار مسبق للإدارة ولكنه لم يكن في الحقيقة  يزور الإدارة أو الأساتذة وإنما كان يلتقى طلبة وطالبات الحركة الإسلامية ويتجول معهم  في الحرم الجامعى محاطاً بهم . وكان يقف من خلالهم على أحوال الجامعة لأنه يثق في عيون هؤلاء أكثر من ثقته في الإدارة . كما أن سياسة الإنقاذ حصرت مسؤولية الجامعة في المسائل والشؤون الأكاديمية فقط وتركت مسائل السكن والإعاشة والترحيل لصندوق دعم الطلاب. قامت الجامعة على مبانى تتبع لشركة (ريكى الإيطالية)  التي كانت تعمل في إنشاء الطرق الداخلية بالولاية. والتي تقع غرب مطار الفاشر وجنوب مدرسة الفاشر الثانوية.
أذكر أن الجامعة كانت في عطلة و قد غادرها الجميع ولم يبق فيها إلّا الوكيل من الإدارة وشخصى من الأساتذة. جاءنا خبر مفاده أن الوالى يطلبنا لأمر هام. وحين سألت و كيل الجامعة عن كنه الطلب أجابنى بأن أمين الحكومة إتصل يسأل عن مدير الجامعه الذى لم يكن موجودًا ثم عن نائب المدير الذى لم يكن موجوداً هو الآخر أيضاً ثم سأل عن الأساتذة فأجابه بوجود أستاذ واحد هو شخصى فقال إن الوالى يريد أن يجتمع بنا حالاً . ركبت معه إلى أمانة الحكومة حيث وجدنا مع الوالى أمين عام الولاية ومسؤول صندوق دعم الطلاب كأنهم كانوا في اجتماع مصغر في إنتظار وصولنا. طلب منا الوالى أن نعلن فتح الجامعة وبدأ الدراسة. إندهشنا للطلب وتبادلنا النظرات أنا والوكيل في استغراب ملحوظ ولكننا أوضحنا للوالى بأننا لسنا بالجهة المسؤولة عن اتخاذ مثل هذا القرار ؛ لأنه من صميم عمل مجلس العمداء ، ومجلس العمداء لم ينعقد ولا ندرى متى يجتمع . أطرق هنيهة ثم قال إذا كان الأمر كذلك فأنا أطلب منكما أن تخطرا المدير بطلبي هذا ، ثم إلتفت إلى مسؤول صندوق دعم الطلاب متسائلاً هل أنت جاهز لإستقبال الطلاب؟ أجاب مسؤول الصندوق بأن سكن الأولاد  جاهز ولكن سكن البنات لا يكفى لأن عددهن في إزدياد ، ثم أضاف ولكننا لو استطعنا أن نتحصل على بيت من بيوت محطة البحوث الزراعية تكون المشكلة إتحلت . إلتفت الوالى إلى أمين الحكومة قائلاً
” أمشى جيب لينا المسؤول من البحوث الزراعية حالاً”. وحين جئ به وهو شاب في مقتبل العمر دار بينه وبين الوالى الحديث التالى:
” ناديناك لأنو عندنا نقص في سكن الطالبات وعايزين بيت من بيوتكم يكون سكن ليهن”.
“لاكين ما عندنا بيت فاضى يا سيادة الوالى”. يبدو أن هنالك تنسيق تآمرى بين مسؤول الصندوق والوالى ، فقال الوالى مواصلاً أسئلته.
“مين الساكن في البيت رقم كذا؟” و ذكر رقم البيت المعنى.
“ساكنه فلان” و ذكر اسمه.
“وين فلان هذا؟”
“في كورس” .
“يعنى غير موجود الآن في البيت، و البيت فاضى”.
“البيت ما فاضى فيهو عفشه يا سيادة الوالي” .
“المهم البيت ما مسكون ونحن محتاجين للبيت لسكن الطالبات” .
“أنا ما المدير يا سيادة الوالى ، أنا ماسك بالإنابة كما أن المحطة ما تابعة للإقليم ، المحطة تابعة لوزارة الزراعة في الخرطوم” .
“أنا والى دارفور و مسؤول عن كل شيء هنا ، ما دام إنتو في دارفور أنا مسؤول منكم”.
ووجه حديثه منفعلاً إلى أمين الولاية ..
“أمين الولاية ، أمشى سوق معاك مجندات ووكيل نيابة وأمشوا البحوث الزراعية أكسروا باب البيت ، رحلوا العفش ، خزنوه في أي حتة وجهزوا البيت للطالبات ، وخلى مجندات يحرسن البيت وبالمرة يحرسن الطالبات لمن يسكنن” .
وشربنا البارد وانفض سامرنا ، وخرجنا وكأن على رؤوسنا الطير . هكذا الطيب سيخة منذ أن كان وزيراً لرئاسة مجلس الوزراء وحديث عهدٍ بالوزارة ، ما دخل وزارة أو مصلحة إلّا وأحدث فيها ربكة وضجة وخرابا فكيف لمسؤول كبير يحترم نفسه ويقدر مسؤوليته يتصرف هكذا؟ ولا أحد يستطيع أن يحتج أو يعترض على قراراته  إلّا ووصم بأحكام جاهزة وحاضرة بأنه طابور خامس أو معارض أو مخرب للإقتصاد الوطنى أو ضد توجهات الأمة المجاهدة وخيارها الحضارى. ما تركه فينا هذا الاجتماع القصير من أثر نفسى عميق لا يمكن أن ينسى.

[email protected]

تعليق واحد

  1. ذكرتنى حكاية التلميذ الذى كلما طلبوا منه أن يتحدث عن شيئ كان لابد أن يذكر ( الجمل سفينة الصحراء ويتحمل العطش ووو )

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..