مقالات سياسية

الثورة والإصلاح الديني

د. قاسم نسيم حماد حربة

هناك ظاهرتان تبرزان وأنت تتفرس داخل خيمة الثورة السودانية وكلاهما تخرج من مشكاة واحدة، أولاهما تصدر بعض الأئمة والمساجد للثورة وكأنما الحال يريد أن يقول بسهمك أرميك، والظاهرة الثانية تناظر الأولى وهي مشهد إنزال الإمام من على منبره وهو يخطب، وقد تكررت كثيراً منذ انطلاق ثورة ديسمبر، والمصلون  لا يكتفون بإنزال الإمام بل غالباً ما يُشيع خارج المسجد بالهتافات واللعنات، وربما لحق بعضهم الأذى، الشيء الذي أرعب كثيراً من الأئمة، وجعلهم يتقرُّون المزاج العام للشعب ويلتزمونه، ولا يفارقونه قيد أنملة فيفارقون منابرهم ووقارهم، فقد صار الشعب رقيباً عليهم، موجهاً لهم، بعد أن كانوا هم الموجهين، يطلقون فتاويهم وتوجيهاتهم له من علٍ والمصلون مطرقو الرؤوس كأنَّ عليها الطير، يخشون لعنات الأئمة، ولعنات المصلين على من تصدى للإمام أو قاطعه.
الآن إذن يمكن للمرء أن يجزم بحدوث ثورة إصلاح ديني، ترفض أن تُجيَّر المساجد للسلطان، مترافقة مع الثورة السياسية والاجتماعية في السودان،اجتالت أقدس موقع في الحياة الاجتماعية، الموقع الديني المقدس، الذي كان له الكلمة والقول الفصل في كل شأن من قبل، من شأن الرجل وزوجه حتى الإمامة الكبرى، فلا ينجز أمر إلا وفق توجيهه. هاتان الظاهرتان تجزمان بدخولنا دورة جديد من الإصلاح الديني، وتمنحان الدين صك عبور للتموضع في السودان الجديد ولا تنفيه، بإمارة أن رموزاً من أئمته وطائفة من مرتادي المساجد عظيمة شاركت في صناعة الثورة، وبحكم قدرة الدين على تجديد نفسه، وإنما مصدر الدهشة أن الإنقاذ كانت قد اتخدت من الدين منسأة وترساً وسيفاً، تتكئ  وتتقي وتحارب به، بل قام مشروعها كله عليه، فإذا منه كأن أحدى مقاتلها وأمضى معاولها .
لكن لماذا لم يكن المصلون قادرين على الجهر بآرائهم أصلاً، بل هل كانوا يجرؤون على الإرتئاء أصلاً ولو كان رأياً خالج نفس أحدهم في مواجهة رأي الإمام، مع تسليمنا أن أصول الإسلام تحض على التفكر والتدبر.لقد وطَّد الفقهاء منذ انقضاء الحكم الراشد وقيام الدولة الأموية وطدوا لطاعة الخليفة، فوضعوا تفاسيراً لآي الذكر التي يظهر أنها تتحدث عن الحاكم توجب طاعته، ووضعوا الأحاديث على الرسول الكريم توجب طاعة الإمام وقرنوا بين طاعته وطاعة الله، وشنعوا على الخروج عليه، إلا بالكفر البواح الذي لا يُستطاع تحصيله وفق شروطهم، فنال الخلفاء قدسية، ونال الفقهاء والأئمة قربى من الحاكم، فأصبحنا نسمع (تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع) فلما كان الأئمة دائماً هم المسبحون بحمد الحكام وهم أصواتهم لدى العامة كان لا بد من أن يحصَّنوا كذلك وتحصن منابرهم بالتنكير على من يقاطعهم أو يتصدى لهم ومن مس الحصى فقد لغى. رغم أن القتال الشرعي هو قتال الطاغية الدكتاتور، قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ) النساء (76) فالطاغوت هو الطاغية والدكتاتور إذن بمفهوم المخالفة فإن القتال في سبيل الله هو القتال من أجل الحرية، يرافق هذا المعنى الأثر عن ربعي بن عامر التميمي لرستم قائد الفرس (جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد) لكن أُبطلت معاني الحرية هذه وأعملت معانٍ أخرى لا ملابسة لها مع الدين وجعلت هي الدين نفسه لخدمة الطغيان.
ظلت الأمة الإسلامية على هذا طوال القرون الماضية، وكانت الشعوب تنظر إلى رجال الدين لتشق لها طريق الثورات -لذلك رُبط التغيير كثيرا مع مفهوم المهدي المنتظر، وهو مفهوم موجود في معظم الأديان إن لم يكن كافتها -لكن طال انتظارهم، فقنعوا منهم فحدث الانقلاب الفكري حينما صرخ المصلون في وجه أئمة يذكِّرون بوجوب طاعة الإمام وتجاوب معهم كل المصلين الشيء الذي أحدث صدعاً في الفكر القديم لا زال يتسع، نعم هناك من الأئمة من كان متقدماً في فكره وصدع بالثورة من على منبره لكنهم قلة.
الأن لن يقبل الناس فتوىً إلى بعد أن يقلبوها في عقولهم ولن يكونوا قطيعاً في يد الفقهاء والدعاة ولن يكون مقبولاً عندهم مفاهيم طاعة السلطان القديمة، ولا الآراء والأقوال التي لا تتسق مع الزمن  كسجود الشمس تحت عرش الرحمن وجواز نكاح البهيمة وجواز زواج الرجل من ابنته من السفاح، ونكاح الوداع ،الأن سيكون للمثقف دور في إنتاج الفقه الحديث وللمختص دور.
هذه المرحلة تشبه إلى حد ما المرحلة التي مرت بها أوربا حينما رفضت التفسيرات التوراتية لمظاهر الحياة ورفضا صكوك الغفران وبدأ الإصلاح الديني (مارتن لوثر) في القرن السادس عشر ولعله غائب على كثيرين أن التفسيرات التوراتية سيطرت على كثير من تفاسيرنا كذلك، ولعل أهم مصادرها وأولها  كعب الأحبار وهو كعب بن ماتع الحميري أدرك الجاهلية وأسلم في أيام أبي بكر وكان عالما قدم من اليمن المدينة وجالس الصحابة وكان يحدثهم عن الاسرائليات فينظر إلى الإشارة في القرآن فيوسعها ويفصلها ويزيد عليها مما جاء في العهد القديم، فقيد الفهم وحوره، وكذلك المواقف السياسية أثرت على فقهنا أيضاً تأثيرا كبيرا فكان كل فريق يحشد له علماء يؤسسون فقهياً لموقفه
والمُقلِّب في كتب التراث ربما صدم عندما يقف على آراء متقدمة قدمها المعتزلة وغيرهم من أصحاب العقل في وقت مبكر لكنهم أقصوا بعد وصول المتوكل العباسي إلى الحكم، فبدأ التراجع لكن لا تخلو فترة من الفترات من وجود مصلحين، وقد ظهرت في العصر الحديث مدارس إصلاحية تقدم قراءة عصرية للدين وتحرره منذ ظهور الإمام محمد عبده وما زالت تضطرد ولعل أهم روادها المعاصرين المهندس محمد شحرور الذي جدد في الأدوات فانتجت لنا مفاهيم حداثية تتسق والعصر ومفاهيمه

د. قاسم نسيم حماد حربة
[email protected]

‫2 تعليقات

  1. المهندس محمد شحرور؟ يا رجل ارجع إلى كلام العلماء في هذا الرجل الضلالي وتفسيراته الغريبة للقرآن الكريم بعقله القاصر بدون استخدام النقل، وعندها ستعرف انه قد جانبك الصواب في ثنائك عليه.

  2. التعليق هذا للأخت سامية :
    بالله عليك هل قرأتي كلام الدكتور محمد شحرور كله. ام انك فقط قرأتي ما قاله عنه علماء النقل..؟
    كوني واضحة و صريحة مع نفسك و شجاعة و اقرأي كلام الرجل نفسه، لا الكلام الذي قيل عنه. استخدمي عقلك انت و تتكاسلي و تدعي غيرك يفكر لك.
    اتدرين ان الله تعالى اخبر عن حسرة و ندم اهل النار و هم يقولون : و قالوا لو كنا نسمع او نعقل ما كنا في اصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير

    كونك لا تسمعي كلام الرجل و لا تعقليه، و تعتمدي فقط علي رأي غيرك فيه، فهذا ذنب يوردك الهلاك. فالله خلق لك العقل و ميزك عن الحيوان الغير مكلف لكي تستخدميه، لا ان تركنيه و تعتمدي علي كلام النقل الذي لا بينة لكي فيه الا الظن… و ان الظن لا يغني عن الحق شيئاً

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..