مقالات سياسية

بين نارين (قصة قصيرة جدا)

د. حامد فضل الله

رن جرس التلفون، وجاء صوتها الناعم، مع وضوح مخارج الكلمات العربية، ممزوجة باللهجة الدينكاوية:

ــ استقبلنا توا حالة نزيف متواصل.

نظرت الى الساعة وكان الوقت العاشرة ليلاً. غادرت مباشرة مقر اقامتي ــ مشيا على الأقدام إذ  لا يستغرق وصولي إلى المستشفى سوى عشرة دقائق ــ الذي خصص لي منذ التحاقي متطوعاً ومعاراً من وزارة الصحة للسلاح الطبي بمدينة جوبا، للعمل في المستشفى الحكومي برتبة يوزباشي (نقيب).

سبقني إتايا كبير الممرضين، بفتح غرفة العمليات، وكان إتايا مشهورا جدا وسط (الجلابة)، فحقنة البنسلين كانت دائما في جيبه صباحاً ومساءً، فالكونغوليات كن بالمئات في جوبا! رفعنا المريض ووضعناه على طاولة العمليات. كان شاحبا وقد غامت عيناه. غرزت إبرة في الوريد وثبتها، لتقطير السائل، الذي اضفت اليه مضاد حيوي سريع المفعول. وغرزت إبرة التيتانوس(الكزاز) في العضلة. كان ينزف بشدة، لم يكن الجرح عميقا، ولكنه يكاد يغطي اسفل الساق اليمين.  تمكنت من ايقاف النزيف بسهولة بعد إخراج الشظايا، وواضح ان الجرح لم يتجاوز بضع ساعات، لذلك قمت بخياطة الجرح ما عدا فتحة صغيرة.

كنت مندهشا لغرفه العمليات الأنيقة والمجهزة بالكامل، وتوفر الأدوية وحتى العنابر والأغطية النظيفة وانضباط المساعدين الطبيين والممرضات، في بلد يخوض حربا، مقارنة بمستشفى أم درمان، في عاصمة تنعم بالسلام. 

عدت في اليوم التالي مبكراً الى العنبر لمعاينة المريض، قبل التوجه الى العيادة الخارجية، التي تستغرق نصف النهار. وجدته جالسا على سريره، وقفت الى جانبه، وعاد البريق الى عينيه، وكان يردد كلمات لا استوعبها، ولكنه كان يضغط على يدي بشدة. قالت الممرضة، لقد نام نوماً عميقاً استغرق كل الليل، وتناول الاِفطار والشاي بنفسه. نزعت إبرة الوريد، وقد عادة درجة حرارة جسمه الى طبيعتها. نبهت الممرضة بضرورة الحرص، على تناول المريض السوائل بكمية كبيرة، وحبوب البنسلين بانتظام.

وجدت امام باب العنبر ضابطا من جهاز الاستخبارات العسكرية بملابس مدنية، سألني عن حال المريض، فاستغربت. قال ان المريض، الذي اتابعه الآن، حسب معلوماتهم، بأنه ضابط في حركة الأنانيا، فلا بد من استجوابه على الفور، فالمعارك لا تزال تدور منذ ثلاثة أيام حول أطراف المدينة، وسوف تحضر سيارة عسكرية لأخذه لمقر القيادة. قلت له، لا يصح أخذ المريض عنوة، وهو لا يزال يتلقى العلاج وداخل مستشفى مدني، وهذا لا يتفق مع مسؤوليتي أيضاً. لم يقتنع، ويردد أهمية الموضوع. قلت له سوف أعمل على إخراج المريض، بأسرع فرصة ممكنة وعندما يتخطى بوابة المستشفى، يمكن للجيش أن يتصرف كما يشاء. وافق على مضض، وانصرف.

عدت في اليوم التالي مبكراً ايضا، لتفقد المريض، واندهشت، عندما وجدت السرير خاليا من المريض. كانت الممرضة تقف بجانبي، ممسكة بملف المريض، نظرت اليها مستفسراً. قالت:

ــ طلب المريض أثناء الليل الذهاب الى الحمام، ومن ذلك الحين لم يحضر وبحثنا عنه في كل العنابر. قلت:

ــ كيف يسمح له بالذهاب لوحده في الظلام والحمامات تقع في الركن المقابل للعنابر، دون مرافق.

ردَّت:

ــ كان يتحرك داخل العنبر بسهولة وبدون سند.

حملقت في وجهها، وقطبت جبيني وحاصرتها بعيني.

ــ فغضت الطرف وطأطأت رأسها، وبدأت ترتعش وتهتز يدها الممسكة بملف المريض. رفعت رأسها، ولمع التوسل في عينيها، مع دمعة لم تنحدر بعد.

ــ حركت رأسي بإيماءة مع بسمة خفيفة، فردتها بامتنان.

لم انتبه، عندما كنت أجادل ضابط الاستخبارات،  بأنها كانت تقف خلف باب العنبر الموارب.

تم استدعائي في اليوم التالي الى الرئاسة.

أديت التحية العسكرية امام القائد “الشريف” الفارع الطول والمهيب، فهو قائد أكبر حامية عسكرية في الجنوب( الحامية الاستوائية) ويخوض أطول حرب في تاريخ القارة.

أشار عليًّ بالجلوس، وبدأ يتصفح الملف الموضوع على مكتبه الضخم، في عجلة، وكأنه يسترجع بعض النقاط. 

ــ بدأ حديثه بحزم، مستعرضاً وأمراً ومحذراً، وظللت صامتاً ومتلقياً، فهنا لا مجال للجدال. وأختتم توجيهاته بتهكم مغلف بلهجة ودية:

ــ حتى التحية العسكرية، لا تؤديها بطريقة صحيحة، ولا مفر لنا الآن، من التعاون مع الضباط المدنيين.

وأمر لي بفنجان قهوة، وفلت من العقاب.

د. حامد فضل الله
[email protected]
برلين، 27 مايو 2020

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..