مقالات سياسية

عبارة “صنع في السودان” طواها النسيان وجار عليها الزمان الحلقة (2)

أمير شاهين

فى المرة السابقة تحدثنا عن الجدل  الكثيف الذى اثير فى مواقع التواصل الاجتماعى عندما قام بعض الشوام الذين يعملون فى السودان فى انتاج و تصنيع بعض الصنات الغذائية  بكتابة ” صنع فى السودان  و بأيدى ( ذكر اسم جنسيتهم العربية الشامية) ”  مما تسبب فى  غضب و استنكار  ودهشة عدد كبير من رواد منصات التواصل الاجتماعى , اذ انها ترسل رسالة الى الجمهور المستهدف بشراء هذه المنتجات بانها و بالرغم من انتاجها فى السودان و لكن التصنيع  لم يكن بايدى السودانيين (الذين لايجيدون صناعة مثل هذه الاشياء)   ! , وبالطبع لا احد يستطيع ان  يجادل فى مدى الاساءة وحتى ولو كانت غير مقصودة التى لحقت بمهارة و كفاءة العامل السودانى  فهذه العبارة تعتبر شاذة و غير مالوفة اذ انه لايوجد لها مثيل فى كل الدنيا  ولم يتم استخدامها من قبل , فمثلا  لاتوجد عبارة مثل ” صنعت فى بلغاريا بأيدى فرنسية”  او “صنعت فى الهند بأيدى يابانية ”  ولكن من المألوف ان تجد عبارة مثل ” صنعت فى البرازيل بترخيص من شركة كذا العالمية ”   وشتان ما بين العبارتين !! ولكن  اذا تحدثنا بصراحة اليس  هنالك تدهور مريع فى الصناعة السودانية  بل و تلاشيها تماما ؟  فالصناعة السودانية ( الخفيفة)  والتى تحدثنا عنها وذكرنا انها قد بلغت اشدها فى السبعينيات من القرن الماضى  وضربنا مثالا بالنشاط المحموم الذى كان فى المنطقة الصناعية فى مدينة بحرى وكان متوقعا ان تواصل التطور وتقوم تلك المصانع بتوسعة انتاجها لتقوم بالتصدير الى دول الجوار  و  “لكن” فيبدو اننا فى السودان قد كتب علينا ان نكون متفوقين فى البداية و نسبق الاخرين ولكننا نقف فى منتصف الطريق ثم نبدأ بالتدحرج  السريع المدهش الى الخلف  , والصناعة السودانية  واحدة فقط من العديد من الامثلة  لهذه الظاهرة  !!  ومما حز فى نفسى اكثر من تلك العبارة التى ذكرناها فى اول المقال هو وجود بعض منتجات الحليب المستوردة من بلاد عربية  معروضة فى ارفف بعض البقالات و المتاجر , تخيل معى ان يستورد السودان وهو سابع دولة فى العالم  من حيث عددالثروة الحيوانية التى يمتلكها   حسب احصائيات منظمة الفاو احدى منظمات الامم المتحدة  المتخصصة فى الزراعة و الغذاء والتى من اهم اهدافها هو  تجنب المجاعات فى العالم التاتجة من نقص الاغذية وعلى حسب تلك الاحصاءات فان السودان  يمتلك حوالى  41,917,000 راس من الثروة الحيوانية  مما يجعل السودان متفوقا حتى على استراليا  التى تاتى فى المركز العاشر وهى المشهورة بالانتاج الحيوانى الذى يقوم عليه اقتصادها , والبلد الذى   يستورد السودان منه هذه المنتجات  لا يملك واحد من مليون ما يمتلكه السودان من ثروة حيوانية و مراعى طبيعية واسعة و غنية ,   يحرص  هذا البلد وهذا طبعا من حقه  ان يكتب اسمه وباحرف  بارزة و مرئية للجميع  على هذه العبوات  , وبخصوص الالبان  المستوردة هذه فقد اعادت الى ذكرى ايام طفولتى فى منزل جدى بالختمية فى بحرى , حيث كانت جدتى عليها الرحمة تقوم بتربية الاغنام فى حظيرة داخل البيت من اجل توفير الالبان  لسكان البيت الكبير الذى يشتمل عن الاسرة الكبيرة التى تجد فيها  الى جانب الام و الاب و الاخوان تجد فيها الجدة و الخال و العمة و ابناؤهم و الضيوف  الذين  يحضرون الى الخرطوم من الاقاليم لشتى الاسباب ,فقد كانت تلك الاغنام تقوم بتوفير الحليب الطازج لجميع ساكنى البيت الكبير والجيران فى كثير من الاحيان   , وقد  كنت مغرما  بشرب حليب الاغنام واجد فيه لذة ما بعدها لذة وكانت جدتى تكافئنى بمنح المزيد منه بسبب اننى كنت اشترك معها فى رعاية هذه الاغنام بجلب البرسيم لها من البائعين فى ميدان عقرب الذى لايبعد عنا كثيرا كما كنت مكلف ايضا بالعمل على ارجاع الاغنام الى المنزل  قبيل المغرب اذ انهم كانوا يطلقونهم نهارا فى الحلة للرعى وبعدها تطورت الامور الى الحصول على اللبن من ” سيد اللبن” الذى كان يضرب به المثل فى الحضور الى المنازل مبكرا ولا ينافسه فى الاستيقاظ مبكرا سوى الديوك و طيور ود ابرق وبعدها دخل السودانيون سكان المدن فى عصر شراء االالبان  من البقالات سواء ان كانت سائلة او فى شكل لبن بودرة .
وبالعودة الى الدمار و التدهور الذى اصاب الصناعة فى السودان نجد ان هنالك العديد من الاسباب الخارجية و الداخلية  التى ادت الى هذا الوضع , وفى تحقيق اجرته صحيفة الصيحة نشر فى 17 /7 /2019 نجده توصف المنطقة الصناعية فى بحرى بتحولها الى مدينة ” اشباح” بسبب توقف  عدد  كبير من المصانع عن العمل وتحولت مبانيها إلى مخازن حسب شاهد عيان، وشوارعها شبه خالية تماماً من المارة، وأصبحت مرتعاً للكلاب الضالة والحيوانات وأوكاراً للمجرمين والمتشردين. وحال مصانع المنطقة الصناعية ببحرى ماهو الا مجرد مثال لحال كل الصناعة في السودان حيث ان أغلب المصانع العاملة في البلاد تعمل بأقل من طاقتها الكاملة، حيث بلغ معدل نمو إنتاج القطاع الصناعي، وفقاً لإحصائيات العام 2017م نسبة 2.5% فقط، ويمكن القول إن إسهام قطاع الصناعة في اقتصاد البلاد ما نسبته 2.6% فقط، حيث يساهم قطاع الزراعة بنسبه 39.6%، أما قطاع الخدمات فتكون له الحصة الأكبر، ويساهم بنسبة 57.8% رغم امتلاك البلاد  موارد هائلة، إلا أنها تعد من الدول ذات الاقتصاد المتدهور بسبب ضعف الموارد المالية ويرى الكثير من العارفين و المتابعين بان الوضع الصناعي في البلاد في أسوأ حالاته، مقراً بوجود العديد من المشاكل والمعوقات التي قعدت بالقطاع،  وأدت إلى توقف عدد من المصانع عن العمل نهائياً ويلقون باللوم على نظام الكيزان السابق بسبب انتهاجه لسياسات تسببت فى ما وصلت اليه الصناعات من تدهور بسبب سحب الامتيازات الاستثمارية منه حيث اصبح الان لا  يتميز  بأية ميزة تشجيعية للاستمرار  وانه اصبح طاردا لا جاذبا  ومتوقع توقف تلك المصانع التى لم تتوقف بعد، بالاضافة الى مشاكل انقطاع الكهرباء وعدم توفر المواد الخام الأولية وشح السيولة وحركة البيع والشراء بالإضافة إلى مشاكل النقد الأجنبي، كما ان العقوبات الامريكية كان لها تاثير  سلبى كبير اذ ان معظم مدخلات الانتاج يتم استرادها من بلدان لها التزامات مع امريكا فى تنفيذ العقوبات المفروضة على السودان، وقد قام  الخبير الاقتصادى حسن جبريل  بتحليل المشاكل التى تواجه قطاع الصناعة فى السودان  عبر “الصيحة”  فاشار الى  إلى هجرة الاستثمارات الوطنية إلى الخارج، بسبب ان المناخ الاستثماري طارداً وذلك لعدم مواكبته التطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي انتظمت البلاد خلال الفترة الأخيرة وأصبحت هناك رسوم حكومية متعددة على الإنتاج وأخرى محلية كالنفايات والعوائد وغيرها، إضافة إلى ارتفاع نسبة الضرائب على الأرباح والرسوم الجمركية على الواردات، وعدم تشجيع الصادرات المحلية والتي مثلت الضربة القاضية في رفع سعر الدولار الجمركي الى 18% في العام 2016م ثم إلى 15% في العام 2018م، بجانب عدم قدرة السلع المحلية للمنافسة الخارجية بسبب ارتفاع تكلفتها وارتفاع الترحيل إلى ميناء الصادر، كل هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى عدم المنافسة فضلاً عن ارتفاع تكلفة الكهرباء وعدم كفايتها بسبب القطوعات المتكررة مقراً بوجود مشكلة نسبية في مدخلات الإنتاج التي أصبحت مرتفعة جداً بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازي، وعدم مقدرة الدولة على توفير النقد الأجنبي لمقابلة احتياجات البلاد من السلع المستوردة والتي أثرت على الإنتاج والإنتاجية وأدت إلى إضعاف قدرتها التنافسية الخارجية، وضعف الصادرات وموارد النقد الأجنبي، وفاقم المشكلة المقاطعة الأميركية والحصار الاقتصادي والسياسي، مما قعد بالاقتصاد، وازدادت المشاكل، وأصبح الاعتماد على السلع المتوفرة في الأسواق وخلقت فجوة بين العرض والطلب، وارتفاع الأسعار ونسبة التضخم في البلاد، مما زاد من معاناة المواطنين بسبب ارتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج وعدم توفرها كالكهرباء والوقود والفيرنس، الأمر الذي أدى إلى تدني الإنتاج في كل القطاعات الصناعية على وجه العموم والزراعية على وجه الخصوص، وبالتالي انخفاض إيرادات الدولة بصفة خاصة، وسبب عجزاً في الموازنة العامة للأسر.
وهكذا نرى ان وضع قطاع الصناعة اليوم مرشح الى الاتجاه نحو الاسوأ , ومن اجل انقاذ الوضع و الانطلاق من جديد  فهنالك الكثير الذى يجب عمله , واعتقد بان هنالك فرصة طيبة لحكومة الثورة لمد يدها لانتشال هذا القطاع من خلال العمل على ازالة المشاكل و العوائق التى تقف فى طريق انعاش القطاع والعمل على جذب رئوس الاموال و المستثمرين و ولاشئ مستحيل تحت وقد يبدو ان هذا الامر من الامر التى يصعب تحقيقها بسبب كمية الدار و الخراب  وبالرغم من معرفتنا بمدى صعوبة المهمة الا اننا نعرف انه لامستحيل تحت الشمس  طالما تسلح الناس بقوة الارادة والعزيمة  ووضوح الرؤية ونحن من جانبنا لن نياس   وسوف نظل فى انتظار ذلك اليوم  عندما نجد ان الاسواق ممتلئة الى اخرها بالمنتجات ذات الجودة العالية ومن جميع الانواع و الاصناف وهى تزهو بعبارة ” صنع فى السودان”  والله المستعان .
امير شاهين
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..