ود باره
محمد المرتضى حامد
بريدك من زمان لسه..
الجميل عبدالرحمن عبدالله (ودباره) مطرب إذا اصطفاك الزمان وشهدت له حفلا كردفانيا صرفا ستعرف أن في هذه الدنيا ما يستحق ، وحين نذكر (كردفان) فنحن نعني مساحة في جغرافيا القلب تتمثل فيها كافة قبائل وأعراق السودانيين ، بلد كأنه من روايات جورجي أمادو التي يفوح منها عبق العشق والقرنفل والخلاسية غابرييلا التي اقتبست مقاهي الكوكب من لونها الكاكاو بالحليب والفرابتشينو ، إلا أن كردفان تخطتها بالدعاش و (الليموني) و (اللالاية).
كما هو معلوم من العشق بالضرورة ، ريدتك لا علاقة لها بالمريود ، فالحب ليس عقدا بين طرفين بل التزام بينك وبينك ، وزي ما قال حسب الدايم يمكن نتلاقى ويمكن لا ، فأهل الريدة لا ينتظرون شهادة من أحد لأنهم يحملون أفئدة مطمورة في الوَلَه والكًلَف وممهورة بخاتم معهد الغرام ، تلقاهم حايمين يضوع منهم الصندل واللافندر مع بعض اللواعج والآهات لزوم الإحراق من فئة (أتوهج في بدني). ود باره لم يكن استثناءا حين قدَّم ، ومحمد حامد آدم ، طلبا إلى ضابط السجن ليتزود بنظره ويرجع ينسجن..
منذ يفاعتي ، أكرمني المولى بالتنقل في ربوع السودان بصحبة الوالد، أمد الله في عمره ، ورفيقة دربه في التربية والتعليم ، لها الفردوس ، فعشت سنينا زاهيات في كردفان وغيرها ، ولا أغالي إن قلت أنها كانت من أجمل سنوات العمر الذي لم يتبق منه الكثير بعدما بدّد جُله المشعوذون.
كردفان جميعها كانت تمثل هيئة عامة للفنون والريدة والثقافة وأشياء أخرى يعز حصرها ووصفها. زُرها وستجد تفسيرا لنوستالجيا كثير من أبنائها الذين شرُفت بمعرفتهم ، إخوة تسكنهم ديارهم حلا وترحالا ، وكنصح يعقوب لأبنائه ، يدخلونك من عدة أبواب أولها باب البشاشة ، وهم حين يسافرون يصطحبون جوازاتهم وينسون قلوبهم هناك لتحرس الأودية والغمام والذكريات ، لا تفارقهم ربوعهم غض النظر عن أعراقهم ومعتقداتهم. شركاء في النار والماء والكلأ والمروءة ، أكرمونا في بيوتهم ولم نلحظ فوارق بينهم لكأنهم من عناهم شاعر الرسول (ص) حسان بقوله:
الخالطون فقيرهم بغنيِّهم .. المُنعِمونَ على الضَعيفِ المُرمِلِ.
لذا خاب سعي طلاب السلطة والثروة في الإيقاع بينهم.
No way.
عندما يحكوا عن بقاعهم يشحتفوا رويحتك ، فصديقي عبدالوهاب عيسى عندما يتحدث عن الأبيض تتغير نبرة صوته وتقاسيمه. لكأنه يرتل في خشوع ما تيسر من سورة الجَوَى أو يطالع سِفر التكوين. لا أشك أنه يتوضأ قبل أن يبتدر حكاويه عنها ، وعندما يُحلِّق بك أستاذنا عبدالمنعم خليفه خوجلي وصديقه خالد منصور حمد لازم (الكونكشن) يكون الأبيض و(طقَّت) ومطارات صديقهما ودالمكي السمح. يناولا (المايك) للبقاري شاعرنا فضيلي جماع ود المجلد الحسناء ، لينشد (جيناكي زي وِزِّين هجر الرِهيد يوم جَفّ). لا يتركون لك خيارا سوى الدعاء أن يمنحك المولى عمرا ثانيا تختص به كردفان ثم تطلب بونَص عُمر قبل تسليم الأمانة..
جوازاتهم بلون الخريف مميزه بشعار غزلانها والتبلدي ، كُتبت على بطاقاتهم الشخصية:
تاريخ الميلاد : يوم شفت قدريشنه.
المهنة : زولن سرَب سَربه.
الحالة الإجتماعية : بريد زولي.
بالله مش الريده تكفي وحدها ك CV في زمن الجفاء الموحش هذا؟! .
عمنا السمح (صلاح) أحد التربويين الأماجد وجار وصديق ورفيق للوالد ، حكى لي عن قصة زواجه بأنه وأبي وبعض الرفاق سافروا من أم در إلى الأبيض لحضور زواج صديقهم الراحل إبراهيم ، فرحين ومؤازرين وجميعهم من الأمدرمانيين الأقحاح. هناك افتتن صلاح بشقيقة العروس وحلَف إلا يخطبوها ليهو.. حَرَن عديييل كدا ، أولاد ودنوباوي ، كجُل أولاد قلِبا، لا يعرفون الوسطية ، يا غِرِق يا جيت حازما.. سحرنهم حِسان (دار الِلبيّض). أسراب حلاوة القرطاس الفي الخشيم تنماص ، وكان له ما أراد. سألت أبي عن تفاصيل ما جرى فأبدع في وصف المناسبتين ، وظني أنه لو لم يكن سبقهما بالأمدرمانية إلى القفص الذهبي كان سجلوا هاتريك.
(ود بارا) ياخ ،
لا حول..
شهدت له حفلا بحي الطويشه في مدينة النهود. أيوا النهود المدهشة ، ألا يكفيها الإسم سمواً؟ (ود بارا) كأنه كان على موعد وتنسيق مع الأرصاد والسحاب ، فقد أهدتنا السماء يومها غيثا نهاريا غسل النهود وعطّرها وضواحيها حتى ارتوى (حيدوب) ثم ناول الكأس إلى الرمال فتشرَّبت غيثا يَعِدُها بإنبات بهيج. الجو صِفا ومافيش عِدا فأصبحت السعادة مؤكدة ، والماشاف غزلان ذلك الحفل نسأل المولى أن يجبر كسره ويعوِّضه عن مصيبته. إنه سميع مجيب.
الدرامز وجيتارات الكهربا والواوا تصل السما والسِماك ، والمايكرفونات والنسائم في غزل ، وحِسان الحي والجوار حضور بقيادة ست الفريق الضامر قواما. توارت معهن الكهارب خجلا ، كهارب شنو ورتاين شنو كمان مع الجبين وضاح والكل بين (ناطق صامت وبين صامت صاح)! وطبعا انتو عارفين (ودبارا) ورمياتو. الرميه زي الرميه ، لا تشبه إلا الرمية. يستحيل تستمع لرمياته وانت واقف على حيلك ، إلا إذا كنت من الذين لا يفرقون بين القصيدة وكشف الأراضي. الزول دا لامن يصدح بوجهه الطيب الصبوح:
في عيوني الشوق حارِقن
والدموع دايره تغرِقن
والِدِن قال مايَمُرقِن
خايف النظرات تلحقِن
وخايف العين تعوِّقن
مِتلي كم زول مات بالشجن
وقبلي ود الزومه انسجن
يا خي انا اسلاكي اتعوجّن
ولا اعصابي اتبنّجن
تحية لناس الأناسيزيا…
ينهمر الشجن ، جِدَي الريل أبوكزيمه ، تعال نتمشى في الغيمه .. ثم يُتبِعها ب(جاني بريدو طاير يحمل لي بشاير) والتي يجب أن يستمع إليها مجلس إدارة DHL والأرامكس الما عرفوا الحصل في دار حَمَر..
(بلوم الغرب) دا بصراحة كدا لامن يغني (رويحة الهاوي يا مجافي) ، يهدهدك و يدغدغك بإيقاع هادئ كموسيقى البلوز ، حتى تصَعَّد إلى السماء ، يليها هبوط مفاجئ لمعاودة الصعود مرة أخرى. إنها الجهجهة يا عِكرمة، رولركوستر تشوف منو (ودبنده) وروحك ذاتا، ثم ينعطف نحو مجموعة الحنين إياها ، بحِن لرقصة المردوم وبحِن لرمية المردوم ، بحِن للحلوة البمرقوها والنقارة البدقوها، ويلتفت في فرح نحو العناصر المشعة والعود بيساره كريشة دافنشي..
بحِن لرمية نص الليل.
بريد عينيك يشيلوني قليبي يدودي ما يرجع.
بتعرفوا القلب لامن يدَودِو؟
اللهم نسألك الثبات..
(الدَودَوه) دي جاراها الشاعر الأندلسي سانتياغو دفع الله بقولِه :
دودو بي اللوري ، دودو بي أريتو كان طار بي .. وهو بالطبع ود عم لوري عبدالقادر سالم الذي دلّاهو في الوِدَي كما ورد في مقدمة إبن خلدون..
(ودبارا) وشعراء كمحمد مريخة والكاظم كانوا عنوانا للجمال. كاظم (عيني عليك بارده) و (اللالايه) ولعله من قدّم إبراهيم موسي أبّا وصديق عباس للناس ، لكن (طِبيق العسل) تبقى إلياذة قائمه بذاتها :
ﻣﺎ ﺑﺸﻴﺸﻚ ﺑﻴﻨﺎ إﺗﺮﻓّﻖ
ﺳﻤﺎﺣﺎ ﻟﻠﻘﻠﻴﺐ ﺷَﻔّﻖ
ولا ياما تحني
قليبي اليوم مِستَني
وراك الريد شاغلني
بدورك تسألي عني.
آي يا ياي .. آي يا يا ..
والله الغنيه دي نَحِبوها حب!..
في (مهرجان الكواكب) هذا تلقى الظباء ناعسات عيونن طربا حتى تظنهن بلغن مرحلة ال rapid eye movement ، ومع نفحات الدعاش ، تجتاحك هزة ارتدادية تسافر بك إلى جنوب غرب الخَدَر شمال شرق الفردوس ، تترنح نحو دارك وانت سمح جوه وبره. يتكيّف منك الطريق والصريف وحتى العسس.
يا زمان ، هل من عوده هل؟ .
يوما ما قلنا لن نفترق إلا بالموت ، تأخر الموت وافترقنا.
درويش
عليك وعلى ودباراا وطقت الكبرى الف مليون نور وتحية ..فى مسرح طقت الفخيم سمعت ود بارا وهو يصدح بيا بلوم شيل السلام…..امشى بارا وديك ام روابة.. والنهود الاسر شبابه,,فى الابيض غرد حبابا ..يا حليل عروس الرمال…. كانت ليلة داخلية ابوسن الترفيهية بالمدرسة طلب منا الاستاذ عبد الرازق اخفاء مفاجاة ود بارا عن الحضور كانت ليلة مفعمة بالجديد والابداع والابتكار حاول فيها صديقنا العزيز بوكسر والمهندس كهران… والاقتصادى ود البشير والدكتور محمد البشير واخرون لا تسعفنى الذاكرة الخربة على تذكرهم..حاولوا التفوق على داخلية دوليب لااتى سبقتنا…واعدوا لوحة جمالية غطت السودان بكل اصقاعه وتنوعه..قدمت فواصل للمردوم والفرنقبية والجرارى والدلوكة والكرنق…من بعد ذلك جاء بوكسر بصوته الجهورى يقدم لنا ود بارا وضج المسرح واهتز ثم انبعث الصوت الرخيم يشدو برميته المعهودة..تمالينا كلنا رقصا وطربا مع ايقاعات ود بارا على رمال مسرح طقت.. لم يقتصر الحضور على اسرة المدرسة بل شمل جمهورا حضر من الدونكى والداجو والبوباية والجلابه وغيرها للاستمتاع بالليلة الساهرة…تغشاك رحمة المولى ياود بارا قد كنت نجما سامقا فى سماء الاغنية الكردفانية .. وبهذه المناسبة لا ينقطع السؤال عن الفنان صلاح محمد الحسن صاحب اغنية عيون البنفسج ووالتى ينتهى كوبليها الاول بعبارة…اصلو الحياة لحظات تعدى بكتيرها وقليلها..