مقالات سياسية

ذكريات تاجر في بربر

ذكريات تاجر في بربر
Reminiscences of a Berber Merchant
فيلب براون برودبونت Philip. B. Broadbent
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لمعظم ما ورد في مقال نشر عام 1940م بالعدد الثالث والعشرين من مجلة “السودان في رسائل ومدونات” عن ذكريات تاجر ببربر سجلها الإداري البريطاني فيلب براون برودبونت.
عمل برودبونت إداريا في بربر بين عامي 1925 و1928م عند بداية حياته العملية بالسودان. وتنقل بعد ذلك في مدن الدلنج وكوستي والخرطوم (حيث عمل مساعدا للسكرتير الإداري). ثم ختم حياته العملية مديرا لمديرية كسلا بين عامي 1950 و1952م، وتقاعد بعد ذلك عن العمل بالسودان. وللرجل رسائل ووثائق مصورة كثيرة عن فترة عمله بالسودان، محفوظة الآن في أرشيف السودان بجامعة درم البريطانية.

المترجم
******* ****** ************

مر غردون باشا على بربر لأول مرة في عام 1874م (الموافق لعام 1293هـ). وكان والدي محمود الضوي في ذلك الوقت هو رئيس مجلس (أعيان) المدينة. وبهه الصفة كان من مرافقي نائب مدير المديرية في استقبال غردون، إذ أن المدير كان يقوم يومها بجولة تفقدية على مناطق بعيدة في مديريته.
وطلب غردون من نائب المدير توفير مركب ليسافر بها للخرطوم، فسارع والدي بالتبرع بمركب كبيرة بها سطح (deck)، وزودها بالمؤن اللازمة، ورفض تماما استلام أي مبلغ مالي نظير ما قدمه. شكره غردون على تلك الهدية وقام بتسجيل اسمه كاملا في كراسة صغيرة كان يحملها.
وكان مصطفى بيه مراد هو مدير مديرية بربر في ذلك الوقت. ولما عاد غردون من بحر الغزال، أرسل إشارة لمدير بربر بأنه يرغب في زيارة مدينته، وذكره بضرورة تحضير استقبال رسمي له يشمل إطلاق 12 قذيفة مدفع تحية له. قمنا بجلب المدافع أمام النهر، وحضرنا كل ما يلزم لإقامة احتفال ضخم ترحيبا بمقدم غردون. وانتصب الجند في صفوف منتظمة كحرس شرف ليقوم غردون بتفقده. غير أن ريحا شديدة في ذلك الصباح هبت فتأخر وصول باخرة غردون واضطرت للرسو في المكايلاب. وظل الجميع في انتظاره حتى انتصف النهار، وأذن لصلاة الظهر. ولما لم يأت غردون صرف المدير طابور الشرف، وذهبنا جميعا لأداء صلاة الظهر. وبينما نحن نصلي أتت باخرة غردون فلم يجد أحدا من الجند أو الأهالي في انتظاره على شاطئ النهر كما كان يتوقع. غضب غردون غضبا شديدا ومضى من فوره إلى بيت المدير ليستجوبه عن عدم استقباله له عند الشاطئ. أجابه المدير بأنه انتظر طويلا مع طابور الشرف والأهالي، غير أنه لما حان وقت الصلاة، ولم تأت الباخرة، أمر الجميع بالتفرق والذهاب للصلاة. رد عليه غردون بالقول: “حسنا فعلت. لم أكن أريدك أن تفوَّت الصلاة”. ونزل قول غردون على المدير المصري بردا وسلاما وتنفس الصعداء.
وطلب غردون من المدير تجهيز خمسة وعشرين جملا لتحمله في ذات المساء إلى كورسكو. ومن تلك المحطة توجه إلى القاهرة، والتي تم فيها تعيينه حاكما عاما على السودان. وأرسل غردون من القاهرة برقية أمر فيها بترقية مصطفى بيه مراد إلى رتبة “لواء” وأن يشغل وظيفة “وكيل الحاكم العام” في فترة غيابه عن السودان. وقبل مصطفى بيه بالتكليف باعتباره عفوا عن عدم انتظاره لغردون على الشاطئ.
وعاد غردون في نهاية 1877م لبربر مرة أخرى وأحضر معه هذه المرة باخرة صغيرة. وقابله الناس بترحاب وحفاوة بالغتين. وأبدى غردون اهتماما كبيرا بتجار المدينة، وخص والدي بعطف شديد وحفاوة زائدة لأنه كان يتذكر العون الذي قدمه له في زيارته السابقة. وتوجه بعد ذلك للخرطوم، ومنها لكسلا وسواكن، ثم آب من سواكن لبربر مرة أخرى. وفي طريق عودته عبر الصحراء صادَفَ غردون بعض التجار ومعهم خمسمائة من الرقيق الذين كانوا ينوون تصديرهم لجدة. ولما شاهدوا غردون أصابهم الذعر ففروا من أمامه. غير أنه لف قطعة بيضاء حول عصاه ولوح لهم بها، يأمرهم بالتوقف عن الهرب وألا يخافوا. ولما وقفوا أمامهم سألهم:
“من أين أتيتم؟”
“من كردفان”.
“ألم يركم مدير كردفان وأنت تحملون معكم كل هؤلاء الرقيق؟”
“لا”.
“وعن أي طريق وصلتم للنهر؟”
“أتينا لجبل كرري بالقرب من أم درمان”

“وهل رآكم مدير الخرطوم؟”
“لا. أتينا عبر الصحراء للداخلة (هي القرية التي قامت عليها مدينة أتبرا. المترجم)”.
“ألم يركم مدير بربر؟”
“لا. كنا نسير بالليل في الصحراء”.
قال لهم غردون: “حسنا. إذا كان ثلاثة من المديرين لم يروكم وأنت تحملون معكم هذا العدد من الرقيق، فالعقيد غردون لم يركم أيضا… تفضلوا”. مضى التجار بقافلتهم وهم في غاية الفرح بعد أن كان الخوف قد ملأ قلوبهم.
ولما بلغ غردون الداخلة بدأ بنصب جهاز “التلغراف” الذي كان يحمله معه دوما في صندوق، وبعث ببرقيات أمر فيها بخصم مرتب شهر كامل من مرتبات مديري كردفان والخرطوم وبربر، وخصم مرتب شهر كذلك من العقيد غردون.
وبقي غردون بعد ذلك زمنا طويلا بالخرطوم، وقام بتكريم عدد كبير من السودانيين ومنحهم الأوسمة والنياشين. وكان من هؤلاء والدي (محمد الضوي) والذي منحه غردون رتبة “أميرلاي”. وفي نهاية عام 1296هـ أو بداية 1297هـ (الموافق لعام 1879م)، سافر غردون لمصر عن طريق كورسكو وقابل رؤوف باشا، والذي أتى بعده حكمدارا للسودان (حكم لفترة قصيرة بين ديسمبر 1882م وفبراير 1883م. المترجم). وفي عام 1298هـ قام المهدي بثورته، وبعثت له الحكومة في أغسطس من عام 1881م أبو السعود بيه على ظهر باخرة بها نحو مئتين من الجنود ليحضروه للخرطوم. غير أن المهدي قتل معظم هؤلاء الجنود وهم يخضون في أوحال شاطئ النهر. ولما رأى أبو السعود ما حاق بجنوده قطع الحبال التي تربط باخرته الراسية على النهر طلبا للنجاة وعاد للخرطوم مسرعا. وتوالت الأحداث من بعد ذلك حتى سيطر المهدي على مديرية كردفان.
وفي عام 1300هـ (الموافق لعام 1884م) أحضر غردون من مصر حسين باشا خليفة ليحكم مديريتي بربر ودنقلا، وعين الزبير باشا قائدا للجيش، ووضع محمود بيه حسين خليفة على رأس جيش قوامه الفا من الرجال. ووصل غردون نفسه للخرطوم في يوم 11 فبراير 1884م، حيث قابله حسين باشا ووالدي في قنينيطة (التي تقع شمال بربر، وغير اسمها في ستينيات القرن الماضي إلى “مبيريكة”. المترجم). قال غردون: “أريدكم أن تحضروا لي شرطيا ذكيا ليحمل رسالة مني للمهدي”. أحضر له حسين باشا سودانيا اسمه عبد الله ود كروب، فسلمه غردون الرسالة وحقيبة ملابس. وأعطيته أنا من مالي مائتي ريال لينفق منها على نفسه في أثناء الرحلة، وعوضني غردون لاحقا ذلك المبلغ. وجاء في تلك الرسالة، بعد التحايا التقليدية، أن غردون يرغب في أن يأخذ المهدي جنوب السودان، وأن يبقى سلطانا على كردفان، على أن يترك شمال السودان له (أي لغردون).
وبعد أيام عاد رسول غردون للمهدي وهو يحمل منه ردا جاء فيه: “أنا المهدي المنتظر، وكل من يقول غير ذلك فهو كاذب”.
وبعد مرور بعض الشهور على ذلك قام الجعليون بقطع خط التلغراف بين بربر والخرطوم. وكان من قام بذلك العمل هم حاج علي ود سعد وشقيقه عبد الله ود سعد، وهما من المتمة. لقد كنت صغيرا جدا في ذلك الوقت، إلا أن حسين باشا كان يستشيرني دوما في كثير من الأمور. سألني إن كان خط التلغراف بين بربر ودنقلا سيبقى سليما في الأسبوعين القادمين. أجبته بأني لا أعتقد أن ذلك الخط سيبقى أكثر من أسبوع واحد. وكان سبب ظني هو حصاد مقابلاتي مع كثير من السودانيين وسماعي لأحاديثهم عندما يغشون دُكّاني. فقد كنت قد سمعت بأن عرب عمر الفزاري قد توجهوا لقطع ذلك الخط التلغرافي. وبناء على نصيحتي أبرق حسين باشا القاهرة بأن الخط بين بربر والقاهرة سينقطع في غضون أسبوع، إلا أنه لم يتلق ردا بهذا الخصوص، بل تلقى برقية من سيد برنجار جاء فيها: “يجب أن تعد خطة محكمة، وأن تحمى المديرية والتلغراف. سيصلكم الجيش بعد أسابيع لا تتعد الـ 17”. ولكن، كما توقعت قطع خط التلغراف خلال أسبوع.، وأضطر حسين باشا أن يبعث برسائله مخاطة في أحذية وملابس رجال يسافرون في هيئة متسوِّلين. وأخفيت بعض الرسائل في نهايات العصي التي كان يحملها أولئك الرجال.
ثم انضم الرباطاب والمناصير والبشاريون وأهالي بربر للجعليين في مناصرتهم للمهدي. وبلغ عددهم جميعا نحو 70000. وكان على رأس هولا محمد الخير من (فقراء) الغبش. وساد بين كثير من الناس الخوف على حياتهم ففروا إلى غرب النيل. وبذا كادت مدينة بربر أن تخلو تماما من السكان. ولم يكن لدينا غير مدفع واحد في الدامر. وأوقفنا خلف السور عددا من الجنود في صف واحد، كل جندي يبعد زميله نحو 4 ? 5 ياردة. وفي الثاني والعشرين من رجب عام 1301هـ (الموافق 12 مايو 1884م) بدأ هجوم الدراويش على بربر. وأتى الجعليون من جهة الجنوب، والبشاريون من جهة الشرق، بينما أقبل الرباطاب من جهة الشمال. وفي مساء ذلك اليوم كان محمد الخير مستلقيا على عنقريبه في “الدكة” في منزل الطاهر الشوقلي حيث كان يختبئ من وابل رصاص بنادقنا. وقع الهجوم على بربر عند الرابعة فجرا. كنت في منزلي، وحسين باشا في داره. توقف مدفعنا عن الاطلاق بعد 7 أو 8 طلقات. وكان كل جندي من جنود الدراويش يحمل على رأسه حزمة من القش على رأسه القاها في الخندق الذي كان يحيط بسور المدينة، وسرعان ما اقتحموها.
قتل بعض جنودنا، وفر بعضهم من أسوار المديرية، وأختبأ بعضهم في مخزن الغلال، بينما هرب الباقون بالمراكب إلى ضفة النيل الغربية.
وأستولى الدراويش على مجموعة من البنادق والذخائر. وبقيت في وسط داري، والتي كانت تقع شرق الشارع الرئيس قرب المديرية، بينما كان عبيدي يقفون على السطح وهم يطلقون الرصاص على الدراويش من بنادق وذخائر زودنا بها مدير المديرية. وتولى حراس المديرية حراسة الخزينة والتي كانت تحتوي على 53000 جنيه مصري، أرسلت من القاهرة لتبعث إلى غردون بالخرطوم. وكانت هنالك أيضا نحو 7000 جنيه تخص المديرية.
نهبت المدينة وأخذت النساء سبايا، وفقدنا كل ممتلكاتنا. وهاجم الدراويش منزل حسين باشا خليفة، ولم يتوقفوا إلا بعد أن أصدر محمد الخير أمرا بوقف الهجوم. وباشر بأخذ ما في الخزينة من أموال بعد أن استدعى مدني أفندي عثمان باشكاتب المديرية، وعبد الجليل الصراف، والفكي المدني أحمد رئيس اليومية. كان كل أولئك قد نجوا من مذبحة الدراويش، وأحضروا ليمثلوا أمام محمد الخير. أمرهم الرجل بفتح الخزينة وأخذ كل ما فيها من مال بعد أن استوثق من جميع الحسابات والأختام.
وذهب بحسين باشا خليفة إلى المهدي في كردفان، وظل حبيسا عنده لثمانية عشر شهرا. وكان قبل حبسه قد أعطى لابنه عبد العظيم مبلغ ألف جنيه لشراء خيول من “دراو”. ولما بلغت أنباء سقوط بربر لمسمع الولد، صرف النظر عن شراء الخيول، واحتفظ بالمال وآب لبربر عن طريق الصحراء، حيث أعلن عند وصوله أنه صار من “دراويش” المهدي، وطلب أن يؤخذ لوالده في الأبيض. وبالفعل ذهب به إلى الأبيض (وهو يحمل الألف جنيه) حيث وجد والده في حالة بئيسة من المسغبة. لذا بدأ في إنفاق تلك الجنيهات في شراء الطعام لكليهما.
وكان غردون في ذلك الأثناء مقيما في الخرطوم. وأرسل المهدي إبراهيم عدلان ليحضر المبلغ الذي أخذه محمد الخير من خزينة مديرية بربر (53000 جنيه مصري)، والذي كانت القاهرة قد بعثت به لغردون. ولما بلغ الخبر مسامع أهل بربر جأروا بالشكوى والاحتجاج قائلين إن ذلك المبلغ ملك لبربر وليس للمهدي، وأنهم على استعداد للتخلي فقط عن خمسه للمهدي. وأرسل إبراهيم عدلان رسالة للمهدي يخبره فيها بما طالب به أهالي بربر. رد المهدي على تلك الرسالة بإرساله شيخ مدثر إبراهيم حاملا رسالة منه قرئت على كل أهالي بربر فثاروا محتجين، ولكنهم قبلوا في نهاية المطاف بتسليم كل ذلك المال لمندوب المهدي إبراهيم عدلان، والذي حمل المبلغ على ظهر مركب عبرت به النيل غربا، ومنها عبر الصحراء حتى بلغ الأبيض حيث سلم كل المال للمهدي يدا بيد.
وفي تلك الأيام كانت حملة إنقاذ غردون قد قتلت موسى ود حلو، وسارت من “أبو طليح” إلى أبو رمالي جنوب المتمة، حيث كانت في انتظارها باخرتان. وأعلن المهدي لجنوده بأنه إذا دخل الجيش البريطاني الخرطوم، فسيكون قد خسر الحرب، لذا فإن عليه أن يسبق الجيش البريطاني في الاستيلاء على الخرطوم. وصرح لهم بأنه إذا سيطر على الخرطوم في ثلاثة أيام، فسيكونون في مأمن.
وأبصر غردون عبر منظاره المكبر جنود المهدي وهم يتقدمون نحو الخرطوم من جهتي الشرق والغرب. ثم دخل الدراويش مدينة الخرطوم. وأعطى المهدي أوامره المشددة بعدم قتل غردون، غير أن جيشه كان كبير العدد وقليل الانضباط، ولم يكن الكثير من جنوده قد سمعوا بتلك الأوامر.
وكان الريح ود حمد هو أول من أخبرني بمقتل غردون، وقال لي بأنه كان شاهد عيان لكل ما حدث للرجل. قال بأن غردون كان ينزل منتصب القامة من درج القصر في رفقة ثلاثة ضباط. وكان في كامل زيه العسكري وعليه كل أنواطه ونياشينه. وبينما كان غردون يتحدث مع ضباطه صوب رجل عربي جاهل ذو شعر طويل لم يكن قد سمع بأوامر المهدي نحوه حربته المسننة. أصابت تلك الحربة المنطقة التي تقع تحت القلب مباشرة. ضحك غردون وحاول أن يستل الحربة من جسده، غير أن أسنان تلك الحربة الحادة منعته من ذلك. فخر على الأرض بعد محاولته تلك. قام المهاجمون بعد ذلك بقتل الضباط الثلاثة وقطعوا رأس غردون بسيفه الذي كان معه. وأخذوا رأس غردون إلى المهدي، والذي نظر إليه ووجه غضبه الشديد نحو أحمد سليمان أمين المال لعدم تنفيذ أوامره بعدم قتل غردون. غير أن الخطأ لم يكن خطأه، فقد حاول أحمد سليمان أن يحول بين ذاك العربي وبين غردون دون جدوى (للمزيد عن مقتل غردون يمكن قراءة المقال المترجم بعنوان “مقتل غردون: رواية شاهد عيان”. وذكر البروفيسور أحمد أبو شوك الروايات التالية عن مقتل غردون: يوجه نعوم شقير أصابع الاتهام إلى محمد ود نوباوي، زعيم بني جرار، محتجاً بأنه أول من طعن غردون، ثم تلاه نفر من الأنصار، قاموا بقطع رأسه، وعرضه على عبد الرحمن النجومي، ثم الخليفة شريف، ثم على المهدي (شقير، 1981م، ص: 535). وبحسب رواية علي المهدي مؤلف “جهاد في سبيل الله” فإن قاتل غردون هو شخص يدعى مرسال، وكان يعمل بيرقدار (أي حامل راية) للأمير ميرغني سوار الدهب. وقد أطلق رصاصة على شخص كان يقف من نافذة قصر الحكمدار المحاصر، وعندما صعد المرافقون لمرسال، اتضح لهم أن المقتول هو غردون. أما ضرار صالح ضرار فيوجه الاتهام إلى رجلين من قبيلة البجا. وهذه أضعف الروايات. المترجم)
وبعد ثلاثة أيام وصلت بواخر حملة إنقاذ غردون للخرطوم. غير أن قادتها لم يجدوا أي أثر لجنود غردون في قصره فقرروا العودة، خاصة وأن جنود الدراويش بدأوا في رشقهم بالرصاص عندما اقتربوا من جزيرة توتي.
وظل حسين باشا طوال ذلك الوقت مع المهدي، والذي كان قد وثق فيه، بل وسلمه رسالتين بتعيينه أميرا على مديريتي Ginir و Isa، وجاء في رسالته تلك أمر للأهالي في هاتين المديريتين بضرورة السمع والطاعة للأمير حسين، وفتحهما أمام المهدية. وأرسل لي حسين باشا خطابا طلب مني فيه القيام بتحضير رحلته من بربر إلى كورسكو. ووصل إلى بربر مع ولده عبد العظيم، وقابل محمد الخير، والذي منحه 75 جنيه مصري، وسأله عن موعد قيامه في رحلته. أجاب حسين باشا بأنه سيغادر بربر بعد يومين. غير أني كنت قد دبرت له أمر هربه، وطلبت منه أن يخرج من المدينة سرا في ليل ذلك اليوم. أمرني حسين باشا ألا أخبر أحدا بسفره إلا بعد مرور يوم كامل. حمل عبد العظيم الأمتعة فوق ظهور الإبل وأخذ معه نساء حسين باشا (إضافة إلى فتاتين كنت قد أهديتهما له) واِنْسَلَّ عبر بوابة بربر بوابة الغربية وغَذَّ السير في الصحراء في طريقه نحو كورسكو. وخرجت في رفقة حسين باشا بعد مرور بعض الوقت من خروج عبد العظيم، وواصلت معه السير حتى نقزو. وفيها علمنا أن قافلة (حملة) عبد العظيم كانت قد تجاوزتها. توقفنا قليلا في نقزو لشرب القهوة. وانتحى بي حسين باشا جانبا وقال لي: “ليس هنالك مهدي. هذا رجل كذوب. سأذهب إلى دراو. احفظ دمك ودم والدك. يجب أن تخدم المهدي وأن تمرغ أنفك في التراب، وإلا قتلك. ولكن تذكر دوما أنه رجل كذاب”.
ومضى عبد العظيم بحملته نحو دراو، بينما سافر حسين باشا مباشرة إلى كورسكو، حيث أرسل منها برقية إلى القاهرة لإعداد باخرة له في الشلال لتأخذه للقاهرة. وهنالك سلم خطابات تعيين المهدي له للمسئولين، وتم تعيينه وكيلا للداخلية (لشئون العرب). ولم تمض شهور قليلة على تعيينه حتى توفي. وسرت شائعات بأنه مات مسموما، غير أني لا أرجح ذلك، إذ لم يكن للرجل من أعداء، وكان ? بحسب علمي- مريضا منذ زمن طويل. وقد سبق لي أن زرته أكثر من مرة في بربر وهو طريح الفراش. لا شك عندي أن سبب وفاته هو ذلك المرض.
أعرف الكثير من القصص عن غردون وحسين باشا، ويمكنني أن أقصها عليك في وقت آخر. كانا يكنان لي مشاعر الود والحب، وكان غردون شديد العطف والكرم معي لأني كنت أساعده. فقد كنت في تلك السنوات رجلا ثريا وصاحب تجارة مزدهرة، غير أن الدراويش سلبوا مني كل ما كنت أملكه.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. وفي مساء ذلك اليوم كان محمد الخير مستلقيا على عنقريبه في “الدكة” في منزل الطاهر الشوقلي حيث كان يختبئ من وابل رصاص بنادقنا.
    __________________________________________________

    الإسم الصحيح هو : الطاهر الشكلي. أما قاتل غردون حسب شاهد العيان، هو عربي طويل الشعر، يقصد بجاوي فزي وزي، الأمر الذي يرجح رواية ضرار صالح ضرار.

  2. وصف قاتل غردون ينطبق علي البجاوي وليس ود نوباوي, البجا هم من يطلقون شعر الراس, ثم من روي الحادثة شاهد عيان ليس من المدعين …
    أقرأ معي ما جاء بالمذكرات:ــ
    كان الريح ود حمد هو أول من أخبرني بمقتل غردون، وقال لي بأنه كان شاهد عيان (لكل ما حدث للرجل. قال بأن غردون كان ينزل منتصب القامة من درج القصر في رفقة ثلاثة ضباط. وكان في كامل زيه العسكري وعليه كل أنواطه ونياشينه. وبينما كان غردون يتحدث مع ضباطه صوب رجل عربي جاهل ذو شعر طويل لم يكن قد سمع بأوامر المهدي نحوه حربته المسننة. أصابت تلك الحربة المنطقة التي تقع تحت القلب مباشرة.)
    ما رواه المؤرخ صالح ضرار يكتسب المصداقية.

  3. الخواجة البجح دا بتكلم عن عبيده ويحكي حكاوي مسامحة غردون لتجار الرقيق وسماحه لقافلتهم بالذهاب لبيع الرقيق السوداني في جدة ويدعون بأن غرضهم من الاستعمار هوى نشر الحضارة وقيمهم الدينية – هذا مثال على ماهية الأحوال في السودان في حكم التركية السابقة النتنة قبيل الثورة المهدية ولكن للأسف لم تسلم الثورة المهدية نفسها من اثم الرق بعد طرد الأتراك حيث أفرغت كلمة (الجهدية) من كل معنى جهادي اسلامي وصيرتها كلمة مرعبة تعني الغارات لأخذ الناس رقيقاً كما كان يفعل تجار الرقيق الأتراك والسودانيين المتوركين أمثال الزبير باشا رحمة لا رحمه الله!

  4. وفي مساء ذلك اليوم كان محمد الخير مستلقيا على عنقريبه في “الدكة” في منزل الطاهر الشوقلي حيث كان يختبئ من وابل رصاص بنادقنا.
    __________________________________________________

    الإسم الصحيح هو : الطاهر الشكلي. أما قاتل غردون حسب شاهد العيان، هو عربي طويل الشعر، يقصد بجاوي فزي وزي، الأمر الذي يرجح رواية ضرار صالح ضرار.

  5. وصف قاتل غردون ينطبق علي البجاوي وليس ود نوباوي, البجا هم من يطلقون شعر الراس, ثم من روي الحادثة شاهد عيان ليس من المدعين …
    أقرأ معي ما جاء بالمذكرات:ــ
    كان الريح ود حمد هو أول من أخبرني بمقتل غردون، وقال لي بأنه كان شاهد عيان (لكل ما حدث للرجل. قال بأن غردون كان ينزل منتصب القامة من درج القصر في رفقة ثلاثة ضباط. وكان في كامل زيه العسكري وعليه كل أنواطه ونياشينه. وبينما كان غردون يتحدث مع ضباطه صوب رجل عربي جاهل ذو شعر طويل لم يكن قد سمع بأوامر المهدي نحوه حربته المسننة. أصابت تلك الحربة المنطقة التي تقع تحت القلب مباشرة.)
    ما رواه المؤرخ صالح ضرار يكتسب المصداقية.

  6. الخواجة البجح دا بتكلم عن عبيده ويحكي حكاوي مسامحة غردون لتجار الرقيق وسماحه لقافلتهم بالذهاب لبيع الرقيق السوداني في جدة ويدعون بأن غرضهم من الاستعمار هوى نشر الحضارة وقيمهم الدينية – هذا مثال على ماهية الأحوال في السودان في حكم التركية السابقة النتنة قبيل الثورة المهدية ولكن للأسف لم تسلم الثورة المهدية نفسها من اثم الرق بعد طرد الأتراك حيث أفرغت كلمة (الجهدية) من كل معنى جهادي اسلامي وصيرتها كلمة مرعبة تعني الغارات لأخذ الناس رقيقاً كما كان يفعل تجار الرقيق الأتراك والسودانيين المتوركين أمثال الزبير باشا رحمة لا رحمه الله!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..