ولات ساعة مندم..!

لمياء شمت

هل نعيش حياة لائقة ومتمدنة؟ سؤال تنجح أية دولة في الإجابة عليه، طبعاً إذا نأت به عن الحشود، ومكبرات الصوت، والسيولة اللفظية، وانشغلت، بدلاً عن ذلك، بإعادة “البصيرة” كرتين، في مفهوم البنى التحتية الرئيسة التي لم يعد تعريفها يقتصر أفقياً، فحسب على البنايات، والطرق والجسور، ووسائل الإتصال، بل يتجاوز كل ذلك ليرتبط بمفاهيم تتعلق رأسياً، بـ (نوعية) حياة الفرد، من حقوق وحريات وأمن، وما إلى ذلك من ضمانات التوازن الاجتماعي، وتكافؤ الفرص، والقسط بين قوى الإنتاج وعلاقاته.
ومن هناك فقد بزغت قصص نجاح تصلح، على تواضعها، كنماذج، في بعض بلدان أفريقيا، والشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، وأجزاء من آسيا. فتنفيذ جزء من شبكة طرق ريفية في مغرب ما بعد الإصلاحات، على سبيل المثال، لم يقفز فقط بالطاقة الإنتاجية إلى مستويات عليا فحسب، بل أدى كذلك إلى مضاعفة أعداد الملتحقين بالتعليم، والمستفيدين من المؤسسات الصحية والخدمية. وفي كوستاريكا، حيث انتخبت لورا شينشيللا، كأول امرأة في تاريخ البلاد، تصعد إلى رئاسة الجمهورية، رفع استكمال مشروع شبكة الكهرباء عدد المؤسسات العاملة في خدمة أغلبية المواطنين من 15% إلى 86% بضربة واحدة. أما البرازيل فقد قفزت إلى المركز التاسع، صناعياً، بفضل توفيرها لمناخ الحريات الأكاديمية، وإنفاقها السخي على العلماء والبحث العلمي، وتسخير ذلك كله لتخطيط استراتيجيات التنمية المستدامة، وتشجيع مكننة الزراعة، وإنجاح التهجين النباتي والحيواني، وإعادة إعمار الغابات، الغابات بالذات، بصونها وصون حقوق خبرائها والعاملين عليها، بادئ ذي بدء، لضمان المزيد من حدبهم على رعايتها، لا إزالتها وكشطها من الوجود لصالح الهياكل الخرصانية المستبدة، “فإنما الأمم (الغابات) ما بقيت/ فإن همو ذهبت (غاباتهم) ذهبوا!”، على حد التصحيف البليغ للخبير المفخرة كامل شوقي.

هكذا تبدي بعض الدول، رغم صعوبة أوضاعها، جدية كبيرة في عملية الاستيفاء الضروري للحاجات الإنسانية والحضرية، ليس مادياً فحسب، بل واجتماعياً في المقام الأول. فالعالم يقف، الآن، على أخمص قدميه، في إثر تقارير دولية تنذر بأن 85% من سكان العالم بسبيلهم للانتقال، خلال العقدين القادمين، للعيش في المناطق الحضرية، ولات ساعة مندم! فإما مشاريع حضارية حقيقية بعيدة النظر، أو ترييف وإجحاف وغبن لا يبقي ولا يذر، وقد بلغت الرسالة الأسماع، إلا من حشا أذنيه بالوقر!

وعلى صلة وثيقة بذلك فقد أطلقت الأمم المتحدة والمجلس الأوربي والجامعة العربية ومنظمة العمل الدولية عدداً من التقارير التي ترصد ظاهرة النزوح الهائل للكفاءات العلمية المؤهلة حول العالم، أو ما تم الإصطلاح عليه بـ (هجرة الأدمغة) ( Brain Drain). وقد عكفت هذه التقارير على تحليل الظاهرة إلى أرقام ووقائع توفر قاعدة بيانات واسعة يعود إليها الفضل في ردم فجوات المعطيات الإحصائية حول الظاهرة، حيث تكشف أن هذه الهجرة قد بلغت، بالفعل، مبلغاً خطيراً أدى، وما زال يؤدي، إلى نزيف مهلك للبلدان التي تخسر تلك القوى البشرية الخلاقة، خاصة وأن معظمها بلدان نامية تنزف زبدة خبرائها ذوي الكفاءات العلمية الحاذقة التي تحتاجها قطاعاتها التنموية الحيوية، التي يأتي على رأسها القطاع التعليمي والصحي والاقتصادي.

وبحسب أوراق علمية لباحثين في قضايا التنمية بالبنك الدولي، والتي استفادت من قاعدة بيانات كان قد أسسها فريدريك دوكسسي بالاستناد إلى 192 مصدر بحثي موثوق، فإن هذه الهجرة الدائمة أصبحت مهولة ومرعبة بحق، تحديداً عند تفكيك المشكلة، ورصد عواقبها الكارثية على الأمم النازفة لتلك القوى المنتجة المبدعة، وما يسببه الأمر من إضعاف كبير للقدرة الذاتية للمجتمعات، يتمثل في إلإفقار المعيشي والمعرفي، وإعاقة المشاريع التنموية، والتراجع الطردي الهائل للاقتصاد وبالتالي نوعية الحياة، بالإضافة إلى رجّ التركيبة السكانية، وإحداث اختلالات مخيفة في التوازنات الديموغرافية.

وهكذا فأن قد الهجرة ارتفعت مؤخراً، إلى معدلات غير مسبوقة في البلدان الأكثر حاجة للتنمية المستدامة. فقد وصفها المجلس الأوربي بالخسارة طويلة الأمد للثروات البشرية، مما يضع الوضع الإنساني ونوعية الحياة والمعرفة والبحث العلمي والنهوض المجتمعي على شفير هاوية، وينذر بتدهور مريع في قطاعي الصحة والتعليم تحديداً.

وتكشف التقارير عن أن بعض هذه الدول تخسر، سنوياً، أكثر من 15% من كفاءاتها الحيوية. أما السودان فتشير إحصائية تفصيلية، ضمن تقرير إدارة السياسات السكانية والهجرة بالقطاع الاجتماعي لجامعة الدول العربية لسنة 2009م، إلى أنه قد نزف بلا رحمة، في فترة وجيزة أرقام هائلة من خبرائه وعلمائه وكفاءاته المدربة.

أما تقارير منظمة التعاون والتنمية الدولية فقد انتبهت لظاهرة محزنة ترافق (هجرة) العقول، وهي خسارة (إهدارها) أيضاً! ذلك أن نسبة كبيرة من الكفاءات المهاجرة تخضع لتقصير قامتها المعرفية، وتقبل بأداء أعمال لا تليق بمستوياتها، تشبثاً بضفاف المهجر، طلباً لفرصة حياة إنسانية لائقة، وفراراً من الظروف الطاردة في أوطانها. ولم تنس تلك التقارير، بالطبع، أن تثني على التفاعل الحضاري والثقافي الإيجابي الناجم عن عمليات الدمج والاستيعاب لتلك الهجرات في المجتمعات الجديدة، والتي تعتمدها كرصيد إضافي لريادتها!

مع ذلك، فثمة جهود علمية مقدرة تبذل للتعرف على الظاهرة بكل أبعادها، حيث الاعتراف بها، كمشكلة كارثية، هو الخطوة الأولى باتجاه التفسير الصائب لها، ووضع الأيدي على أسبابها، واقتراح السبل الكفيلة باقتراح خطط لعلاجها. وفي هذا الإطار فقد وُجد أن قوة الطرد المركزية لسائر الكفاءات المتخصصة إنما تتشكل من مادة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، المترتب، بدوره، على ضيق هامش الحريات والحقوق، وشيوع الفساد والقهر السلطوي، وغياب العدالة. بالإضافة إلى خنق الفكر ووأده، وما يرتبط بذلك من عوامل حياتية غير مواتية، كقسوة الظرف الإنساني، وسطوة الشرط الاجتماعي، وتمظهراتهما المعروفة المتمثلة في بؤس المداخيل، وتردي الخدمات، وتدني نوعية المعيشة، وما يتولد عن كل ذلك من صنوف الهزائم المعنوية، والانكسارات النفسية، وكل ما يترتب عليها من شعور مرير بالقهر والغبن وغياب التقدير.

لهذا فقد بادرت بعض الدول بصياغة خطط شاملة لمكافحة الظاهرة، واتجهت للإعلاء من شأن الاستثمار في الإنسان، والعمل على تهيئة مناخات حياتية وعلمية صحية لـ (كسب الأدمغة المهاجرة ) (Brain Gain)، كأهم وأخطر المشروعات التنموية الاستراتيجية والحضارية. ولا يمكن، بالطبع، أن تقوم لأمر كهذا قائمة بالدجل والكذب المطبوخ ،والهتاف المتهافت، أو بالخطب الراقصة والتلاعب اللغوي الخبيث، بل بمواجهة الأمر على مستوى من تبقى من الحادبين من كل القطاعات والعلماء والباحثين و أصحاب الخبرات ، والمخططين الإستراتيجيين، لاقتراح بعض مخارج، ولو على المدى البعيد، تعمل على ضمان الاتساق والتفاعل بين كل المعطيات الرأسية والأفقية المذكورة، دون تضارب أو تنافر، لإنتاج ظروف تنحاز للبشر وللاستقرار، ولحرمة الكرامة الإنسانية.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. أختي لمياء, كلامك في محله, وعاوزة أضيف لو سمحتي فئتين هما عقول مهاجرة لكن غير مهاجرة لو جاز التعبير:

    * العقول التي أقيلت للصالح العام والتي نزلت المعاش وغيرها من ضباط وأساتذة جامعات ومهندسين وغيرهم, تلقيهم سايقين أمجاد مواصلات واللا بقوا سماسرة عقارات أو لو محظوظين وكانوا أصحاب ملك سكنوا تحت وأجروا الطابق الفوق يعيشوا منه.

    * العقول الرجعت البلد لمرافقة أبنائهم الكبروا ودخلوا جامعات السودان أو لأي سبب آخر, ما بيلقوا وظيفة تناسب خبراتهم ومهاراتهم فالغالبية تقوم تؤجر جزء من البيت يعيشوا منه.

    ….ونحن في النهاية الخسرانين لأننا ما استفدنا من عقولهم , وحبنا الله ونعم الوكيل في الإنقاذ

  2. ابكيك من وين ياسودانى العزيزه أرضك
    أبكيك من وين ونيلك شاقى . ….عرضك
    عندما كان الجنيه السودانى = أكثر من 3دولار كان السودان يعتمد على الزراعه وكانت الكوادر
    تبتعث لمساعدة الاخرين وكان من يريد الاغتراب فقط لتكملة الكماليات وانقلب الحال رأسا على عقب
    وهكذا الحال فى المصانع التى أصبحت اوكار مهجوره ووووو وووو والكثير *

  3. أما تقارير منظمة التعاون والتنمية الدولية فقد انتبهت لظاهرة محزنة ترافق (هجرة) العقول، وهي خسارة (إهدارها) أيضاً! ذلك أن نسبة كبيرة من الكفاءات المهاجرة تخضع لتقصير قامتها المعرفية، وتقبل بأداء أعمال لا تليق بمستوياتها، تشبثاً بضفاف المهجر، طلباً لفرصة حياة إنسانية لائقة، وفراراً من الظروف الطاردة في أوطانها. ولم تنس تلك التقارير، بالطبع، أن تثني على التفاعل الحضاري والثقافي الإيجابي الناجم عن عمليات الدمج والاستيعاب لتلك الهجرات في المجتمعات الجديدة، والتي تعتمدها كرصيد إضافي لريادتها!

    (انا مثال لما سبق ذكره)

  4. أستاذة ليمياء و القراء الأماجد لي زمن بفتش لي السوداني حلو العشرة و الجيرة الما بتكلم إلا تجي مناسبة الكلام صاحب القول المجيد و الرأي السديد.بفتش لأخو فاطنة و العازة الما بقول سمعت فلان و فلانة قال وقالت و سوا وسوت . بفتش لي السوداني البزور المريض و بكرم ضيفوا و بشيل حمول تهز الجبال السوداني جبل الضرا.البكفكف دمع البتبكي و في كبس الضلام يفقد منو الما أتعشي . بفتش لي السوداني البرقع التوب و بسمع كلام وليتو ما بنهرها و بحل مشاكلو و مشاكل الغيرو. بفتش لي السوداني البودي لبن النفساء لامن تربعن و بتفقد الداخليات و المستشفيات و بشوف وين فرقة الحوجة و بسدها.بفتش للسوداني اللامن تجي تحكي ليهو بقول ليك أنا فاهمك و بتلقاهو فعلا و شايل همك . بفتش لي السودان الما بعرف السخرية من أخوانو وأخواتو و ما بشمت فيهن وكت المصايب و ما (بكتل مع المرفعين وبخلص مع الضبعة).تشم فيهو ريحة الجروف و جبال الجبال و البلدات و الساقية والدونكي والطين و الدعاش و القلم و الدواية واللوح.ياناس الراكوبة سوداني ذي دا بنفع يعيش حضر و بادية.جمعة مباركة ولكم خالص تهانينا بقدوم 2013.للتواصل : ‏[email protected]‏ أو 00249126267120

  5. نعم، نحن نشهد اﻵن إنهياراً لمفاهيم الجغرافيا السّياسيّة وحدود البلدان، وانهياراً لمفهوم “السّيادة الوطنيّة”، وتداعياً لعقيدة “الوطن” فى ذهن الفرد، واﻷهمّ من ذلك تراجعاً لسُلطة الجماعة على الفرد، وكلّه يصبّ فى النّهاية فى صالح البشريّة على المدى القريب والبعيد،

  6. Dear Ustaza Lemya, as usual this is one of the best articles that I have gone through during this week: well done and wishing you all the best
    Best Regards,
    Magdi Sarkis

  7. اخت لميا مقالك يلامس الواقع ويكي عن موضوع حيوي جدا جدا ويا ريت يجد دراسة من الجهات المختصة لكي يوقفوا سيل العقول المهاجرة لكن كدا الكيزان مستفيدين لسببين الاول لم تكن هنالك مضايقات بالنسبة ليهم والسبب الثاني هذه العقول او المهاجرين يمدوهم بالمال وهذاف في سبيل مصلحتهم ولايهمهم البلد ولا المواطن المغلوب علي امره

  8. حنا عندنا الانسان وكفاءته اخر شئ ينظر اليه اهم شئ ولاءه للسلطه التمكينيه انشالله يكون تور فهو اجدر من اي كفاءه اخري اما حريه الاعلام حنا ح نخلي جهاز الامن هو المسؤل الاول والاخير عن الصحف الصادره وقد فعلنا ذلك لان الاعلام ماجور ولازم نواجهه باعلام مضاد وبالتالي الحريه الصحفيه عندنا صفر علي اليسار كما هو حال الملراجع العام حنا تراجعنا ضمئرنا والفسادين بنستر عليهم ونرقيهم بومجب فقه الستره حنا عندنا التمكين والثروة والسلطه اهم من الصحه والتعليم سياسه الانقاذ الرسميه

  9. “النزوح الهائل للكفاءات العلمية المؤهلة، حيث الاعتراف بها، كمشكلة كارثية،” الله يا أستاذة لمياء أئمة النفاق الديني والكسب التمكيني الانقاذ من طرد العلماء والكوادر المؤهلة والحرفيين لقد تمت تصفيتهم بمنهاج الصالح العام للخدمة المدنية ليتأتى على المشاريع الاستراتيجية الحيوية بخسة التخصيص والإفساد الرئاسي للكوزنة الوراثية والحاسيبية وكذلك في اعتقادهم التخلص من الطبقة الوسطى راعية المطالبات الاحتجاجية والاعتصامات السياسية لكنس زبالة الدين السياسي، وها قد تم الاحلال بالفاقد التربوي الوضيع (حملة الدرجات العلمية الرفيعة….. مزورة) حتى مطلوب العدالة الدولية خلص الماستر والست أم النهب حضرت الما…. بلاد التفاخر فيه بالنهب والهمبتة والعفة والطهارة فيه أضحت مضحكة والفارهات والشامخات رفعة وشطارة.
    اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك ولا تغادر منهم أحدا، اللهم عجل بعذابهم دنيا قبل مماتهم وسود عيشتهم وأجعلهم عبدة أموالهم

  10. المراة السودانية المهتمة بالشان العام صارت تنظر للامور بنظرة فاحصة اكثر من الرجل ? ويظهر ذلك من خلال الكتابات الموضوعية التي يتم نشرها بالصحف المختلفة ، فاي مقال طرفه امراة تجده يمتاز بالموضوعية، وفقك الله يااخت لميا ، وبقية العقد الفريد ، هويدا سرالختم الله اطراها بالخير ماعرفنها حاليا بتكتب وين ، وناس رشاء وشمايل النور وبقية العقد الفريد ،بخصوص هذا المقال بتمنى من الاخوة احمد البلال الطيب،الهندي عزالدين،ضياء البلال، ابو العزائم،راشد عبدالرحيم، عبدالمنان،يطلعوا على هذا المقال امكن ربنا اهديهم لكتابة المفيد في المستقبل، طبعا ناس الطيب مصطفي،اسحاك فضل الله ،ديل بموتوا كدا بجهلهم وضلالتهم العنصرية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..