رجم الاستقلال: “من هان حتى تواضع في نفسه كل معنى رفيع”

الأول من يناير هو موسم “عيد باية حال عدت يا عيد”. وستخرج البرجوازية الصغيرة (وفي المهاجر خاصة) تجلد ذاتها وصفاتها وتصب اللعنة على السودان والسودانيين (العربوإسلاميين بالذات) وساسته أجمعين . . . والإمام الصادق المهدي شخصياً. وستنعى علينا أننا حصلنا على استقلال بدري عليه لم نضرجه بالدم. وسيعيدون علينا حكاية عمك أزرق النجيض بتاع أم درمان وحزبو الشنو ما عارف لقوله للإنجليز أوعكم تعتبوا خارج السودان “دي إمة يدوها استقلالها”. وسيذكروننا بحكمة تلك التي قالت: “يالإنجليز لا تفوتو لا تموتو”. وكانت نتيجة “شفقتنا” للاستقلال في قولهم أن دمرنا ركائز الحداثة: السكة حديد، الجزيرة، الجميلة ومستحيلة، والخدمة المدنية وسائر مفردات مثلث حمدي الشهير. وستطوي البرجوازية الصغيرة ذيلها وترجع، بعد أن تستغفر من النخجي، إلى أمن صدفتها الاستعمارية. وستنفق العام في مهرجان كراهية نفسها ووطنها حتى يهل عام جديد “وعيد بأية حال . . .”
سيبكون على مَنِ الإنجليز و سلوى سكك حديدها التي تزبط عليها ساعتك. ولكن لن تندى لهم دمعة على مكسب آخر لنا من الإنجليز: الحرية. وآخجلتاه. لقد فَرتهم سنوات الهرج والاستبداد ووتواضعوا على أنفسهم حتى هان فيها “كل معنى رفيع” في قول التجاني يوسف بشير. وتستغرب لماذا يطلبون من دولة الإنقاذ الديمقراطية وهم يتبرأون من حرية الإرادة التي انتزعناها بالاستقلال، ويتمنون لو لم يرحل عنا الإنجليز بسكك حديدهم وجزيرتهم المروية وخدمتهم المدنية.
ونسيت شيئاً من مآثر الإنجليز يذكرونه بصورة راتبة: مرور المفتش كل سبت على رأس موكب من شيوخ المرابيع للكشف عن بؤر الملاريا والذباب. وتخصص في البكاء (أو التباكي) على هذا الموكب شوقي بدري الذي لو قرأ ما كتبه جده بابكر بدري عن طبيعته المستبدة لتحفظ وتجمل. فجده يذكر أن الموكب كان مهيناً يتطلب من مثله أن ينزل عن ركوبته متى صادف ركب جناب المفتش. بل أن مبدأ ثورة على عبد اللطيف كانت لوجوب أن يترجل متى مر بإنجليزي. وكان سبب ثورة توتي المشهورة أن تواتياً رفض إهانة الترجل لدى مرور إنجليزي به وجرى اعتقاله وثار التواتة. وتوقعت أن تكون هذه الثورة من بعض ما تعلمه شوقي من توتي التي وصف صباه بين أصدقائه ومعارفه التي استفادها منهاب”جامعة توتي”.
ليس بوسع المتعلمين نقد الحكم الاستعماري واعتزاله ثقافة وسياسية بروح حرة. فهم ما يزالون ثمرة ذلك الحكم برغم ما يبدو من تقادم عهده. فقد صار معلوماً الآن أن تعليمنا ما يزال ينز استعماراً. فحمل البروف عبد الله الطيب على الحكم الوطني الذي خلف الاستعمار واصفاً إياه بأنه سلطة المستعمر ذاتها عادت على صورة “بعاتي” من الأفندية. والبعاتي لا يقوم كما قال في هئته الأولى فيصبح في صوته نخنخة وفي وجهه دمامة.
ولا أعرف من أدرك إرث الإنجليز في جيلنا المتعلم مثل هارولد ماكمايكل السكرتير الإداري للحاكم العام في العشرينات ومؤلف كتاب “العرب في السودان”. فقد روى الدكتور فاروق محمد إبراهيم قبل مدة رواية عنه في إطار فكرة الدكتور أن النظم المستبدة هي وظيفة من وظائف ضعف المجتمع المدني وقواه وتنظيماته. فتذكر فاروق على أيام بعثته في إنجلترا أن التايمز البريطانية كتبت مقالا افتتاحيا في صبيحة الثامن عشر من نوفمبر 1958 تتحسر فيه على الديمقراطية التي بناها الإنجليز وأطاح بها الجيش السوداني. وقال إنه دُهش حين قرأ في اليوم التالي “رسالة إلي المحرر” بقلم هارولد مكمايكل السكرتير الأداري للسودان في العشرينات عنّف فيها محرر التايمز قائلا ما معناه: ” من قال لكم إننا بنينا نظاما ديمقراطيا في السودان؟ لقد بنينا نظاما أوتوقراطيا يرتدي فيه المفتشون والمديرون الزي العسكري ويحملون الأشرطة العسكرية على صدورهم وقبعاتهم ويتولون السلطات التنفيذية والقضائية بإشراف مركزي مباشر من السكرتير الإداري بالخرطوم. وما فعله الجيش السوداني كان العودة بالبلاد للنظام الأوتوقراطي الذي بنيناه والذي هو أكثر مواءمة للبلاد من الدستور الوسمنستري الذي لم نعدا له إعدادا جيداً”.
يحول تعليم الإنجليز (قبل سكك حديده وخدمته المدنية) دون المتعلم وتنمية حس نقدي بالاستعمار قاعدته الحرية. ولا أعني بالحرية علماً ونشيداً وطنياً وسلطاناً. بل الحرية كاستحقاق وحالة إنسانية حتى لتصبح طبيعة ثانية للناس. وعليه فهي مما لا رجعة فيه ولا عود منه. فمن يخضعها للمساومة (أو مقايضتها بزلابية بالسكة حديد وغيرها) ولو مرة، ولو هذراً، ستكبو مساعيه لنيلها من نظام مستبد او آخر. فقد يتصور أن مطلبه من تلك النظم الحرية ولكن مطلبه في الواقع هو وضع يده على العلم والنشيد وكراسي الحكم في دورة اتوقراطية جديدة على حد قول ماكمايكل.
لم تجد البرجوازية الصغيرة في تعليم الإنجليز الذي يخيم علينا ما يزال ما يعينها على نقد استبدادهم لتخلص لها الحرية جلية كالجوهرة. وقالت أودري لوردي، الشاعرة الناشطة، إنك لا تهدم بيت السيد بأدوات السيد
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. يا برف علة الحزن والبكاء علي الاستعمار من احباط ما حدث للمعيشه فقياس المواطن صار اكل العيش والسبب ان البعاتي الذي خلف الاستعمار لم يكن لديه مشروع تربوي وطني فيه اجماع عليه والي الان المركب تائه بالنخنخه والدمامل كما تري لذلك الذين جكموا ساروا علي نهج الاستعمار حيث لا سبيل واسوا عوراتنا هو ان الوطن بهدله حكم الايدولوجيات الاكثر عرجا علي ارض (سبخه/هياله/ميعه/رضوضه ) اجتماعيا مع مفارقات لم يتنبه لها الحكم بين الريف والحضر وهذا ادي الي اننا لم نحافظ علي المكسب من الاستعمار وبالتاي لم نضف شيئا فاصبحنا كالثور في مستودع الخزف من لجاجة تنظير متفرقه غير راكزة علي ارض صلبه لذلك استمر الجن الكلكي الذي زرعه الانجليز كما قال السكرتير الاداري وشكرا ما زال بيت البيت البكا مفتوح اتمني ان تكون شاهدت الاستطلاع بالشروق للشباب عن زعماء الاستقلال لا تعرف انك في صدمه او غمه ام محنة ام ان شبابنا من هول ما حدث اصابه الزهايمر والاقسي كبير الظن ان اهل الانقاذ يضحكون علي ما فعلوه ولك ان تتصور اي فرحة بهذا الحصاد الرماد استعداد لاستمرار بيت العزاء

  2. يعنى شنو يابروف سادى دى بطينة ودى بعجينة وعامل فيها اضأن الحامل طرشه؟
    رسلنا ليك كم مرة ومرة عشأن تجى تشأركنا فى مهرجأن حوار الوثبة الذى يضم كل اللوان الطيف السياسى والانتهارى والاكول
    ده اخر نداء ليك وكان ما جيت ولا شأركت حتى ولو بورقة زى حقة التواليت البمسحوا بيها الخواجأت مؤخراتهم القذرة النتنة
    قيامتك قامت وشيل شيلتك مع الفريخ محمد غطاء لانو ناوى ليك من زمان ونحن الكنا بنصبر فيهو
    عن تحالف الوثبة:
    طراجى مصطفى
    قريمان رحمة
    عبوط جابر
    امين حسن عمر

  3. “الأول من يناير هو موسم “عيد باية حال عدت يا عيد”. وستخرج البرجوازية الصغيرة (وفي المهاجر خاصة) تجلد ذاتها وصفاتها وتصب اللعنة على السودان والسودانيين (العربوإسلاميين بالذات) وساسته أجمعين . . . ”

    هلا هلا ياقنوط ميسورى وانت موقعك وين من الاعراب؟
    فشلك داير ترمي على الاخرين يامنافس سفاح ولص كافورى فى الانتخابات؟

    ماهو بعد عبادة عبدالخالق قاعد تلحس فى مؤخرة العسكرى البشير والكيزان اللصوص
    فما تضعك نفسك كانك au-dessus de la mele يا ارزقى يا رخيص
    بطولة لسانك وقوة عينك المابتعرف الخجل ولا التواضع ولا مراجعة الذات كدى ورينا قدمت شنو يا منظر زمانك للشعب المقهور ده غير الهمز واللمز والطعن والمكاوة
    حريقة تحرقك وتحرق كل ناس جيلك الفاشلين الماعندهم شغلة غير جلد الذات وتوزيع القماش “الوشحات” وقطع الخشب “الدرقة” وتسويد الصحف الصفراء بالكلام الخارم بارم

  4. “أودري لوردي، الشاعرة الناشطة، إنك لا تهدم بيت السيد بأدوات السيد”
    ارزقى وكضاب كمان؟

    وردى اصلو ماعندو غنية بتقول كده
    ولابتقصد: ” …ماك هوين سهل قيادك ….سيد نفسك مين اسيادك
    ياشعبا لهبك ثوريتك….تلقى مرادك والفى نيتك “

  5. الاستعمار جاء من ثلاثة أجناس من خارج السودان

    – استعمار عروبي اسيوي
    – استعمار تركي اسيوي-اوروبي
    – استعمار انجليزي اوروبي

    خرج اثنان وبقى واحد وهذا الواحد يجب التعامل معه بفصله لأنه هو المتسبب في الحالة السودانية المتضربة وضمير مستتر مخرب لانه يمارس التقية ،وكما اقترح الدكتور عبد الله سابقا بفصل الجميع عن الجميع حيث لا تجمعهم هوية واحدة فانه يجب فصل هذا المكون لضرورات تاريخية جغرافية لحالته الخاصة التي يعاني منها

    الاستعمار العروبي اجبر قديما على التماذج لضرورات بطنية ونزوح لسد الرمق وضيق المعيشة

    لكنه يعاني من اضطراب الهوية فهو من دون كل الاجناس يعيش حالة استغراب ويبدو انها لازالت وستزال

    الدكتور عبد الله وانت فرد ضمن هذا القطيع الاسيوي الخلاسي مع الظن انك تعاني حالة استغراب واستعراب وتجاذب نفسي في السودان وخارج السودان كيف تعالج هذا التقطع الوجداني في هويتك ؟

    شكرا

  6. لم الاستسلام لفكرة ديمقراطية وستمنستر.؟
    وستمنستر هي سلطة الغالبية.
    فى امريكا لحماية الاقلية من الاغلبية(؟) تقام الديمقراطية التوافقية, لو صحت الترجمة.
    consensus democracy
    الامريكية مقابل
    majoritarian
    البريطانية

    الديمقراطية الحرية المناسبة لتفجير فعالية المجتمعات السودانية تبدأ بدراسة المجتمعات في السودان, وليس بالتقليد.
    واعتقد ان شعوب المجتمعات المحلية تود الديمقراطية التي تحافظ على الارض. ويدرس علماؤنا كيف تعمل وما هي هذه الديمقراطية,
    يعني اشمعنا امريكا تحمي الاقلية وهم الاثرياء من خطر الاغلبية ولا تحمي ديمقراطيتنا ارض المحليين وهم الاغلبية.؟

  7. سبحان الله السوداني هو الوحيد الذي يبدع وينتج ويعمل عندما يكون مرؤوس والدليل فللنظر حولنا.
    نحنا الذين خربنا بيوتنا بأيدينا امامنا 82 عام اخرى حتى نعود الى ما كنا عليه عندما خرج الانجليز.
    فيما مضى كنت احب ذكرى الاستقلال لكن الان حالي كحال تلك الدكتورة التي اتهمت بالجنون وتقبع الان في التجاني الماحي.
    مع مودتي

  8. إقتباس ..بل الحرية كاستحقاق وحالة إنسانية حتى لتصبح طبيعة ثانية للناس. وعليه فهي مما لا رجعة فيه ولا عود منه. فمن يخضعها للمساومة (أو مقايضتها بزلابية بالسكة حديد وغيرها)

    سلمت وسلمت أناملك أستاذنا الجليل عبدالله على إبراهيم فالبعض منا يعشق العبودية التى تكفل له حق الأكل والتبرز ويظنها المنقصة والغريب بأن معظمهم هاجروا كما أسلفت وعجزوا عن تحرير أوطانهم من الظلمة والمستبدين من بنى جلدتهم وأثروا العيش فى أوطان الأحرار الذين ضحوا بالغالى والنفيث لأجل أن يكون بلدهم قبلة للعاجزيين من أمثالهم ..

  9. كالعادة بتقفز فوق القضايا الحقيقية وتمسك في الاوهام فلان قال وفلان طرى الاستعمار ما تفكر براحة الناس طارية الاستعمار ليه؟ دي هى المشكلة لو بتعرف تحلل وتكتب زي ما بتقول. سيبك من اشواق الناس وشوف سبب الاذى شنو. السبب واضح زي الشمس انهيار الدولة.

  10. “لا أعني بالحرية علماً ونشيداً وطنياً وسلطاناً. بل الحرية كاستحقاق وحالة إنسانية حتى لتصبح طبيعة ثانية للناس”
    اها يابتفهما وهى طائرة
    ليه بتهدد الناس البنتقدوك بانو يدك واصلة وعندك معارف واصحاب فى جهاز امن لص كافورى؟
    عمرك فات السبعين ولسه بتنطط وتتقلب مابين الماركسية والاسلام صدق النعتك بالقنوط

  11. شكرا يا بروف على هذا المقال الفذ الألمعي القصير المختصر.. والمفيد تماما في مناسبة ذكري الإستقلال..
    نعم فقد تناسى الناس قيمة الحرية للأسف الشديد.. وهو ما ينبغى التأكيد عليه دائما أبدا ومن ثم البحث في سبل إنقاذ السودان وبناء وطن يكفل الحرية والمساواة والعدالة لأبنائه على غير ما شاء الإنجليز وإرثهم الذميم الذى أضنى كواهلنا وما زلنا ننوء به غير مدركين للأسف..
    لك الشكر والود.. والدعاء بطول العمر وكل عام وأنت بخير….

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..