سحر السرد

(نحن أبناء السرد، كهنة معبده ….
الواقعون في أسره ، في أسر سحره ،
منذ اللحظة الأولى التى إبتكر فيها الإنسان البدائي فن السرد ، فإنكسر
نسق حياته الوحشية) و صار في مقدوره
التعبير عن أحداث الماضي التي وقعت في محيطه .. بإستخدام آلية الحكي ،
ليفرغ من خلالها شحنة إنفعالاته المبهمة … و يبني عبرها جسوراً من التواصل مع الآخرين ….
لذلك كان فن السرد أحد فنون القول عند العرب ، و كانوا يجملونه و يزركشونه بالمحسنات اللفظية من خلال السجع و الجناس و الكنايات و التشبيهات ……..و لا سيما حينما :-
إبتدعوا شكلاً فنياً أولياً ، أطلقوا عليه “المقامات ” ليبثوا في ثناياه أحلامهم و همومهم عبر المحاولة الفطرية “المقامات” لكسر حاجز الخوف و فك طلاسم الحياة و مجهولاتها !!؟……
و بالسرد فقط يظل السارد مفتوناً بسحر سرده !!؟….
فما بالك بالمتلقي !!؟…
طغيان روح المشاركة بين المرسِل و المرسَل
إليه ، يُوثق العلائق الإنسانية بين البشر و يخلق مساحة من الحوار ، تضيق و تتسع بحسب وعي الطرفين و لعل ما يدور في محيطها يكشف جوهر معدنهما !!؟…
فالحاكم و المعارض مرهونان بطبيعة الحال بمدى طواعية المسرود الصادر من كليهما و بينهما ، في التشكل إيجاباً أو سلباً ، فهو الذي يقلل من حدة الفجور في الخصومة أو يزيد نيرانها إواراً !!؟،، و ربما يرقق السرد بسحره الجاذب … ڤقلوب الحاكمين إذا كانوا من قرائه ، تجاه شعوبهم !!؟……
من قرأ منهم ” الحرب و السلام” ل “تولستوي” أو “مائة عام من العزلة” ل “ماركيز” أو “موسم الهجرة الى الشمال” ل “الطيب صالح” أو أي عمل آخر من عيون السرد الإنساني … حتماً سيضع الرحمن في قلبه و يدير شؤون الناس بالديموقراطية غير الزائفة ، عبر الدولة المدنية و المواطنة الحقة و العدالة الإجتماعية ….
و من جانب آخر ، حينما تضيق بنا الدنيا
أو نضيق بها ، رغم رحابتها ، نلوذ بالحكي و نتزمل بسحره و ينفتح بيننا “هويساً” للفضفضة ، فنحكي و نعيد القصة من أولها ونجنح الى ترتيبها حتى يستقيم منطق أحداثها !!؟….
و لعل الحلم أيضاً ينطوي على بنية سردية ، فهو لا يمكن نقله من منطقة المنام
الى حالة اليقظة إلا عبر السرد …
و من أقصى العقوبات التي يتعرض لها الإنسان السوي هي السجن الإنفرادي ..
لشعوره بالحرمان من وجود طرف ثانٍ يحكي له و يتلقى مسروداته ، و يتفاعل معها و يفضى له بمكنوناته و يستمع إليه أيضاً كضرب من المشاركة الوجدانية ….
و بالقطع فإن سورة “يوسف” التي نزلت عقب الهزيمة في “أحد” كانت آثارها على النفوس المحبطة بمثابة الشفاء العاجل الذي يُرمم صدوع النفوس الكسيرة و يخفف كثيراً من مرارتها !!؟….
لماذا ؟
لأنها ببساطة قصة متكاملة العناصر و مستوفية للشروط الفنية للسرد ، فضلاً
عن أنها تجمع بين الإثارة و التشويق و مصاغة بلغة القرآن العليا ذات الدلالات
الواسعة بسلاستها و إستعاراتها و كناياتها و قوة جاذبيتها و سحرها و إمتلاكها لسلطة إمتصاص الحزن و الحد
من الإحباط !!؟….
إذن السرد هو الوسيلة المثلى للخروج من
الضيق الى الإتساع !. ظل الشعر من أهم الأنواع الأدبية التي سعت حثيثاً لدعوة الخلق لحب الحياة و التمتع بمفاتنها و كرس جُل قصائده لتجميل الكون و تزيينه بالبهرجة والزخرفة ليقبل الناس على مناهله المترعة باللذائذ
و كان هذا يتم عبر القصيدة المنبرية وسط تصفيق الجماهير وهتافهم … بينما
إختص السرد بخطابه الهامس الذي ينتزع متلقيه من وسط معمعة الحياة الى الخلوة و الإختلاء بكتاب ، ينقله نقلة نوعية الى عوالم الأخيلة لإعادة ترتيب حياته وفقاً لمبادئه المثلى خارج نطاق محيطه الضيق !!؟…
* * *
منذ قصة “أليس في بلاد العجائب” و “سندرلا” و ذات الرداء الأحمر و”الشاطر حسن و فاطمة السمحة” و “الحطاب و الفأس الذهبية” … ظل السرد بسحره الفتان العامل الفاعل في تنشأة الأطفال
و تقويم سلوكهم وفقاً لمسار مُثل و قيم المجتمعات الإنسانية !!؟……
في فصل الشتاء بالسودان يلتف الأحفاد حول “الحبوبة” لتجتذب إهتمامهم بسحر
أحاجيها و تحرص في -لاوعيها- على بث
الأخلاق الحميدة و مفرداتها كالأمانة و الشهامة و تحبب لهم أن الصدق نجاة كقصة “فرح ود تكتوت” مع المطارد من قبل طالبيه و غرس روح الشجاعة و تمجيد البطولة و الكرم و إغاثة الملهوف و ما نُسج على ذات المنوال ….
كالتمسك بالمثل العليا مثل صلة الرحم لحماية الأسرة الممتدة من التفسخ و التفرق و الإنشطار و التشظي !!؟…..
كل هذا يتم من خلال “أحاجي” مركبة في إطار جذاب و ساحر بلهجة عامية مبسطة …..
مجمل القول في هذا الصدد يتلخص في
أن “أحاجي الحبوبات” في ليالي الشتاء الباردة ، تساعد كثيراً في إنضاج
شخصية الأطفال و رفدها بمخيلة واسعة ، ترسخ في نفوسهم الغضة روح المغامرة
و التطلع الى ما يدور في خارج محيطهم لفهمه و التعامل معه ، بصورة أفضل بكثير من النصائح المباشرة و التوجيهات الرتيبة و الوعظ و الإرشاد !!؟……
* * *
لعل أبرز مثال لسحر السرد في تاريخنا العربي و إمتلاكه لطاقة مهولة في تغيير أحوال الناس و إنقلاب كيانهم رأساً على
عقب … ما أبتدعته ” شهرزاد” بحكاياها المتوالية في سفرها غير المسبوق “ألف ليلة و ليلة” !!!؟؟….
كيف أنقذت شهرزاد نفسها و بنات جنسها من النهاية الفاجعة و المحتومة من
ملك مجروح في شرفه ، يريد أن يمحو عن ظهر البسيطة رمز الخيانة المتمثل في المرأة !!؟…..
ماذا لو إستسلمت “شهرزاد” لمصيرها
كالأخريات !!؟……
هل كان من الممكن أن يحظى العالم بالسفر الإنساني المتميز ، ذو الفرادة النادرة الحدوث “ألف ليلة و ليلة” لولا “شهرزاد” !!؟… و مهارتها الفائقة في حبك أحداث حكاياتها المتوالية ، كل حكاية تلد الأخرى و صبها في قالب سحر السرد!؟.
من غير الأنثى “حواء” التي أخرجت “آدم” من الجنة ، في مقدورها أن تمتلك هذه الطاقة الهائلة في إجتذاب ملك غاضب يتفجر إنتقاماً للثأر من بنات جنسها لولا ….
أنثى ذات كيد عظيم ، قلبت الموازين و أحالت جبروت الملك “شهرزاد” الى وداعة
و أحاطته بقوة ناعمة من خلال حكايات ساحرة منظومة في عقد نضيد تتدافع
كحبات المسبحة بين أصابع شيخ ورع ..
كل حكاية تفضي الى حكاية أخرى حتى إنقضاء الليلة الأخيرة بعد الألف ……
هل يُعقل منطقاً أن يتحول السفاح الى عاشق !!!؟؟؟……
هذا ما فعلته “شهرزاد” ب “شهريار” بآلية في غاية البساطة ، لم تكلفها جهداً أو مشقة …..
بل هداها ذكاء الأنثى و مكرها الى إستلاب مخالب الرجولة وبطشها ، فطفقت
تنسج إحبولة براثن فخاخها بخيوط من حرير ، سرعان ما عجلت بإقاع الفريسة
بين حبائلها ، و إستحال الملك “شهريار” الفحل الجامح في فض بكارة و قتل عدد مقدر من فتيات المملكة ، كل ليلة ، الى
طفل وديع يتلهف كل ليلة لسماع حكايات “شهرزاد” الشائقة ، و المحبوكة بسحر السرد و مقبلاته ، حتى إمتلكت مجامع قلبه و صار عاشقاً لها و لمسروداتها الساحرة !!؟…

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. شكرا علي المقال الرائع و انا اطالعه قفذت في ذهني كلمتان ( الرؤي و الخيال) اتفق معك في كسر وحشية الحياة.
    وانا صغير كان في ودمدني ما عرف وقتها بمهرجان الحصاد. من ضمن فعالياته كرنفال يطوف المدينة. لا انسي منظر عروس القطن ، فتاة تتدثر بوشاح من القطن المقطوف من لوزاته غير المغزول . مشهد مثير للتأمل و الخيال . كان لدينا الألعاب النارية في سماء المدينة، الان نشاهدها من برج خليفة عبر التلفزيون، هل سالت لم يتحلق الناس لمشاهدة الألعاب النارية؟ السرد يستدعي الخيال وهو كوة الحاضر نحو المستقبل.

  2. أين نحن الآن يا د. محمد من
    كل ما سردت ؟
    مهرجان الحصاد ، عروس القطن
    الألعاب النارية و غيرها الكثير …
    حتى الخيال صادروه !!؟….
    لم نعد قادرين على القول !!؟….
    فمابالك بالتعبير عن مكنوناتنا
    لقد سلبونا متعة السرد و سحره ؟
    لك مودتي

  3. أسرنى سحر السرد في هذا المقال …فطاف بى في عوالم شتى…وكسر حاجز الزمن …فانتقل بي الي زمن الأحاجي من الخالات والحبوبات …ونحن نلتف حول الحجاية..وهي تسرد لنا الأحاجي و نستمتع …وكما أشار الأديب فيصل مصطفي متربعا صهوة الأدب السوداني..كانت التوجبهات التربوية والصفات النبيلة من صدق الحديث و نبل الاخلاق و مفردات الفضائل تغرس في دواخلنا دون حواجز..
    نحن الان نأسي علي الجيل الحالي في السودان بما ال اليه الحال من الاحباط نتيجة الذل الغير مباشر الذى تمارسه السلطات عن طريق شغل المواطنين بالاختناقات المعيشية ..وبالتالي صار الاطلاع الأدبي وجلسات التسامر البرىء ضربا من ضروب الترف و(عدم الموضوع)….
    ولكننافي الغد القريب سنعود لسابق مجدنا باذنه تعالي….

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..