مقالات وآراء سياسية

ما أشبه الليلة بالبارحة

أحمد داؤود

ليس هنالك وجود لدولة عميقة ، هنالك مركز إقصائي وقابض يستخدم  فكرة الدولة العميقة كفزاعة في عملية الحفاظ على امتيازات غير مشروعة ، والمركز حسب محمد جلال هاشم : هو مجموعة الصفوة المعاد إنتاجها ثقافيا داخل حقل الثقافة المسيطرة عبر عمليات الادلجة والتشكيل .

في العام ١٩٨٥  توافقت معظم القوي السياسية التي تبنت الحراك الثوري علي ترأس المشير سوار الذهب للفترة الانتقالية مع انها كانت تعي جيدا أنه كان أحد اذرع الجنرال جعفر نميري ، وكانت تعي أيضاً أنه قد تمت ترقيته قبل ثلاث اسابيع علي اندلاع الثورة ، اي في الثالث عشر من مارس .  و أثناء الفترة الانتقالية لم تشرع القوي السياسية التي كانت تتحدث باسم الجماهير لم تشرع في إلغاء قانون أمن الدولة أو حتي القوانين الإسلامية التي ارسي دعائمها الجنرال المخلوع حتي إن قرنق قال عنها : مايو ٢ . كما ظلت القوي المشكلة للائتلاف الحاكم تتهرب من مناقشة القضايا المتعلقة بمصير البلاد ، وأصرت علي إجراء الانتخابات دون الاكتراث لاصوات مواطني ٣٧  دائرة في جنوب السودان .

و عندما أجريت الانتخابات وشكلت الحكومة بدأت الخلافات تدب وسط القوي السياسية ، و قد كانت الصحف تغذي الخلافات و توججه ، وفي ظرف ثلاثة سنوات شكلت أكثر من حكومة ولكنها مع ذلك عجزت في التصدي للأزمات الاقتصادية ، و الانفلاتات الأمنية ، كانت ضعيفة و هشة بطبيعة الحال الأمر الذي ساعد الجبهة الإسلامية علي تنفيذ انقلابها المشئوم ، والغريب في الأمر أن عراب الانقلاب كان صهر الرئيس المخلوع ، والأغرب من ذلك أن السيد علي الميرغني رئيس مجلس رأس الدولة كان في إجازة له مع اسرته في احدي الجزر اليونانية في اللحظة التي تم فيها الانقلاب .

نفس السيناريو يتكرر الآن ، فالبرهان الذي تم ترقيته في عهد البشير ، والذي سبق وأن كون مليشيا الجنجويد السيئة الصيت صار باتفاق القوي السياسية رئيسا لمجلس السيادة ، و البشير الذي اتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أدين فقط في جرائم فساد وحيازة نقد أجنبي ، و أودع في إصلاحية . و المليشيات التي اتهمت بفض الاعتصام أصبحت شريكة لقوي كانت تدعي أنها تمثل الثوار .  و حتي هذه اللحظة لم يتم حل جهاز الامن الوطني الذي تورط في قتل الابرياء ، ولم يفكر الائتلاف الحاكم في إلغاء القوانين الدينية أو حتي مؤسسات النظام السابق . كما لم يحاكم معظم قادة المؤتمر الوطني .

لم يحدث ذلك ، و السئ في الأمر أن نفس القوي التي كانت لوقت قريب تتحدث عن قضايا الهامش أصبحت أكبر مهدد لعملية السلام ، ولو انها اعترفت في وقت سابق أن السلام لا يكون دون مخاطبة جزور الأزمة والتي شخصتها في التهميش والتفاوت والاضطهاد العرقي و الديني _ ترفض الآن قبول أي مطالب أو مقترحات مقدمة من قوي الهامش .

و ما أشبه الليلة بالبارحة _ففي ديسمبر الماضي تصدي شباب شجعان يدفعهم حب الحرية و الوطن لمليشيات الجبهة الإسلامية بعد معارك إستمرت عدة أشهر واضعين بذلك نهاية اعتي ديكتاور مر علي تاريخ البلاد . كان كشة وعظمة ورفاقهم يحلمون بوطن يعمه الحب والسلام .

و لكن القوي التي دخلت مارثون الثورة في اللحظات الأخيرة ، نجحت في اختطاف إرادة الجماهير ،  واجهضت حلم الشهداء باتفاقها مع القتلة ، و كونت نظاما هجينا لا هو عسكري أو مدني . فاتحة بذلك الباب واسعاً لانقلاب آخر .

وقد بدأت بوادر هذا الانقلاب تلوح في الأفق ، صراعات عرقية في الشرق والغرب ، وانفلاتات أمنية بالخرطوم ، و ابتذال فكرة المدنية في التحرش الجنسي ، و الكحول مع مواجهة المواطنين بالسؤال : دي المدنية الدايرنها  . و المتتبع لتاريخ معظم الانقلابات العسكرية في السودان يجد أنها تمت باسباب تتعلق بانهيار الأوضاع الأمنية ، والاقتصادية ، و هو ما يحدث الآن بالضبط .

و لكن قد يبدو السؤال ملحا _ ما الذي يمكن أن يجنيه الاحزاب من انقلاب قد يبدو للوهلة الأولى أنه ضد مبادئها ومصالحها ؟.

قلت في احدى الفقرات أن المركز هو مجموعة الصفوة ، و هذه الصفوة هي بالتأكيد بعض زعماء الأحزاب السياسية ، قادة الجيش ، و رجال الأعمال .

هذه الصفوة تخشي من أي تغيير يحدث بالبلاد ، لهذا فهي تحرص على وجود نظام قابض يحمي مصالحها .

معظم قادة الأحزاب باستثناء قلة منهم _ لم يتضرر من الإنقلابات التي شهدتها البلاد ، في لحظة ما كانوا شركاء للديكتاتور ، و كان أبناءهم أما وزراء في عهد الحكومات الديكتاتورية ، أو ضباطا في الأجهزة الأمنية ، و  مع أن أحفادهم كانو يجاهرون بانتقاد الديكتاتور إلا أنهم لم يقبعوا في المعتقلات لأعوام ، ولم  يغتصبو أو يقتلو كما حدث للكثير من شهداء الحراكات الثورية.

الذين اغتيلوا في عهد البشير هم أبناء الأسر البسيطة ،  لم يحدث وأن سمعنا أن الأمن اغتال نجل أحد القيادات ، ولم نسمع أيضاً أن احدي نسائهم اغتصبت مثلما حدث للناشطات في محيط القيادة العامة ، ولم نسمع أيضاً أنهم وقفوا في صفوف الخبز او الوقود ، ولم نسمع أن أحدهم مات لأنه لا يمتلك “حق” العلاج …فما الذي يجعلهم يستميتون في الدفاع عن الأنظمة المدنية ؟.

 

أحمد داؤود

[email protected]

‫2 تعليقات

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..