مقالات وآراء سياسية

طرحت ماريا الصغيرة سؤالاً كبيراً: الكهربا ما بتقطع هنا مالو؟!

عثمان محمد حسن

* إسترعت (ظاهرة) عدم انقطاع التيار الكهربائي في أمريكا انتباه ماريا بعد مضي أيام قليلة لوصولها أمريكا بلدها الثاني الذي لم تره مذ وُلدت في أمدرمان عاصمة السودان الوطنية.. فسألت ماريا ، ذات الأربعة ربيعاً، أباها ببراءة فيها من قوة ملاحظة الأطفال النابهين الكثير :- “الكهربا ما بتقطع هنا مالو؟!”

* وظل سؤال الطفلة ماريا يطاردني منذ هاتفني ابن أخي، والد الطفلة، وأنبأني عن تساؤلها ذاك، فضحكتُ ضحِكاً كالبكا، وتوغلتُ في سؤالٍ مونولوجيٍّ معاكس :- “والكهربا بتقطع هنا في السودان مالو؟!”

* ومن ما وراء الورائيات أبصرتُ مأساة السودان في دُغُل التاريخ تتوقد وأزماته المتراكمة تتوهج منذ صار السودان (سوداناً للسودانيين)، وشاهدتُ السودانَ مجزءاً في هويات وإثنيات وعشائريات ملغومة.. وحكامه يرسمون الخارطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على أعمدة ملونة بالقبلية والعنصرية المستدامة، والأعمدة منصوبة في الأحياء والميادين والشوارع والدواوين الحكومية..

* كان التمكين والتهميش العنصري شبه الممنهج يتبدى في غُلواء المتأسلمين على مقربة من شطط العروبيين.. والبلد تنزلق نحو الهاوية.. والعروبيون لا يروون سوى الهوية العربية في السودان.. والكيزان لا يرون سوى الهوية الاسلامية فيه.. ويأتيك من أقصى المدينة كوزٌ عروبيٌّ قحٌّ يؤكد لك أن هوية السودان ليست عربية فقط، بل هي عربية-إسلامية.. ويقذف بالهوية (السودانوية) في وجهك، دون أن يخشى رد فعلك.. فالسلطة الحاكمة سلطته.. والبلد مملوكة لهم.. وضغيتك عليهم تكبر!

* لا تسلني عما تمخض عن كل ما كان يجري من تربية للأحقاد والضغائن، ظاهرها وباطنها.. ولا عن إعلام الطيب مصطفى وحسين خوجلي .. ولا عن أغنيات (القونات) الهابطة بالهوية السودانية إلى أسفل سافلين، والمؤججة للقبلية والعنصرية والجهوية في صالات الأفراح وليالي الأحياء الملاح.. وجماهير الحفل يرقصون في لا مبالاة، ومستجدو النعمة ينثرون الجنيهات والدولارات على (القونات) دون أن يخشوا الفقر..

* وقيم العمل المنتج تتهاوى والفشل السياسي يتفاقم.. واضطراب الهوية يتعاظم.. وتصدعات وأخاديد في النسيج الاجتماعي تكبر وتكبر.. والتنمية تتراجع إلى الوراء..

* هذا هو السودان الآن!

* أما في الماضي، فبرغم ما كان فيه من بعض الحسنات، إلا أن الحكام كانوا يبذلون من الوعود (للآخر) السوداني ما يعلمون أنهم لن يوَّفُوها.. ويعقدون المواثيق والاتفاقيان مع آخرٍ (آخر) وفي قرارة أنفسهم نقضها مسبَقاً.. لأنهم لا يريدون أن يتحصل أي مواطن (آخر) على حقوقه المسلوبة بما يقلص امتيازات الحكام وامتيازات ذويهم من سلطة وثروة..

* وتحدث مولانا أبيل ألير في كتابه (جنوب السودان : التمادى فى نقض المواثيق والعهود) عن تمادي حكام السودان في التلاعب بالمواثيق والعهود التي عقدوها مع الجنوبيين منذ استقلال السودان، ونقرأ في كتاب نقض المواثيق والعهود نوايا ميكيافيللية مخططة لعدم المساواة بين السودانيين
!Systematic inequality

* إن من حكموا السودان، على إطلاقهم، يرون في السياسي السوداني (الآخر) إنساناً ساذجاً لا حول له ولا قوة للاعتراض على التسويف والمماطلة.. ويرون فيه ( كديسة)لا تلبث أن تجد نفسها أمام الأمر الواقع.. فتُضطر لقبول ما يقدم لها من طعام، وهي صاغرة..

* لم يكن السياسيون الذين حكموا السودان، والذين يحكمونه اليوم، بعيدي النظر كما كان شعراء الحقيبة من أضراب السفير الشاعر يوسف مصطفى التني، البعيد النظر visionary، لدرجة التنبؤ بما سوف يحدث في السودان ما لم يستمسك السودانيون بعروة الهوية الجامعة.. وتجلت في قصيدته الوطنية (في الفؤاد ترعاه العناية) صورة ما نشاهده الآن في السودان، إذ جاء فيها:-
” نِحنَا للقومية النبيلة
ما بْنَدور عصبية القبيلة
تربي فينا ضغائن وبيلة
إنشالله تسلم وطني العزيز”

* لقد فعلت العصبية، ولا تزال تفعل، فعلتها في سودان اليوم تربّيةً للضغائن الوبيلة، تحركها الجاهلية الأولى المتحكمة في الحياة اليومية تمكيناً وتهميشاً، والمانعة لبلورة الشعب السوداني في قومية جامعة متآلفة غير متنافرة، رغم تنوع كياناتها..

* لما بلغ تهميش المتأسلمين العروبيين ل(لآخر)، داخل بيت الكيزان، مداه لم يجد المرحومان د.خليل إبراهيم ويحيى بولاد بُداً من اللجوء إلى هويتهم الفرعية وحمل السلاح ودخول الغابة موجهين سلاحهم ضد (إخوانهم) المتأسلمين في المركز بعد أن كانوا يوجهون نفس السلاح ضد ((الكفار)) في جنوب السودان القديم..

* إن طغيان الهوية الفرعية على الهوية السودانية الجامعة، هي التي جعلت الكهربا تقطع في السودان الذي لم تكن ماريا تعرف من البلدان غيره.. السودان الذي كانت تعتبر ما يحدث فيه معياراً لما يحدث في البلدان الأخرى!

* ستون عاما ونيف والحروب تستنزف موارد السودان المادية والبشرية منطلقة من الضغائن الوبيلة لدفع المهمشين لتحقيق هوياتهم الفردية بدلاً عن الهوية الجامعة..

* وتمت عسكرة الاقتصاد السوداني وتعطيل التنمية خلال الثلاثين عاماً الأخيرة لتوجيه الاقتصاد كله للمجهود الحربي..

* وخلق البشير دولة الجنجويد داخل دولة السودان، وتركها تنهب ما تنهب من ثروات البلد، حتى صارت أكثر ثراءاً من دولة السودان وماليتها أكثر من مالية دولة السودان.. ولديها من العملات الأجنبية ما يفوق ما لدى دولة السودان، علاوة على أملاكها الخارجية من شركات وضياع..

* وإلى جانب أموال الجنجويد أموال هربها الكيزان إلى الخارج، أموال كفيلة بإنارة كل مدينة وكل قرية في السودان على مدار اليوم، ولكن ، لا علاقة للكيزان بالوطن والوطنية.. وقد قالها علي عثمان محمد طه صراحةً في إحدى اللقاءات الجماهيرية، قال:- ” نحن أمميون، و فسروها زي ما عايز..!”

* إن ما فعله الكيزان في السودان لم يفعله النجار في الخشب!

* ملايين النازحين في الداخل وملايين مثلهم لجأوا إلى الخارج.. إكتظت العاصمة القومية بالنازحين تعطلت التنمية في مناطق النزاع المسلح.. وزحفت العطالة بكثافة إلى المركز.. والرأسمالية الكيزانية الطفيلية تلعب مع الشعب السوداني في الأسواق لعبة القط والفأر وبيدها قنوات توزيع السلع وتيسير الخدمات.. ورائدها الثراء السريع..

* والقانون في غياب.. والطبقة الوسطى مَواتٌ.. ولن تجد اقتصاداً سوياً في أي بلد إذا لم تكن في ذلك البلد طبقة وسطى..

* ماذا أقول للحفيدة ماريا و(الكهربا قاطعة) الآن وبطارية الهاتف على وشك النفاد؟!

* سأقول لها: لقد طغت الهوية الفرعية على الهوية السودانية الجامعة، فانقطع التيار الكهربائي في السودان يا ماريا!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..