مقالات وآراء

سحر المكان وعبقرية الزمان (2)

د. السموءل محمد عثمان

 

مشهد ثاني
موسم الشوق الحلو
إذا زرت كسلا في فصل الخريف ، لرددت مع الدوش أُمتع نفسي بالدهشة والخريف في كسلا كرنفال للفرح والتلاقي ، ولعشت فرحة أهل الوريقة بقدوم نهر القاش ، يحمل تباشير الخريف لأهل كسلا ، لذا يهرع كثير من الشباب لذلك اللقاء الجميل لملاقاة العزيز والحبيب ، هذا الحبيب الذي ربما تمادى في شوقه وحبه فماج وهاج وفاض .
إن كنت بعيداً من كسلا حزمت حقائبك وقصدت أرض القاش تمني النفس

بالاستمتاع بجمال الطبيعة والخضرة ، لتعيش مع تساؤل الحلنقي بلاهي ياالطير الخضاري مالو ساب أهلو ودياره .. حيث تنزل الأمطار صباحاً ونهاراً ومساءاً وكأنها تغسل رهق السنين من وجه سيدة الحسان وتجدد شبابها ، لتذهب الشمس في إجازة ليوم أو يومين ، وتغطي السحاب والغيوم قمة جبال كسلا في منظر بهيج، يأخذك ذاك المشهد فتظل في المتابعة ، إصرار الجبل للخروج والظهور للعيان ، لكن تعود السحب لتغطيته مرة أُخرى ، وربما يستمر ذاك المشهد لساعات وساعات ، ذاك السباق المستأثر بعوامل المُناخ ومن وراءه (سبحان الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير) بدون أن يكون فيه للإنسان دور غير المتابعة والمشاهدة .

ربما استقليت في سفرتك هذه القطار أو البصات ، عرفنا السفر ببص الهلال ثم البص السريع الجديد وإكسبريس حلفا ثم كان الفصيح من القول والأحدث من المركبات ، ولكن كان للقطار رونقه وسحره ، متعة السفر بالقطار تضاهي أي متعة أُخرى ، وجمال صفارة القطار لإعلان التحرك أو دخول محطة ، تحفظ المحطات عن ظهر قلب وأنت تستعجل الخطى للوصول لعناق الأم الرؤوم كسلا ومن بعيد تغازلك جبال التاكا وتتراى لك ، ولكن كلما تقترب تشعر بأنها تبتعد منك ،تسابقك وتجعلك تشتاق للقيا وبدل وبتيه تبتعد ، تُكمل في مفاتنها وأنت تُعجل لخطاوي الشوقِ بلهفة وبجدِ تلاقي القاشَ عيون الناسِ حديث الألفة والطيبة والسردِ.

ولكن إذا كنت مسافر من كسلا ودعتك ب
حتى السواقي بكت معانا
وشاركت في وداع قطارو
فارق أرض القاش وروح خلى أرض القاش حزينة
تاني ضحكتو ياحليلا
البتملأ بيتنا زهور وزينة
وياحبايب الريد قطارو
أخرو شوية لينا وماذا تتوقع غير هذا الوداع من أُناس (كان الولف عندهم كتال) ومين المابيعرف طيبة شباب كسلا
أُناس يغنون مثل هذا الكلام

أوسدك قلبي وأرعاك بعينيا
فماذا تبقى بعد هذا والقاش هو الشريان الذي يغذي كسلا ويهبها الحياة.
طوال فترة جريان القاش تتميز المدينة بالأجواء الخريفية الرائعة ، ويزيد من مناسيب المياه الجوفية في المدينة وتقوم عليه الزراعة في دلتا القاش الذي يعتبر من أخصب أنواع التربة في العالم ، وهذا ماعجزت عنه الحكومات أن تعمل على الاستفادة المثلى من تلك المياه ، وتزيد من الفترة  الزمنية للزراعة في الدلتا ، هنا تكمن التنمية للمنطقة .
تستقبل كسلا بكل حفاوة ضيوفها من زوار وعرسان خلال هذه الفترة ، وتفتح سواقي كسلا أبوابها لضيوفها بكل الكرم وطيب الخاطر، ليعرفوا كيف كتب الحلنقي لون المنقة الشايل المنقة ماعارف كيف نحن بنشقى نسالموا يرد بمحنة وذوق والغيمة الفوقنا صفاها يروق
ومن ضيوف كسلا أيضاً في تلك الأيام أهل بورتسودان الذين ياتوت كسلا لإرتفاع درجة الحرارة هناك . لعل كسلا من المدن التي كانت الأغاني لها في خانة الأغنيات السياحية ، إذ تذهب بك الأغاني للتعريف بأحياء كسلا وسواقيها وقاشها ، فتطوف بك أحياء كسلا ومناطقها المختلفة مثلما غنى عبدالعظيم حركة
القاش مناظر وجبالك عجيبة طال مافيها روحي كيف أقدر أسيبا
ترقد في جبال التاكا الأبية
توتيل والحلنقة والميرغنية
السوريبة روض رضوان هدية القوازة زهرة تتفتح هدية أرض الحباايب يارمز المحنة في واديك ولدنا ضقنا حنان أهلنا
من معالم كسلا ميدان الجمهورية الذي يقام فيه الإحتفال بالمولد النبوي الشريف من بعد ميدان مدرسة الأهلية جوار السينما الوطنية ثم تم نقله للضفة الغربية بكسلا . لعل ذكرى المولد تولد في النفس شجون وشجون في أيام الطفولة والصبا ، وتطوف بك الذكرى مع أبيات محمد المهدي المجذوب

ليلة المولد ياسر الليالي
وهنا حلقة شيخ يرجحن
يضرب النوبة ضربا فتئن
وترن ..
صل يارب على المدثر وتجاوز عن ذنوبي وأغفر
وأعني ياإلهي بمتاب أكبر
ليلة المولد ياسر الليالي
والجمال
أسس ميدان الجمهورية في عام 1973 أبان عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري حيث كان الإحتفال بعيد الاستقلال من مدينة كسلا ، وكان الإحتفال بعيد الاستقلال يتم كل عام من مدينة من مدن السودان .
أيضاُ في ذاك العام تم تشييد ميدان الجمهورية ومسرح تاجوج وتوسعة دار الرياضة حيث تم تشييد اللوحات الخلفية تشكل مسطبة التشجيع الداوي في أستاد كسلا في المباريات ، والميرغني والتاكا قمة الكرة بكسلا لم يسلموا من الفرق الأُخرى ، فتجرعوا الهزيمة مرات ومرات من فرق القاش والشباب والمريخ والأهلي الذي لعب له دكتور محمد حسين كسلا وانتقل من بعد لفريق الهلال العاصمي وارتبط اسم كسلا باللاعب أثناء تواجده في الملاعب وحتى بعد اعتزاله ، وهو يعتبر من نجوم العصر الذهبي للكرة السودانية .

كثير من الناس يخبرونك أن أجمل أيام العمر كانت بكسلا ، عاشوا تلك الأيام بكل ألوان الفرح وجمال الحياة كانت المدينة تتنفس طيبة و تتجمل ذوقاً وسحرا، وكان الأمل فارد جناحه ديمة في عينيها مسافر، وفرحة ليالي الريد ونداوة البسمات ، كانت الأمسيات جميلة مناسبات كسلا وأعراسها ، ومنتدياتها نادي المعلمين ومسرحها والسينما ، ومن جلسوا بين النجيلة والريفيرا يستلهمون سحر المدينة الشاربة من لون الشفق عند المغارب .

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..