الجان، السلطان، الأسطورة محمود: الحوت والحواتة (2-3)

رباح الصادق

ألا رحم الله الفنان محمود عبد العزيز الذي فارقنا في 17 يناير الجاري وهو نفس تاريخ رحيل قمة فنية أخرى (مصطفى سيد أحمد)، كان مصطفى قمة التجديد في المفردة ومحمود قمة التجديد في الأداء اللحني كما ذكرنا في مقالنا الأول. يلقبه محبوه بالحوت، بعض الناس يقول إن ذلك تحريف للقب (حودة) وهو تدليل لاسمه، ولكني أحب أن أنظر للقب كتصوير لمكانته في الساحة الفنية: حوت بين محار وساردين، أو تبلدي بين طلح وهشاب. وصار محبوه يلقّبون بالحواتة.

الحواتة قوامهم الملايين، زرعهم وحصدهم محمود بكدحه، فقد صمد وانتشر رغماً عن الذوق الرسمي المتوجس، حملته شرائط الكاسيت في المركبات العامة، والركشات، وصدحت به الكافتريات ومحلات الأسواق، فحيثما وجد شباب كان صوت محمود، تماماً مثلما انتشر قبله مصطفى رغم جفاء وسائل الإعلام. وفي النهاية فرض محمود نفسه وصارت تلك الوسائل تستضيفه لا كموهبة تقدمها للجمهور (نجوم غد) ولكن كـ(نجم متقد) فرض شعبيته بدونها.

قلنا إن محمود كانت له رسالة فنية واضحة، وإنه كان خيّراً محباً للضعفاء، حتى قيل إنه كان يفرد يوماً دورياً للمشردين «الشماشة» فيجالسهم ويخالطهم ويؤاكلهم ويضاحكهم. وهناك المقطع الشهير في الشبكة العنكبوتية والذي شاهده أكثر من ثلاثمائة ألف شخص، حينما احتفى بذوي الاحتياجات الخاصة معه في خشبة المسرح وجالسهم مغنياً بينهم فبكى جمهوره. كذلك يوم أن قذف رجل حفظ الأمن بأحد معجبيه من المسرح امتنع محمود عن الغناء ولم يواصل إلا بعد تلقي المقذوف اعتذاراً، قال فيما أوردت الصحف: (جمهوري خط أحمر). وحكى الشاب الذى تم قذفه كيف غادر محمود المسرح (ليجلس خلف فرقته الموسيقية وهو في قمة غضبه( وكيف جاء له رجل حفظ النظام بعدها معتذرا و(قادني نحو المسرح ليعانقني محمود عبد العزيز وقمت بتقبيله على رأسه وإحساس عالٍ من الفرحة يغمرني ما جعل عينى تمتلئان بالدموع لموقف الحوت الشهم الأصيل الذي لا يرضى لجمهوره الإساءة والمعاملة التي تجرح شعورهم وهذا إن دل على شئ إنما يدل على إنسانيته). كان يعامل الجميع باحترام ومحبة وتواضع. وبهذا أثقل محمود موازينه، ونسأل الله له عيشة في الأخرى راضية، قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي المِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسن الخُلُق، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الخُلًقٍ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ».

ولهذا ولحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم رثاه أحد الحواتة المريخاب بوصفه (الشيخ محمود) قائلاً (بتصرّف وتحرير): (محمود الإنسان المتصوف يُرجى خيره ولا يُخشى شره ولا يؤذي من أذاه ولا يجفو من جفاه، كالنخلة تُرمى بالحجر فترمى بالرطب، وغناؤه وصايا وحكم وفلسفة فنية، محمود كالأرض يُطرح عليه كل قبيح من إشاعات واستفزازات ولا يخرج منه إلا المليح. تلوح أنوار صدق فنه على ظاهره، ويكاد يفصح ما يرى على وجهه ما يضمر فى سرائره، سعيه وهمه فى رضاء كل الناس وخدمة كل الناس وفى رضاء مولاه، وحرصه ونهمته ونصرته للنبى صل الله عليه وسلم).

أما عن عمل الخير فتروى في ذلك روايات أشبه بالخيال، كانت ثروته الضخمة من ريع فنه الذي لاقى شعبية أسطورية تذهب جلها للآخرين، للأيتام، للعجزة، للمعاقين، لكأنه كان منظمة خيرية كاملة، والجزء المتبقي كان يصرفه على أصدقائه المقربين، والمطلع على تعليقات القاعدة العريضة من المحبين في مقاطع (أنت تبثه: يوتيوب)، يتأكد من ضجر تلك القاعدة منهم، وكأنهم يعتبرون العلاقة بينهم وبين محمود كما بين الحوت والحواتة الذين يصطادونه ويعيشون على لحمه، بينما قاعدة الحواتة العريضة كانت تعيش على فنه. فكم من معلق (لولا الحوت لتركت السودان) أو (إنما نعيش عليك يا حوت). وهذه العلاقة الأخيرة التي تجمع بين الحوت والحواتة ما زالت سراً يحتاج للدراسة كما قال الأستاذ هيثم كابو في قناة النيل الأزرق، وما أشار إليه الشاعر الأستاذ إسماعيل الإعيسر الذي ذكر مقومات شعبيته الفنية وقال ربما حولها سر آخر، أما الأستاذ أزهري محمد علي الذي كان يتحدث لإذاعة (البيت السوداني) يوم الفقد الأليم فقال إنه يظن الصدق هو سر هذه الشعبية كما كان صدق مصطفى سر شعبيته الباتعة. هل بسبب فنه، أم صدقه، أم حزنه، أم خيريته، أم إنسانيته المرهفة، أم وفائه الأسطوري لجماهيره وأصدقائه، أم تواضعه الجم وعرفانه للآخرين، أم صموده برغم تعرضه للظلم ومحاولات التدجين والتطويع والكسر المستمرة؟ الله أعلم.

وعلى ذكر الصمود، لطالما نظرت لشعار الحواتة الذي يرسمونه برفع أيديهم مخلوفة على أنه يرسم بأجسادهم كلمة «لا»، وهي كلمة لها سحرها في جيل الشباب، فماذا يعني الشباب إذا لم يسع للتغيير وإذا لم يرفض واقعاً مذلاً؟ كان أمل دنقل من قبل تخيل «كلمات اسبارتكوس الأخيرة» تمجد الرفض لدرجة قوله: المجد للشيطان معبود الرياح/ من قال لا في وجه من قالوا نعم/ من علّم الإنسان تقديس العدم/ من قال لا فلم يمت وظل روحاً أبدية الألم! والحقيقة أن الشيطان كان حسوداً لم يرد للإنسان تكريماً، كان متكبراً صلفاً، والرحمن هو الذي علمنا أن نرفض الانصياع للمتكبرين ونرفض الذل والاستعباد والاستضعاف، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا). فكأنما الحواتيّ باتباعه ذلك السبيل يرفض، ويجد لنفسه في أرضه مستقراً من العزة كونه لم يقل «نعم».

وربما لذلك، ولمفارقة الحواتة خطاب المشروع الحضاري جملة وتفصيلاً، صنّف الحكام الحواتة كجمهور عدائي حتى بدون أن تكون لهم مواقف سياسية تمد حبلها للطيف المعارض، خاصة اليساري منه الذي دائما ما يتبنى الفنانين ويجيّر مواقفهم السياسية لشعاراته.

لكل الأسباب المذكورة آنفا أو ربما لأسرار لم يدركها أحد بعد صار تعلق الحواتة بالحوت مسألة وجودية، فلا يتحقق للحواتي ذات إلا بالحوت. عد البعض هذا دليل على فراغ الشباب وخلو أفئدتهم من الجادة، وعده آخرون من السائحين وغيرهم مسماراً أخيراً فوق نعش المشروع الحضاري. ونعده دليلاً على بؤس حال الشباب وتعلقه برسالة فن وحب وتضامن تروي ظمأه للوجود وللرفض.
يزخر غناء محمود برسالات المحبة الأبدية، والحزن النبيل، والتعلق الشديد فكأنما جزء مقدر من غناء محمود يناسب هذه العلاقة بين الحوت والحواتة، وحينما رحل طفق حواتة يستحضرون مقاطع غنائه في سياقها وخارج سياقها.. صوّرت بعض الفضائيات مشهداً من مشاهد الحزن لـ»ركشة» معلقة بها لافتة قماشية مكتوب عليها: «نحن ما درنا الفراق البيهو جيت فاجأتنا» وهي من أغنية بعد الفراق التي إنما قيلت في وداع فظ ما بعده تلاقٍ أو حنين (بعد الفراق، ما عدت تاني تهمنا) وهي تماما كأغنيته الشهيرة (في ستين) إنما تقلب صفحة المحبة لجفاء، ولا تناسب لو سألني الحواتة مناسبة فراق الحوت!

طبع حواتة آخرون (سكت الرباب) وهي أغنية للشاعر الأستاذ عماد الدين إبراهيم لكأنما تصف هذا الرحيل المر لرباب سكت قبل أوانه (سكت الرباب قبال يقول غنواتو بي شوق يهمسا). بعضهم استلف من أغانيه ليرثيه في الأسافير: (وحات الريدة يا أسمر، فراقك ثانية ما بنقدر)، و(منو القال ليك بنتحمل فراق عينيك). بعضهم بكى نهاية (الحلم الجميل)، وهكذا.

وبعد رحيل الحوت، يقع على الحواتة عبءٌ عظيم، فعليهم أن يوجدوا في فنه ويبرزوه للأجيال القادمة ويبذروا بذوره في أراضٍ لم تطأها قدمه بأسباب المعاصرة التي كثيراً ما تكون حجاباً، وذلك ليظل (محمود في القلب)، وقد هتفوا يوم التشييع: محمود حتى نموت، لن ننساك يا محمود، الله، الوطن، محمود. ما بنفوت بدون الحوت ..الجان الجان ملك السودان. وكتب أحدهم قائلاً (سأظل حواتي حتى مماتي).. وعليهم أن يتعاونوا مع أسرته في دعم مركز محمود عبد العزيز العالمي لتستمر مناشطه العظيمة من نصرة للرسول صلى الله عليه وسلم، وتكريم قامات الفن والإبداع السوداني.
نواصل بإذن الله،
وليبق ما بيننا

الرأي العام

تعليق واحد

  1. الغناء غير !
    حَرام, مُعظمه
    حنان وإبتِسام
    جمال ووئام,
    حُب وسلام

    فيه الرّاقى
    يبعَث الإلهام
    ويدَغدِغ الأحلام
    وفيه الغير
    جدير بالإحترام

    السِكّين مُمكن تقتل
    أو تجَهِّز الطّعام
    والبَلَح مُمكن يِغذِّى
    أو يِسكِر تمام,

    فَهَل سَمّينا السِكّين
    أداة إجرام
    أو البَلَح نَبات حرام؟

    الغناء موهبه وهبه,
    حاجه تمام التَّمام
    من رَب الأنام
    فيه شِفاء
    من أسقام

    وسُبحان رب
    الأنس والأنعام:

    حتّى العصافير
    تَغَرِّد بإنسِجام,
    الخيل تتمايَل
    ورا وقِدّام,
    يتراقَص الحَمام,

    وتطرب الأجِنّه
    فى الأرحام
    ******************
    عاطف كمال

    بَعد إستِغفار
    الغَفّار اللّطيف

    أبكى بلداً
    يَتساقَط مُبدِعينها
    كأوراق الخريف
    فى أقَلّ من خريف

    فبعدما نَثروا الإبداع
    والأفراح ألوان طيف
    للقوى والضّعيف
    تَوارَى:
    وردى العبقرى الحَصيف
    الحَردَلّو الفَذ العفيف
    حمّيد المُرهَف ونظيف
    زيدان المُبدِع الظّريف
    محمود الرّائِع الشَّفيف
    ونادر الرّاقى اللَّطيف

    اللهمَّ يارب
    الحقيقه والطِّيف
    إجعل الجَنّه
    لهم ضِفّة وقِيف
    *******************
    عاطف كمال

    أبكى بلداً
    يَتَساقَط مُبدِعينها
    كأوراق الخريف
    فى أقَلّ من خريف

    وفى الجّانِب الآخَر
    من الرَّصيف,
    لِمُضاعَفَة الآلام
    الكأداء والنَّزيف

    يُخَلِّد جَلّادونها
    ثمانون خريفاً ونيف

    ومازالت تَرزح تحت
    كابوسٌ مُخيف
    ثلاثَة وعِشرون
    عاماً أيضاً ونَيف

    ففى ذاتَ
    بائِس صيف
    سَلبوا برائتها
    ودَمّها الخفيف

    تُجّار دِين وتزييف,
    أبناء عاقون
    قول يالَطيف
    جُبِلوا على فسادٍ
    وإجرامٍ مُخيف

    وفى ظلام جهلهم
    الكثيف السَّخيف
    لَم ولَن يفهموا
    أرباب الزِّيف

    أنَّ حتّى تَبَرُّجها,
    دونَ تأليف,

    كانَ قَبلَهُم عَفيف
    *****************
    عاطف كمال

  2. Well said and deep and real understanding to Mahmoud the phenomena who inspired and gave endlessly to his fans up and down the country and beyond, thank you Rabah for this great article and we looking forward to reading No.3. May Allah bless Mahmoud and rest his pure sole in peace and may his legacy spread on and on to eradicate this ugly system for ever because they hated him and the vast majority of the Sudanese people loved him because he deserved to be loved and respected like the way he use to respect others.

  3. والله يا استاذةرباح كفيتى واوفيتى عن الرائع الراحل محمود عبد العزيز ونتمنى ان تواصلى سلسلة كتاباتك عن الراحل وان تستعينى بجميع محطات الحوت وكل من يعرف عنه اى معلومة حتى تعم الفائدةوتعرف عنه كل الاجيال وبالذات نحن خارج البلاد فى بلاد العم سام واطفالنا لايعرفون عنه شيئا سوى انتاجه الموجود فى اليوتيوب ونحن نعيش حالة من الحزن الدفين على فقده الجلل وجزاك الله عنا كل الخير يابنت الامام…..

  4. لا تبالغو في التبجيل .. المرء يحشر مع من أحب
    الا ترى انا نجرف الي هاوية مظلمة بسبب ابتعدما عن ديننا وما عظًم البلاء الا بغاء العباد ،،
    ولي علينا شرار الخلق ..أسأل الله أن يلتطف بنا
    وكلنا الي زوال..هو الآن يسأل لة الرحمة والثبات..

  5. حتى انت يا بنت الإمام ، يا أخيتي ، نقدّر محموداً و اسهاماته وصوته رحمه الله ، ولكن اسمحي ان اقول لك انو (الحواتّه) ديل ، اظهروا وأبانوا مدى هوان شبابنا
    و بؤس حالهم .
    يا ناس (الوطن) يحتضر .. ولا بواكي له ، ولا مهموم بمصيره ، قالوا لنا ان الشباب لم يخرج في وجه النظام لانه (مغيّب) و (محبط)
    و (جاري ورا معايشو) ، ولكن بعد وفاة محمود ، وضح للجميع ان هذا الشباب موجود وقادر على الخروج بكثافه للشوارع كما فعل بالمطار وعند تشييع فنانه المفضّل ..
    في الوقت الذي وقف فيه متفرجاً عند انتفاضه الطلاب وحركات التغيير الشبابيه في يونيو 2012 الماضي وعند مقتل الطلاب بجامعه الجزيرة ، ترك هؤلاء يا بت الامام كما ترك (والدكم) الطلاب والطالبات لكلاب الامن ، بالرغم من دعوته الفطيرة بالخروج والوقوف امام السفارات قبلها بايام .

  6. كفاكم ( حواتة) و ( مواتة ) !!! الله يرحم اخانا محمود عبد العزيز ويتغمده بواسع رحمته .

  7. الحوت فامعجزة فنية لمن اراد الفن وعبرة وعظة لنمن اراد ان يعتبر فالننظر نحن بني السودان كيف المنظراتية ساي كيف جسد لنا هذا الجسد الهزيل المنهك السقيم معني الصمود والصبر وكل فنون قوة التحمل العالية والثبات علي المبادئ والقيم حتي الممات
    فاليتعلم الناس وليعتبرو وليعلمو ملامح الطريق المودية للشواطي التاريخ والمجد
    اخيرا
    هل لنا بمحمود الساحة السياسية فيتغير حال البلد

  8. عزائي فيك
    هو أن لايكون هناك عزاءْ
    عزائي فيك
    ليس صياح ولانياح ولابكاءْ
    عزائي فيك
    هو الصمت ولاشيئ غير الصمت
    إذا غاب حليم من الحلماءْ
    عزائي فيك
    هوالحب إذا حُكم على الحب بعدم البقاءْ
    ماالدمع ؟
    إذا ضمت الأرض رمز الوفاءْ
    ماالعزاء؟
    إذا فارق الدنيا كريم من الكرماءْ
    لاتبكوه !
    فعادة العرب لا تبكي النبلاءْ
    لاتغسلوه!
    فذلك شأن ملائكة السماءْ
    لاتدفنوه!
    فكيف يدفن وهو حي في قلبي
    وعند رب السماءْ ؟
    أنا الذي أغمضت عينيك
    بعد الفراق يا … ؟؟
    والدموع لاتعرف الانتهاءْ
    آه ؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..